الشرق
يحكى أن في ليلة الخامس من سبتمبر عام 2020، اندهش سكان الإمارات القاطنون بين دبي ورأس الخيمة من جسم غامض فريد اللمعان سطع في كبد السماء. في اليوم التالي، خرجت الصحف لتشرح أن الجسم محط التكهنات كان أحد أقمار "ستارلينك"، مشروع الملياردير الأميركي إيلون ماسك لتكوين شبكة إنترنت عبر آلاف الأقمار الصناعية التي تجري في المدار الأرضي المنخفض، على ارتفاع أقل من 600 كيلومتر فوق الكوكب.
أسكنُ في الطابق الخمسين بإحدى ناطحات السحاب التي ترسم خط السماء المعماري الشهير لدبي. حين أتطلع للسماء من شرفة منزلي، لا أرى إلا سواداً قاتماً يحجب النجوم والشهب والأقمار طبيعية كانت أو صناعية. ارتقائي 170 متراً فوق سطح البحر لا يعصمني من التلوث الضوئي للمدينة الصاخبة التي تشخص أبصار قاطنيها بسنا ملايين المصابيح والإعلانات والفلاشات واللافتات والشاشات العملاقة في شوارعها، ورقصات الدرونز والتاكسي الطائر في جوها. لكن خريطة تفاعلية تتعقب أقمار "ستارلينك" تؤكد لي أنها تجري لحظة كتابة السطور فوق سماء المدينة.
تكشف سيرة إيلون ماسك، التي تحمل اسمه الأخير، أن الملياردير كان ضحية تنمر صادم في طفولته. أرسله والده وهو في سن الثانية عشرة إلى معسكر لتعلم مهارات الحياة الخشنة. تعرض هناك للضرب العنيف والمستمر من الأطفال الأكبر حجماً، والذين اعتادوا طرحه أرضاً وتسديد اللكمات لوجهه لسرقة طعامه أحياناً، ومن دون سبب على الإطلاق في أحيان أخرى، حتى أصابه الهزال وفقد 5 كيلوغرامات من وزنه.
كيف أشعلت "ستارلينك" نوعاً جديداً من سباق الفضاء؟
ذهب ماسك إلى المعسكر ثانية وهو في السادسة عشرة. ظل وقتها ضحية للتنمر كونه مختلفاً، على طيف التوحد. لكن هذه المرة، تعلم أن يستجمع كل قواه في لكمة واحدة يوجهها بأقصى ما يستطيع إلى أنف المتنمر حتى يدميها. عنده، سيستمر المتنمر في ضربه، ربما بغلّ أكثر، لكنه سيفكر مرتين قبل أن يهاجمه ثانية.
ربما كانت هذه القصة هي أهم ما جاء في السيرة التي كتبها والتر إيزاكسون. وهي مفتاح فهم شخصية رجل الأعمال الذي يسب كبار المعلنين بألفاظ مقذعة على الملأ، ويقضي ساعات في صراعات طفولية مع غرباء على الإنترنت، وينشر نكتاً سخيفة تستهدف أضعف الأقليات، ويتقمص خلال ذلك كله دور الضحية الثائر ضد غبن العالم وقوانينه الظالمة، وكأنه لا ينتمي لأغنى 0.0001% من سكانه.
لكن حين صدر الكتاب المهم في سبتمبر الماضي، توقف المؤرخون والصحفيون عند فصل آخر. بحسب الكتاب، فقد خطط الجيش الأوكراني لهجوم مفاجئ وكاسح على الأسطول الحربي الروسي في القرم. وقبل أن تصل المسيّرات المحملة بالقنابل إلى هدفها، انقطع الاتصال الذي كان يعتمد على شبكة "ستارلينك".
لم يكن الجيش الأوكراني يعلم أن مسؤولين روساً قد حذروا ماسك سابقاً من أن أي هجوم على القرم قد يعقبه رد نووي، مما دفعه سراً لأن يُبطل اتصالات "ستارلينك" في محيط 100 كيلومتر من المنطقة.
توسل القادة الأوكرانيون إلى ماسك لإعادة الاتصال فوراً. وفي هذه الرقعة من السماء، وفي هذه اللحظة بعينها، كان ماسك وحده لا شريك له يملك أن يشل القدرات الهجومية لجيش أوكرانيا، أو أن يُنزل عليهم غيث الإنترنت السماوي. وهو في الحالتين لا يُسأل عما يفعل من ناخب، ولا يُعاقب على حكمه من جنرال.
لم يستجب ماسك لنداءات جنرالات أوكرانيا بأن يعيد الاتصال، ففشل الهجوم. قيل قديماً إن الحروب أهم من أن تُترك في يد الجنرالات. وهي اليوم رهن المزاج المتقلب لملياردير نرجسي يعشق الظهور ويدمن الأضواء. فكيف صار بيده وحده كل هذه السلطة؟
نذير البدايات (1990- 1999)
أواخر تسعينيات القرن الماضي، كان تيم بيرنرز لي، مخترع الشبكة العنكبوتية للمعلومات، يحذر من مخاطر سيطرة القطاع الخاص غير المقيدة على مصير الإنترنت.
كان بيرنرز لي عالم فيزياء بالمعهد الأوروبي للبحوث النووية (سيرن) بسويسرا، حين أراد بناء شبكة معلوماتية تمكن الباحثين من مختلف التخصصات على التواصل، وإنشاء صفحات نصية بسيطة يسهل ربطها ببعضها بعضاً لمشاركة كتيبات التدريبات للباحثين الجدد وتشارك المعلومات والأبحاث والأخبار الداخلية. نتج عن جهوده هذه ابتكار الشبكة العنكبوتية للمعلومات عام 1989، التي لقيت اهتماماً محدوداً بين الأكاديميين وبعض محبي التكنولوجيا. في المقابل، كان أغلب الطلاب والباحثين والمطورين ورجال الأعمال يستخدمون شبكة أخرى تسمى "غوفر" أنشأتها جامعة مينسوتا الأميركية.
تسرعت "غوفر" في جني الأرباح من شبكتها ، فسجلت عدة براءات اختراع على أكوادها، وفرضت رسوماً على استخدامها للأغراض التجارية. على النقيض، ضغط بيرنرز لي على رؤسائه في "سيرن" للتنازل عن حقوق الملكية الفكرية للشبكة العنكبوتية، وإتاحتها للجميع مجاناً. وكان يرى في ابتكاره خيراً للبشرية كلها، أكبر من أن يحتكره فرد واحد أو جهة بعينها. وبين عشية وضحاها، هاجر المبرمجون والمستثمرون إلى الشبكة المجانية، فصارت اليوم الوسيلة الرئيسية للاتصال بشبكة الإنترنت.
وفي حين خلق ابتكاره في سنوات قليلة طبقة جديدة من مليارديرات التكنولوجيا -بعضهم مازال يتربع على قوائم أثرى أثرياء العالم حتى اليوم- تمسك بيرنرز بدوره العلمي البحثي، وبعضويته لعدد من المنظمات المهتمة بحوكمة الإنترنت.
الشركات تتسابق إلى الفضاء.. لكن من يسنّ القوانين هناك؟
بعد 10 سنوات من الابتكار الذي صار أكبر من سيطرته، كان بيرنرز لي مثل زرقاء اليمامة، يحذر من عدو لا يراه غيره، ويهتف دون أن يهتم به المستمعون. انتقد بيرنرز لي قرار الولايات المتحدة بخصخصة "سلطة تعيين أرقام الإنترنت" (IANA) عام 1998 الذي حوّل أسماء المواقع إلى سلعة يمكن المزايدة على ثمنها، فاستحوذت الشركات الكبرى على الأسماء سهلة التذكر، ودمرت فرص الشركات الأصغر حجماً في الوصول لجمهور أوسع.
وحذّر من غياب الرقابة على ملفات "الكوكيز" التي تجمع معلومات المستخدمين دون حساب، ومن الخطورة التي تمثلها على خصوصية المواطنين، وعن عدم معرفة أغلبهم بطبيعة ونوع وكم المعلومات التي تتجمعها الشركات عنهم، ومن غياب القوانين التي تحكم كل ذلك. حذر مما أسماها "الاحتكارات الرأسية"، إذ طالب بالفصل القانوني الواضح بين شركات البنية التحتية وشركات المحتوى، بحيث لا تستطيع شركة واحدة أن تمد الكابلات وتطلق الأقمار الصناعية للإنترنت وتسيطر في الوقت ذاته على المحتوى الذي يصل عبرها لشاشات التلفزيون والكمبيوتر، فتسيء استخدام بياناتها في المنع أو الحجب لمنافسيها، أو منح أفضلية لمواقعها في سرعة الاتصال والظهور.
كتب بيرنرز لي وتحدث كثيراً عن قائمة مخاطر قد تحطم الصورة الطوباوية التي تخيل بها الإنترنت، إلا أنه ظل متفائلاً، مؤمناً أن التنافس الرأسمالي أساس الابتكار، وأن منافعه أكبر من أضراره، وأن كل هذه المشاكل يمكن حلها ببعض الجهود القانونية، والكثير من النقاشات حسنة النية حول الأساليب المثلى لإدارة الإنترنت.
أعوام الحماقة (2000- 2019)
يوم 22 أكتوبر 2019، كتب إيلون ماسك على تويتر: "أرسل هذه التغريدة مستخدماً إنترنت ستارلينك". بعدها بسنتين، سيصبح المالك الرسمي لتويتر، مجسداً حالة فريدة يملك فيها رجل واحد شبكة إنترنت مستقلة لا تخضع لأي حكومة أو رقابة، ويسيطر في الوقت ذاته على أحد أكبر مواقع التواصل التي عرفتها البشرية- حالة لم ترد في أسوأ كوابيس بيرنرز لي.
بين تحذيرات بيرنرز لي وصعود إيلون ماسك، مر نحو 20 عاماً من التطورات التكنولوجية الكبرى والإخفاقات السياسية المذهلة. آمن الكثير من التكنوقراط أن الإنترنت كفيل بحل كل مشكلات السياسية والاقتصادية، فهو سيقضي على الفقر والجوع والمرض، وينشر الحرية والرخاء، ويرسي قواعد عالم جديد لا يخضع لحسابات الماضي.
راهنت الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ عهد كلينتون، على أن انتشار الإنترنت سيخدم مصالح على المدى البعيد، وأن طبيعته اللامركزية عصية على الرقابة والسيطرة، مما سيجعله أداة مثالية لنشر الديمقراطية الغربية وأسس الرأسمالية. خففت أميركا وحليفتاها كندا واليابان، من قيودها لتصدير تكنولوجيا الاتصالات لغريمي الحرب الباردة قديماً (روسيا والصين). وفتحت الباب على مصراعيه أمام شركات التقنية لتكبر وتنمو دون رقابة أو مقاومة تذكر.
اشتداد المنافسة بين الصين و"ماسك" في سوق الأقمار الصناعية
كانت النتيجة عكس ما أرادوا بالضبط. استغلت روسيا سيطرة شركات أميركية قليلة على كافة مناحي حياة الأميركيين ومعرفتها بأدق خصوصياتهم، فصارت نقاط ضعف كبرى، تستهدفها تارة بهجمات القرصنة وتارة باللجان الإلكترونية التي تشعل المعارك العرقية وتتلاعب في مخرجات الانتخابات. أما الصين، فبنت حول حدودها "السور الإلكتروني العظيم"، وقطعت اتصال مواطنيها بالعالم الخارجي إلا عبر منصات تملكها أو تسيطر عليها، ثم كسرت احتكار "دول المحور" للبنية التحتية للاتصالات من خلال مشروع "طريق الحرير الإلكتروني"، وهي الآن تنافس أميركا في نشر تقنياتها للجيل الخامس من الاتصالات في أفريقيا وأوروبا. في الوقت ذاته، أثبتت التسريبات والتحقيقات المتعددة أن الحكومة الأميركية نفسها لا تملك يداً أخلاقية عليا كي تحاضر الآخرين أو تحاسبهم، فهي نفسها تورطت في تحويل الإنترنت لأداة تجسس واسع النطاق على مواطنيها قبل أعدائها.
قبل "غوفر" والشبكة المعلوماتية وكل هذه الاستخدامات المدنية، بدأت شبكة الإنترنت أصلاً لأغراض عسكرية بحتة في ستينات القرن الماضي، داخل أروقة وكالة أبحاث الدفاع المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأميركية. كان الهدف النابع من مخاوف الحرب الباردة هو إنشاء شبكة اتصالات لامركزية قادرة على الاستمرار حتى لو تدمرت أجزاء من بنيتها التحتية خلال حرب أو قصف نووي مثلاً. ثم عادت الولايات المتحدة لفرض العقوبات تلو العقوبات على شركات الاتصالات الصينية والروسية، وعاد الإنترنت وتقنياته ساحة نزاع وحرب، هذه المرة دون تفاؤل ساذج وشعارات رنانة.
خرائط السماء والأرض (2020- اليوم)
شنت روسيا هجمات إلكترونية شرسة، صاحبت القصف المكثف على مراكز الاتصال الأوكراني، مما دمر أجزاء كبيرة من شبكة الاتصالات في البلاد وحجّم من قدرات مراكز قيادة الجيش من التواصل مع أطرافه. لذا، اتجهت أوكرانيا لإيلون ماسك شخصياً لمساعدتها، وفي حين أن "ستارلينك" ليست الشركة الوحيدة التي توفر الإنترنت الفضائي، إلا أنها الأوسع انتشاراً حول العالم، والأكثر مقاومة لهجمات القرصنة أو التشويش على إشاراتها.
تعتمد "ستارلينك" على شبكة الأقمار الصناعية التي تبث بيانات الإنترنت عبر موجات الراديو إلى محطات أرضية، فترسلها هذه المحطات بدورها إلى أطباق استقبال شبيهة بالأطباق التقليدية التي تلتقط إشارات قنوات التلفزيون.
حدود التكنولوجيا المتاحة الآن تفرض مساحة لا تزيد عن ألف كيلومتر بين محطة الإرسال الأرضي وطبق الاستقبال. ولأن هذه الأقمار تحلّق على ارتفاع منخفض، يحتاج مزود خدمة الإنترنت الفضائي أن يغطي الكوكب بآلاف الأقمار الصناعية في السماء، ومئات المحطات على الأرض ليوصل خدمته إلى كل من يريدها. هنا، تتحول الأفكار التقنية والنقاشات النظرية إلى حلبة صراع جيوساسية. من سيسمح لمن ببناء محطات الاستقبال على أرضه، وإرسال الإشارات عبر سمائه؟ ماذا سيحدث لو طلبت دولة شركة أو دولة أخرى ألا ترسل إشارات إلى المواطنين بأرضها؟ ماذا لو رفضت الأخيرة الطلب ومنحت إنترنت خالياً من الرقابة للجميع دون تمييز؟
تزعم سيرة إيلون ماسك أن الرجل أنشأ "ستارلينك" هذه كخطوة لتحقيق حلمه في استعمار البشر لكوكب المريخ، وأنه كان يدير اجتماعات دورية لتخيل شكل الحياة والحكومة على الكوكب الجديد، وأنه وجد نفسه متورطاً -فجأة- وسط حرب تدور هنا على الأرض.
لا أصدق زعم الكاتب. وبافتراض صدقه، فماسك بالتأكيد تجاوز المفاجأة بسرعة. فبعد أن استمتع بدور المنقذ الأوحد، ومد أوكرانيا بإنترنت وأطباق اتصال مجانية، هدد بأن يقطع هذا الاتصال إن لم يدفع البنتاغون مقابل الخدمة، فرضخوا له صاغرين. ثم رفض ماسك مد خدمته إلى أجزاء من أوكرانيا وقعت خلال الغزو تحت السيطرة الروسية، وشرع في التدخل بالاستخدامات العسكرية المعتمدة على خدمته، ثم أصبح يسخر علنا من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عبر منصته الجديدة "إكس" (تويتر سابقاً).
يتفاخر ماسك منذ ذلك الحين بدوره المتزايد في السياسة الداخلية والخارجية أمام مريديه. يسافر إلى حدود الولايات المتحدة للحديث عن الهجرة غير الشرعية، ثم إلى غلاف غزة ليشاهد آثار هجمات حماس. يعلن بعدها أنه لن يمد القطاع المحاصر بإنترنت "ستارلينك" إلا بموافقة إسرائيل. وبعد بأيام، يحذف من على منصة "إكس" حساباً ساخراً يتقمص شخصية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رغم تعهداته السابقة أنه لن يمارس الرقابة السياسية وسيرحب بالحسابات الكوميدية الساخرة.
يُقر تيم بيرنرز لي بأن الشبكة المعلوماتية الآن لا علاقة لها بحلمه القديم. ويقول إنها صارت مصدراً للانقسام وانعدام المساواة والتضليل بدلاً من أداة لمكافحتها، ويلقي باللوم على سيطرة كبار شركات التقنية ومنصات التواصل. بيرنرز لي في أواخر الستينيات من عمره، وأسس مؤخراً شركة ناشئة تهدف لحماية بيانات مستخدمي الإنترنت وتعيد تخيل علاقتهم بشركات التقنية الكبرى، لكنها لم تلق نجاحاً كبيراً.
الأكيد أن إنترنت اليوم سمح لإسرائيل أن تشتري رابط (hamas.com) وتضع عليه معلومات مضللة ضمن حربها السيبرانية ضد حركة المقاومة الإسلامية. لم يكن هذا ممكن الحدوث لو لم تتم خصخصة أداة تسمية مواقع الإنترنت كما نصح بيرنرز منذ 30 عاماً، لكن فات الأوان.
العهد الآتي
تنطلق السيارة ذات الدفع الرباعي نحو صحراء القدرة شرقي مدينة دبي. ينطفئ صخب المدينة وتغيم أنوارها، وتنكشف السماء عن اللوحة الربانية البديعة. أخرج مع الأصدقاء سماعات الموسيقى وأدوات الشواء والفحم وقطع اللحوم المتبلة لنستمتع بليلة قمرية هادئة. نستخدم بعض تطبيقات الموبايل لنتعرف على أسماء النجوم والأبراج من فوقنا، وأحاول أن أتتبع خريطة "ستارلينك"، علني يحالفني الحظ برؤية أحد أقمارها. لا حاجة لرؤيتها بالعين المجردة، ولا إلى التحديق كثيراً في النجوم كي نقرأ طالع الإنترنت، وندرك أن مستقبله المنظور أبعد ما يكون عن أحلام بيرنرز لي وأنه ملك لماسك ومن هم على شاكلته.
حكومات العالم أمامها خيارات واضحة. بعض الدول منعت استخدام الإنترنت الفضائي بكل أشكاله، وضحّت بالتقدم التكنولوجي مقابل إحكام قبضتها الأمنية على قدرة مواطنيها على التواصل. على النقيض. ودول أخرى سمحت لكل خدمات الإنترنت الفضائي التي يتزايد عددها اليوم بالعمل دون حدود ولا قيود، تاركة أسئلة التشريع والرقابة إلى حين. وبعض آخر دخل في تحالفات مع دول أخرى لإطلاق شبكة إقليمية تتناسب مع ثقافتها وقيمها وقوانينها مثلما يفعل الاتحاد الأوروبي، وبعضها يمد سيطرته من الأرض للسماء، فيطلق شبكة أقمار حكومية تخضع لذات القوانين الصارمة، مثلما تفعل الصين.
وفي الوسط من كل ذلك تضيع أصوات النشطاء التي نادت منذ التسعينيات بالتمسك بالرؤية الأصلية النقية للإنترنت الفضائي، حيث يتعاون العالم في بناء شبكة فضائية عالمية محايدة تخدم الجميع دون استثناء، ودون تمييز، تخضع لأحكام القانون الدولي ومبادئ الحق والعدالة، فتمنح المقاومين أينما كانوا اتصالاً فضائياً دون حساب، وقتما يستجمعون قواهم لمواجهة المتنمر، ويوجهون لكمة دامية في الأنف.