بعد أن كانت صناعة أشباه الموصلات العالمية من أكثر القطاعات نشاطاً، تحولت في غضون ستة أشهر لتصبح أكثر القطاعات تضرراً. أدى الانكماش الاقتصادي واستمرار عمليات الإغلاق، للسيطرة على تفشي كوفيد في الصين، واحتدام التوترات في مضيق تايوان وقواعد واشنطن الأكثر صرامة، إلى محو نحو تريليوني دولار من قيمة شركات صناعة الرقائق المدرجة في البورصة.
الآن تعاود هذه الشركات الصعود، في تحوُّل استثنائي. خلال الشهر الماضي أضافت قيمة تناهز 600 مليار دولار، لكن لم يكن الانتعاش موزعاً بالتساوي وسط تسجيل بعض المناطق الجغرافية وقطاعات الإنتاج أداءً أفضل من غيرها.
وجد تحليل أجرته وحدة "بلومبرغ للرأي" لأكثر من 220 شركة رقائق عالمية مدرجة بقيمة سوقية تقدر على الأقل بمليار دولار أن المستثمرين تجاهلوا المخاوف المتعلقة بقواعد الحكومة الأميركية الأكثر صرامة إزاء نقل التكنولوجيا إلى الصين. في الوقت نفسه، كان أداء شركات أشباه الموصلات في ثاني أكبر اقتصاد في العالم أسوأ رغم الخطوات الأخيرة المتخذة لتخفيف سياسة "صفر كوفيد" وتعزيز الاقتصاد المحلي.
أعلنت حكومة الرئيس الأميركي جو بايدن، في أوائل أكتوبر، أنها ستحظر على صُناع الرقائق الصينيين الوصول إلى الآلات والبرامج والدعم المستخدم في تصنيع رقائق بدقة 14 نانومتر أو أكثر. تستحوذ رقائق الـ28 نانومتر أو أكثر حالياً على غالبية قدرات تصنيع الرقائق، لكن القواعد الجديدة تهدف إلى ضمان فشل بكين في اللحاق بالولايات المتحدة وحلفائها. تراجعت أسهم موفري المعدّات والخدمات، مثل "لام ريسيرش" (Lam Research)، وسط مخاوف تخلف الصين عن الركب.
كذلك عانت شركات صناعة الرقائق، مثل "إنفيديا" و"أدفانسد مايكرو ديفيسز" (Advanced Micro Devices)، من فكرة عدم السماح للعملاء الصينيين بعد الآن بشراء المكونات المتقدمة المستخدمة في تشغيل أنظمة الذكاء الصناعي والحوسبة الفائقة. على نفس المنوال، كان من المفترض أن تعطي هذه التحركات شركات صناعة الرقائق المحلية في الصين دفعة، وسط استفادة الصناعة من الدعم الحكومي الهادف إلى تحويل توازن الصناعة بعيداً عن الشركات الأجنبية.
يرى المستثمرون الآن الأمر بشكل مختلف، فقد قفز المتوسط المرجح للعائد لقطاع أشباه الموصلات العالمي بنسبة 21% في الشهر الماضي، ولا يزال القطاع منخفضاً بنحو 30% العام الجاري، ولم تحقق نمواً سوى شركتين بين الشركات المتوسطة والكبيرة، وهما "غلوبال فاوندريز" (GlobalFoundries) و"أون سيميكوندوكتور" (On Semiconductor).
تقود كل من "إنفيديا" و"أدفانسد مايكرو ديفيسز"، بجانب صانعة المعدّات الهولندية "إيه إس إم إل هولدينغز" (ASML Holding NV)، المكاسب. في الواقع، كانت شركات التصنيع الأكبر، التي تزيد قيمتها السوقية على 100 مليار دولار، هي المستفيد الرئيسي من هذا التحول، إذ ارتفعت قيمتها 23.5% في المتوسط. يمكن أن تكون هذه علامة على أن المستثمرين مستعدّون للعودة لكنهم يفضّلون اختيار الأسماء الكبيرة مثل شركة "تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشورينغ" (Taiwan Semiconductor Manufacturing) التي أضافت إلى قيمتها السوقية نحو 70 مليار دولار الشهر الماضي. جدير بالذكر أن الشركات صغيرة الحجم، التي تُعرف بأنها تلك التي تتراوح قيمتها بين مليار دولار و10 مليارات دولار، هي الشركات المتخلفة عن الركب.
يمكن ملاحظة أننا استبعدنا شركة "سامسونغ إلكترونيكس" من تحليلنا نظراً إلى استحواذ أشباه الموصلات على أقل من ثلث إيراداتها على الرغم من كونها صانع رقائق رئيسياً.
قد تكون العلامة الأكبر على عدم شعور المستثمرين بالقلق من اللوائح الأكثر صرامة المتعلقة بالبيع للصين هي حقيقة أن 7 من أفضل 10 شركات أداءً هي من مزودي المعدات أو الخدمات ذات الصلة، لكن قد تصبح هذه الشركات أيضاً ضمن أكبر الخاسرين بعد أن خفضت الشركات الرئيسية، مثل "تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشورينغ" و"إنتل" و"إس كيه هاينكس" (SK Hynix)، ميزانيات الإنفاق للعام الجاري نظراً إلى تخمة المعروض وتدهور التوقعات الاقتصادية.
لكن بدلاً من إلغاء الطلبات، يبدو من المرجح بشكل متزايد أن تؤجل شركات تصنيع الرقائق مشترياتها للعام المقبل تحسباً للنمو طويل الأمد.
على الرغم من أنها أصغر بكثير من صُناع الرقائق التايوانيين والأميركيين في المتوسط، فإن العدد الهائل للشركات الصينية المدرجة يجعل البلاد لاعباً هاماً في أسواق رأس المال العالمية، حتى لو لم يترجم ذلك إلى حصة في سلسلة التوريد.
يرجع هذا العدد الكبير من الشركات الناشئة في القطاع بشكل كبير إلى خطة الزعيم الصيني شي جين بينغ لتعزيز القطاع المحلي، وتزويده بالمعاملة التفضيلية والإنفاق الحكومي. هذا الأمر يجب أن يكون إيجابياً بالنسبة إلى الصناعة، لكن يبدو أن المستثمرين لا يعتقدون أنها ستستفيد كثيراً بصرف النظر عن مساعي الولايات المتحدة الحثيثة لعزل الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم عن بقية العالم.
بخلاف كوريا الجنوبية، التي تعاني من اعتمادها الكبير على أعمال رقائق الذاكرة الأكثر تقلباً، تخلفت شركات أشباه الموصلات الصينية عن الانتعاش بين أقرانها في الولايات المتحدة واليابان وتايوان.
كان الانخفاض الحادّ الذي شهدته أسهُم صُناع الرقائق في منتصف العام الجاري بمثابة تذكير صارخ للمستثمرين والصناعة بعدم اعتبار الاتجاه الصعودي لهذا القطاع أمراً مسلماً به. مع ذلك، مع هدوء الغبار وانحسار التوترات وتجمع قادة العالم مرة أخرى، تظهر نفس أسباب الوقوع في حب الرقائق من جديد، حتى الأزمة المقبلة.