عندما حقَّقت شركات التنقيب أكبر اكتشاف نفطي في التاريخ في بئر "سبيندلتوب " بولاية تكساس الأمريكية عام 1901، كان احتكار النفط الأول في العالم غائباً عن المشهد. وكانت شركة " ستاندرد أويل كو " (Standard Oil Co.)، قبل عقد من الانقسام من خلال قضية مكافحة الاحتكار مقتنعةً بالجلوس بارتياح، والسماح للمنافسين المحليين الأصغر بتأسيس أنفسهم.
هذا تشبيه جيد للصفقات التي أبرمتها شركة "ألفابت إنك " الشركة الأم لشركة " غوعل "مع شركة " نيوز كورب " ( News Corp. )، وناشري الصحف الأسترالية ، قبل التشريع المخطط هناك لتعزيز القدرة التفاوضية للأعمال الإخبارية في التفاوض مع المنصات عبر الإنترنت.
وتتخذ شركة "فيسبوك إنك " نهجاً أكثر تطرفاً، فقد أعلنت يوم الخميس أنَّها ستتوقَّف تماماً عن نشر الأخبار من الناشرين الأستراليين، على خدمة " آخر الأخبار " بـِ"فيسبوك" في البلاد.
التحكم في معلومات الإنترنت
ولم يكن "جون دي روكفلر " يهتم كثيراً بمن أنتج خام النفط الأمريكي، طالما كانت لديه السيطرة على ضخِّ الأنابيب للخام، وتكريره، وتوزيعه. " غوغل " مختلفة قليلاً؛ فمن خلال تقديم منحة (مقابل مالي) للناشرين المنافسين السابقين في قطاع الإعلان عبر الإنترنت ، تأمل الشركة في الحفاظ على جائزة أكثر قيمة، وبالكاد تواجه تحدياً في التحكُّم في المعلومات العالمية عبر الإنترنت وتوزيعها. كما تعمل شركة " فيسبوك " من خلال رفض تقديم تنازلات على تحقيق الغاية نفسها.
ومع ذلك، فإنَّ الأرقام غير المؤكَّدة في حدود 30 مليون دولار أسترالي المذكورة في التقارير الإخبارية؛ هي مبلغ محدود مقارنة بسوق الإعلان الرقمي الأسترالي الذي يقارب 10 مليارات دولار أسترالي. وإلى جانب عائدات شركة " ألفابت "، وشركة " فيسبوك " البالغة 183 مليار دولار أمريكي، و 86 مليار دولار أمريكي في الإيرادات السنوية على التوالي، فإنَّ تأثير الدخل من سوق الإعلانات الأسترالي محدود للغاية.
وكان جوهر ما تطلبه هيئة مكافحة الاحتكار في البلاد من " غوغل "، و "فيسبوك " هو تحقيق المساواة في فرص المنافسة للجميع، ولا تعدُّ شركتا " غوغل"، و"فيسبوك " فقط منافستين لقطاع الأخبار في سوق الإعلانات الرقمية، بل إنَّهم أيضاً موزِّعون مهمون ( للأخبار )، يوجِّهون الكثير من حركة مرور المستخدمين التي تقوم عليها عائدات إعلانات شركات النشر. (توضيح لمبدأ تعارض المصالح: تقع شركة " بلومبرغ إل بي " Bloomberg LP في المركب نفسه، وربما تقرأ هذه المقالة بفضل رابط من "غوغل"، أو " فيسبوك ").
هذا لا يختلف عن البلدان الأخرى حول العالم، بل هو مختلف عن القطاعات الأخرى بخلاف الأخبار. توصف " غوغل " ، على حدِّ تعبير رفعته وزارة العدل الأمريكية في دعوى مكافحة الاحتكار في شهر أكتوبر الماضي، أنَّها "حارس احتكار للإنترنت". وفرض الاتحاد الأوروبي غرامات تقدَّر بنحو 8.3 مليار يورو (10 مليارات دولار) على الشركة منذ عام 2017 بسبب الممارسات المتعارضة مع مبدأ التنافسية.
سوق الإعلانات الرقمية
وتتمثَّل الصورة الحقيقية لعمل لهذه الشركات في قدرتها على أداء دور الوسطاء في سوق الإعلانات الرقمية التي تبتلع على نحو متزايد ميزانيات التسويق العالمية، وتجمع البيانات على كل جانب من عروض مزايدات محسوبة الوقت بالملِّ- ثانية التي تقدِّم المشاهدات للإعلانات عبر الإنترنت. ويرغب مشترو المساحات الإعلانية، ووسائل الإعلام، مثل شركة " جونسون آند جونسون "، وشركة " لوريال إس أيه "
( L'Oreal SA )، بالإضافة إلى مالكي الوسائط الإعلامية، مثل: شركة "نيوز كورب"، و شركة " نيويورك تايمز كو " في الحصول على نظرة ثاقبة داخل هذا الصندوق الأسود، وقد قدَّم التشريع الأسترالي المقترح المشار إليه آنفاً الطريقة التي يمكن أن يحدث بها ذلك.
وبموجب هذه التشريعات، سيسمح للناشرين بالتفاوض كمجموعة مع منصَّات رقمية بدلاً من التفاوض بشكل فردي، مثلما كان من المسموح لأصحاب حقوق الامتياز بالتفاوض محلياً في صفقاتهم مع سلاسل مطاعم الوجبات السريعة، والمتاجر العالمية. وإذا لم يتمكَّن الطرفان من التوصل إلى اتفاق بشأن تقسيم الإيرادات، فسيتعيَّن عليهما تقديم عروض نهائية سرية إلى لجنة تحكيم مستقلة تختار أيهما يبدو أكثر منطقية، والطريقة للفوز بهذه المفاوضات هي أن تكون منفتحاً وصادقاً بشأن قيمة العمل بالنسبة لك.
ومن اللافت للنظر أنَّ التهديد بمثل هذه الطريقة لتنظيم العمل كان عميقاً لدرجة أنَّ " فيسبوك " انسحب من خدمة الأخبار في أستراليا بالكامل.
مفاوضات جادة
واختارت شركة " غوغل "، بعد أن هددت بفعل الشيء نفسه، وإغلاق محرِّك البحث المحلي الخاص بها إلى جانب أشياء أخرى، الانفصال والخضوع (للطلبات الأسترالية ) من خلال عقد صفقات مع الناشرين واحداً تلو الآخر.
وفي مقابل المبلغ الصغير الذي قد تطلبه مؤسسة إخبارية أسترالية لضمان استمرار عملها، تأمل " غوغل " من تلك الصفقات أن تضمن لها عدم اضطرارها أبداً إلى الدخول في مفاوضات جادَّة مع خصم مكافئ لها، أو إنشاء معيار مرجعي لأيِّ محتوى عبر الإنترنت يستحق التعويض المالي.
قد يبدو هذا كأنَّه إزعاج محلي صغير في بلد صغير وبعيد ، لكنَّ استعداد المنصات الرقمية للدفاع بكل قوة عن مراكزها، يجب أن يكون دليلاً على أطماعها، ونقاط ضعفها في جميع أنحاء العالم.
ومن خلال التضحية بقطعة الشطرنج (حصة من السوق) في تكساس ، تمكَّنت شركة " ستاندرد أويل " من الاحتفاظ باحتكارها لبريمة (نشاط التنقيب) قطاع النفط التي كانت مهمة حقاَّ لعقد من الزمان، وذلك من خلال التخلي عن الصراع حول الأخبار الأسترالية، ويمكن لـِ" غوغل "، و " فيسبوك " تركيز جهودهما على الحفاظ على مواقعهما الاحتكارية في الأسواق الأكبر بكثير للحصول على معلومات عبر الإنترنت، وبيانات حول كل شخص يستخدم الشبكة العنكبوتية.
وفي النهاية ، حمل الأمر المحكمة العليا على تحطيم إمبراطورية "جون دي روكفلر "، وتأمل المنصات الرقمية أن تكون قادرة على تجنُّب مصير مماثل.