إذا كنت ترغب بمعرفة السبب الذي يجعل أكبر اقتصاد في أوروبا يتخلّف في مجال التحول الرقمي - في الواقع، إذا أردت أن تعرف ما يعيق حدوث التطور في أي مكان بالعالم - ما عليك إلا أخذ رحلة في التفاصيل الدقيقة لقانون جديد في ألمانيا يتعلق بعقود التوظيف.
تلميح: المشكلة لا تتعلق بالأجهزة، ولا بالبرمجيات، بل بالجنس البشري.
مناسبة هذا الحديث هو صدور توجيه من بروكسل يطلب من جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 27 دولة تحديث تشريعاتهم بشأن ما يجب أن يلتزم به أصحاب العمل عند تعيين الأشخاص. وهو تحديث يتعلق بكل شيء من المدفوعات إلى الإجازة وغيرها من الشروط. حيث تغير عالم التوظيف بشكل كبير منذ أن طرح الاتحاد الأوروبي موقفه من هذ الموضوع للمرة الأولى في عام 1991. فكّر فقط بالاقتصاد القائم على المتعاقدين أو العاملين عن بعد أو في العاملين بالمكاتب المنزلية.
لذا فإن التغيير والتحديث التشريعي الجيد أمر منطقي جداً.
العقود الرقمية
تشير تعليمات الاتحاد الأوروبي صراحةً إلى أنه "في ضوء الاستخدام المتزايد لأدوات الاتصال الرقمية، فإنه يمكن توفير هذه المعلومات بالوسائل الإلكترونية" - يا للمفاجأة! - مع توضيح أنه يجب أن يمتلك أصحاب العمل والموظفين خياراً في شكل عقودهم: إما تكون ورقية أو بصيغة "بي دي إف" (PDF) أو كليهما.
المشكلة أن ألمانيا لا تتوافق مع هذه المعايير. إذ أصدرت البلاد للتو قانوناً يحظر تماماً العقود والتوقيعات الرقمية. سواء كنت مبرمجاً يبحث عن وظائف عبر الإنترنت، أو موظف توصيل في "أمازون" أو شخصية كرتونية في قصص "دلبرت" (Dilbert)، بكل الأحوال فإنك ستحصل على نسخة ورقية دقيقة لشروط توظيفك، نعم ورقية وليست رقمية. وسيكون عليها توقيع رئيسك بالحبر. وإذا قدّم أصحاب العمل عقداً رقمياً بدلاً من ذلك، فسيتم تغريمهم بما يصل إلى ألفي يورو (2049 دولاراً أميركياً) عن كل مخالفة.
تحوّل ألمانيا الصعب
بالطبع، هذا النوع من الأمور كان متوقعاً من الإدارات الأربع التي مرّت في عهد المستشارة السابقة أنغيلا ميركل. فخلال 16 عاماً في منصبها، باتت وعود كل حزب رئيسي يربح كل انتخابات ألمانية بالتحول الرقمي أمراً مثيراً للمزاح، وعلى الأرجح أن يظل الأمر كذلك إلى الأبد، وأن التحول لن يأتي أبداً.
لكن كان من المفترض أن تكسر الحكومة الجديدة برئاسة المستشار أولاف شولتس هذا النمط. إذ يتألف التحالف الحاكم من الديمقراطيين الاشتراكيين من يسار الوسط بزعامة شولتس، وحزب الخضر المناصر لقضايا البيئة، والديمقراطيين الأحرار المؤيدين لقطاع الأعمال. وهذا الحزب الأخير بالتحديد جعل من التحول الرقمي رسالته الرئيسية.
لماذا منعت ألمانيا العقود الرقمية؟
مجدداً، كما قال السياسي التاريخي الألماني، أوتو فون بسمارك، فإن القوانين تشبه النقانق، من الأفضل عدم رؤية عملية تحضيرها. حيث إنك إذا نظرت عن كثب في هذا التشريع الألماني جديد، ستجد أن "الاتحاد الألماني لنقابات العمال" يقف خلف القانون الجديد. ويتمتع هذا الاتحاد - "دي جي بي" (DGB) كما يُعرف هذا اللوبي النقابي بالألمانية - بنفوذ خاص على الاشتراكيين الديمقراطيين، الذين يديرون وزارة العمل التي صاغت التشريع.
وأثناء صياغة القانون، منع الاتحاد العمّالي بشكل قاطع السماح بأي وسيط إلكتروني للعقود. فسألتهم: بحق السماء، قولي لي لماذا؟
فكانت الإجابة أن ذلك لحماية الموظفين "غير الثابتين"، كما أوضح لي متحدث باسم الاتحاد. إذ يمتلك الكثير من هؤلاء هاتفاً ذكياً فقط، وليس لديهم طابعة أو شبكة إنترنت في المنزل، ولا يتصفحون بالضرورة بريدهم الإلكتروني أو يقومون بالدخول إلى شبكة التواصل الداخلية الخاصة بالشركة. وأيضاً، إذا انتهى الأمر بالموظف وصاحب العمل في وقت لاحق إلى المحكمة، فإن العقد الورقي المادي أفضل، بحسب ما يعتقد المتحدث. علاوة على ذلك، أشار لي أن الناس مثلاً لا ينظرون أبداً إلى عقود شركات الاتصالات (الرقمية) التي تُرسل لهم.قيمتها مليارا دولار.. شركة إخبارية يابانية ناشئة استلهمت فكرتها من جدار برلين
منطق مُعيق
يا له من نهج غريب في التفكير، وكم هو نهج معهود للمواقف التي تمنع التطور في كل مكان طوال الوقت. فيحظر القانون الذي يقف خلفه "الاتحاد الألماني لنقابات العمال" وبالتالي القانون الألماني، جميع عقود التوظيف الرقمية - الملايين والملايين منها - بسبب أن العقود الورقية ستكون أفضل بالنسبة لبضع أشخاص فقط.
وذلك بدلاً من اللجوء لحل بسيط يتمثل في جعل أصحاب العمل يسألون الموظفين عن الكيفية التي يرغبون فيها عقودهم. وتكون النسخة الورقية خياراً وليس أمراً ملزماً.
ووفقاً لمنطق تفكير "الاتحاد الألماني لنقابات العمال" على الحكومة حظر "أبل باي" وجميع المحافظ الرقمية الأخرى، بالإضافة إلى بطاقات الائتمان، والسماح فقط بالدفع من خلال الفواتير وبالعملات المعدنية، وذلك لأن شخصاً ما في مكان ما يشعر براحة أكثر مع طريقة الدفع هذه.
الآن تخيل هذا النهج مضاعفاً بمئات، بل آلاف، أو حتى ملايين المرات، وستفهم منطق ألمانيا. إذ تصنف المفوضية الأوروبية بانتظام الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حسب تطورها الرقمي. وبشكل عام، فإن ألمانيا حالياً في المنتصف، حيث تحتل المرتبة 13. لكن هذا فقط لأن ألمانيا حسنت مؤخراً البنية التحتية "المادية" المتعلقة بالتكنولوجيا مثل خطوط النطاق العريض والشبكات اللاسلكية، وقد أصبحت هذه الآن بمستوى أعلى من المتوسط.
لماذا تتأخر ألمانيا رقمياً؟
لكن البنية التحتية "الذهنية" للبلاد تحكي قصة أخرى. فمثلاً من حيث استخدام الفواتير الإلكترونية، تقبع ألمانيا بآخر القائمة. ومن حيث انتشار خدمات الحكومة الإلكترونية، احتلت المرتبة 24 بين الدول الأعضاء، متقدمة فقط على إيطاليا وبلغاريا ورومانيا.
وكان تقرير مختلف، صادر عن كلية "اي اس بي اي" للأعمال في برلين، أكثر قسوة في تصنيفه. إذ وجد أن ألمانيا هي واحدة من البلدان التي تراجعت في التنافس الرقمي، وأنه ضمن دول مجموعة العشرين التي تمثل منتدى الاقتصادات المتقدمة، تحتل ألمانيا المرتبة الثالثة من الأسفل.
وما يفوت الألمان أحياناً هو أن التقدم الرقمي لا يقتصر فقط على الكابلات والهوائيات والتجهيزات التي تمتلكها؛ بل يتعلق الأمر أيضاً بما تقوم به من خلال هذه الأدوات، وما إذا كنت منفتحاً على التغيير والتطور.
حالياً، يقدّر المحللون بأن التكلفة التي ستترتب بسبب القانون الجديد من حيث البيروقراطية الإضافية والورق واستهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون ستكون كبيرة. ويتساءل البعض عن طريقة تسليم العقود التي سيفرضها "الاتحاد الألماني لنقابات العمال" مستقبلاً. ربما عربة أحصنة؟ أو حمام زاجل؟ كلا الخيارين يتطلب بنى تحتية واسعة لمتطلبات الحيوانات، وربما ينبغي على حكومة شولتس البدء بالاستعداد للأمر.