من الواضح الآن للجميع أن شركة "تويتر" لم تعُد كسابق عهدها، لكن ما لم يتضح بعدُ هو البدائل التي يمكن أن تحل محلها، أو كيف ستبدو السوق خلال سنوات قليلة. وتطرح هذه الفوضى فرصة لإعادة التفكير في الهيكل الكلي لساحة منصات التواصل الاجتماعي.
هناك عديد من المشكلات التي تتطلب حلولاً، إذ إن المعلومات المضللة عن عمد والمحتوى المسيء والتحرش واستقاء المعلومات الشخصية من بين المشكلات التي يواجهها مشغلو المنصات والجهات التنظيمية والمستخدمون.
كانت كل هذه المشكلات موجودة قبل ظهور "ماي سبيس" و"فيسبوك" و"تويتر" و"إنستغرام"، لكن التواصل بين الأصدقاء والغرباء على المنصات الرقمية فاقمها لدرجة أنه حتى أكبر الشركات وأقوى الحكومات لا تستطيع السيطرة عليها. رغم ذلك فإن الحل بسيط، وهو "تقسيم هذه المنصات".
تقسيم الشبكات
الحل ليس تقسيم شركات التواصل الاجتماعي نفسها، مثلما اقترح البعض لشركات مثل "ميتا بلاتفورمز" التي تملك "فيسبوك"، ولكن تقسيم الشبكات التي تديرها هذه الشركات.
فكما يدرك أي أبوين فإن أسهل طريقة لوقف الشجار بين اثنين من الأبناء هي الفصل بينهما. وذلك ما يجب أن يحدث للحد من انتشار المعلومات المضللة عن عمد، وضمان عدم اشتباك النازيين الجدد مع الاشتراكيين، على سبيل المثال.
لكن بما أن ذلك سيقلص أرباحها فإن الشركات لن تأخذ تلك الخطوة. حتى إن استطاعت الحكومات تقسيم "ميتا" إلى وحداتها الأساسية –"فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب"– فمن غير المرجح أن يحد ذلك من تدفق المحتوى المثير للمشكلات.
المحاولات التي جرت مؤخراً للقضاء على انتشار المعلومات المضللة من الداخل أو بالتعاون مع منظمات خارجية كان لها تأثير محدود.
مستقبل محفوف بالمخاطر
روبرت و. غيل، الأستاذ الحاصل على منصب رئيس الأبحاث بمقاطعة أونتاريو في الحوكمة الرقمية للعدالة الاجتماعية بجامعة يورك بمدينة تورونتو، قال لي مؤخراً إنّ "أحد الأمور التي لم تكن فعالة بشكل خاص هي تقصّي الحقائق لكي نخرج من هذه الأزمات. فأنت تنشر حقائق طوال الوقت، لكن المؤامرات تنتشر بسرعة هائلة. والمعلومات المضللة تنتشر بسرعة أكبر".
الفترة التي قضاها إيلون ماسك في "تويتر"، وساد خلالها الاضطراب، تسلِّط الضوء على المستقبل المحفوف بالمخاطر لشبكة التواصل الاجتماعي، إذ يحفز كل اكتشاف حديث العهد اهتماماً جديداً بالعثور على بدائل (في وقت سابق هذا الشهر، تحركت الشركة لتعديل خوارزميات "تويتر" لضمان حصول منشورات "ماسك" على مزيد من المشاهدات).
نتيجة لذلك، تعزز وضع منصات "ماستودون" (Mastodon) و"بوست" (Post) و"كوو" (Koo) و"ريديت" (Reddit). يُعَدّ ذلك من المفارقات، لأن هذه المنصات –باستثناء "بوست"– موجودة منذ سنوات، وتُعتبر "تويتر"، التي تملك 200 مليون مستخدم، صيداً صغيراً مقارنةً بعمالقة مثل "فيسبوك" و"إنستغرام" و"تيك توك"، إذ يضم كل منها أكثر من مليار مستخدم.
ضرورة البحث عن بدائل
تشير فكرة أن التحلل البطيء لمنصة صغيرة نسبياً دفع الملايين من الأشخاص للبحث عن منصات بديلة إلى الضرورة الناشئة للعثور على منصات أخرى، كما تمثل فرصة لاكتساب شبكات تواصل اجتماعي أقل شهرة بعض الزخم.
لكن أكبر تحدٍّ أمام هذه المنصات هو مواجهة منصة أخرى تتمتع بالرسوخ والانضمام إلى الشبكة التي تُفضِّل اللاعبين الأكبر حجماً مقارنة بهؤلاء الأصغر حجماً.
تستخدم "بوست" و"كوو" في ما يبدو نموذج "تويتر"، وهو نظام مركزي متاح للجميع ويسهل الاطلاع عليه واستخدامه. الأمر الوحيد الذي يمنع المنصتين في الوقت الحالي من مواجهة المشكلات ذاتها من وجود المعلومات المضللة وانتشار المحتوى السام هو حجمهما.
تتَّبع منصة "ريديت" نموذجاً قديماً لنشر المحتوى على أساس الموضوع، لذا لا يُرجَّح أن ترى منشورات ترتبط بالنازية الجديدة إن كنت تبحث فقط عن مقاطع فيديو عن القطط.
نموذج "ماستودون"
أما "ماستودون" فهو مختلف تماماً، وقد يصبح النموذج الذي ينجح لفترة طويلة مستقبلاً. ينضم المستخدمون إلى مجموعة ترتبط باهتماماتهم –وتُسمى الخادم– ويدير هذه المجموعة مالك الخادم.
يمكن لأي شخص إنشاء مجموعة وتحديد القواعد الخاصة بهم. إذا وقعت مخالفات فيمكن لمدير المجموعة طرد من ينتهك القواعد. يستطيع كل خادم التواصل مع خوادم أخرى من خلال مجموعة معايير يُطلق عليها "فيديفيرس" (Fediverse)، لكيلا ينفصل المستخدمون والمحتوى بعضهم عن بعض بشكل كامل، لكن إذا أصبح ذلك الخادم مصدراً للمنشورات السامة فيمكن فصله عن البقية.
يُعلِّق غيل قائلاً إنّ ذلك بالضبط ما حدث منذ بضع سنوات. ساهم غيل، وهو أحد أوائل الأكاديميين الذين يقومون بأبحاث عن "ماستودون"، لاحقاً في تأليف كتاب بعنوان "الهندسة الاجتماعية" (Social Engineering)، يرصد تاريخ التواصل بهدف الاستغلال.
نهج لا يحلّ المشكلات
أنشأ "غاب" (Gab)، وهو موقع للتدوين المصغَّر ينتمي إلى التيار اليميني المتطرف، خادماً على "ماستودون" في 2019، وهو ما تسبب في ضجة بين الخوادم الأخرى. قال يوغين روشكو، مؤسس "ماستودون"، حينها إن طبيعة الشبكة اللامركزية تعني أنه ليس بإمكانه الإذعان للمطالبات بإغلاق خادم "غاب".
لكن الخوادم المستقلة كان باستطاعتها الانفصال عن المجموعة التي تحض على الكراهية، وهذا ما قامت به بالفعل. ظل خادم "غاب" موجوداً، لكنه بقي في عالمه الصغير الخاص منفصلاً عن بقية العالم.
للأسف، لا يحل ذلك النهج إحدى المشكلات الكبرى، وهي المحتوى السام والزائف والضار. لا يزال بإمكان النازيين الجدد بث المنشورات العنصرية وتهديد مجموعات أو أفراد آخرين، لكن الهيكل الذي ينطوي على تقسيم المنصات معناه أن المعلومات المضللة لن تنتشر على نطاق واسع.
يقول "غيل" إن ذلك وحده كافٍ لتخفيف أثر أكثر العناصر السامة في شبكات التواصل الاجتماعي، وهو الانتشار السريع. كما يرى أوجه تشابه مع محاولات بعض المجموعات الإرهابية للانتقال إلى الشبكة المظلمة (Dark web) –وهي مجموعة ثانوية مشتقة من شبكة الإنترنت العنكبوتية يصعب الوصول إليها– ثم فشلها في اكتساب الزخم.
الثمن الذي ينبغي دفعه
واختتم "غيل" قائلاً: "ساد كثير من التوتر منذ نحو 5 أو 6 سنوات بشأن وجود تنظيم (داعش) على الشبكة المظلمة، وأن هذه طريقة تجنيد الناس ونشر رسالة التنظيم. لم تتخذ (داعش) تلك الخطوة لأنه لم يكن على الشبكة المظلمة أحد. الشبكة المظلمة صغيرة للغاية وتنظيم خبيث مثل (داعش) سيتجه إلى حيث يوجد الناس".
رغم ذلك فإن هناك جانباً مؤسفاً للأمر، إذ إن إبقاء مستخدمي الإنترنت في مجال اهتماماتهم الخاصة معناه إنشاء غرف صدى تتضخم فيها معتقداتهم، إذ تتفاقم نظريات المؤامرة ويجري تجاهل وجهات النظر البديلة.
يعني ذلك أن هؤلاء الأشخاص سيحظون بفرص أقل للوقوع على اكتشافات جديدة بالصدفة، لكن قد يكون ذلك هو الثمن الذي ينبغي علينا دفعه للحفاظ على استمرار وسائل التواصل الاجتماعي.
ففي نهاية المطاف، إذا لم يستطِع الأبناء اللعب معاً بلطف، فقد يكون من الأفضل ألا يلعبوا معاً على الإطلاق.