ترسَّخت سمعة ألمانيا كمنطقة راكدة رقمياً، لدرجة أنَّ الألمان أنفسهم، بما في ذلك قادتهم، أصبحوا يصدقون ذلك. إنَّ مجرد ذكر "الرقمنة" (Digitalisierung)، يدفع بالسياسيين الألمان إلى إظهار تعابير مؤلمة على وجوههم، والبدء في مناقشة الخطط الفارغة لجعل ألمانيا رقمية أكثر.
ظهر الدليل "أ" على هذا السلوك، في المناظرة الأخيرة بين المرشحين الثلاثة الكبار لمنصب المستشار في انتخابات ألمانيا، التي جرت يوم الأحد. قالت مرشحة حزب الخضر أنالينا بربوك: "الرقمنة هي الآن -أو كانت- تمثِّل تحدياً لعصرنا. يجب قول هذا بوضوح"، لكنَّها لم تتفق مع أرمين لاشيت، المرشح المحافظ، حول كيفية التعامل معها؛ فبدلاً من إنشاء وزارة خاصة للرقمنة كما اقترح، اقترحت جعل مكتب المستشار نفسه مسؤولاً عن ذلك.
اقرأ أيضاً: تحالفات معقدة.. سيناريوهات تشكيل الحكومة الألمانية بعد رحيل ميركل
ألمانيا تواجه ضغوطا متزايدة بسبب زيادة الصادرات الصينية إلى أوروبا
يعدُّ العار الواضح للتكنولوجيا في ألمانيا، أحد أكبر الألغاز التي واجهتها خلال سنواتي السبع هنا. هذا المكان ليس صحراء رقمية، وليس كارهاً للتكنولوجيا، أو معادياً للابتكار. إنَّها غير متأخرة بشكل ملحوظ عن أي دولة غربية أخرى في أي جانب تكنولوجي للحياة العادية، ولديها مشهد ناشئ نابض بالحياة، بالإضافة إلى صناعة تقنية قوية.
يبلغ إجمالي القيمة السوقية لـ"شركات التكنولوجيا" الألمانية المدرَجة في البورصة حوالي 326 مليار دولار، أي ما يعادل حوالي 13% فقط من شركة "أبل" الأمريكية الرائدة في مجال التكنولوجيا. لكنَّني لست متأكِّداً من أنَّ جنون العظمة الأمريكي هو المعيار الصحيح الذي يجب أن تقاس به الصناعات التقنية. هل تحتاج الدولة حقاً إلى "فيسبوك"؟ من المثير للجدل أنَّ الشركات الكبرى المتضخِّمة في وادي السيليكون، تفيد الأمريكيين أكثر من نظرائها الأصغر بكثير (من ناحية القيمة السوقية) في أوروبا أو آسيا. على أي حال، تعدُّ شركات التكنولوجيا الألمانية المدرجة، في المرتبة الثامنة من ناحية رأس المال في العالم، وهي متقدِّمة على جميع الدول الأوروبية باستثناء هولندا، التي تتفوق بشكل أساسي على ألمانيا، لأنَّها مكان ودود لتأسيس الشركات.
شركات بأدوار عالمية
كثيراً ما يسمع المرء أنَّ شركة "ساب" (SAP) هي الشركة الألمانية الوحيدة ذات التقنية العالية. إنَّها بالفعل الأكبر من ناحية القيمة السوقية، لكن الشركات العشر الأولى الأخرى، تلعب أيضاً دوراً رئيسياً بصناعاتها في جميع أنحاء العالم. لكنْ ليس لديها أسماء مألوفة فقط. هل سمعت عن "نيميتشيك" (Nemetschek)؟.
إنَّها ثالث أكبر شركة تقنية ألمانية من ناحية القيمة السوقية، وهي قوة رئيسية في مجال البرمجيات للبنَّائين والمهندسين المعماريين. أو ماذا عن "كومبو غروب ميديكال" (CompuGroup Medical) سابع أكبر شركة، والتي من المتوقَّع أن تبيع ما قيمته أكثر من مليار يورو من برامج الرعاية الصحية في عام 2021؟
تُظهر قدرة هذه الشركات على المنافسة عالمياً، أنَّ لدى ألمانيا البراعة الهندسية للّعب في أسواق التكنولوجيا المتخصصة الصعبة. فهي لا تبيع الكثير من الإعلانات عبر الإنترنت، بناءً على وعود يصعب التحقق منها بالاستهداف الدقيق، ولكنَّها تصنع منتجات تربح أعمال الخبراء. إنَّها لا تصمِّم أجهزة "أيفون"، ولكن بعض أفضل كاميرات الهواتف المحمولة اليوم، مثل تلك الموجودة في هواتف "فيفو" (Vivo)، و"شارب" (Sharp)، و"هوواي" (Huawei)، مصنوعة بالشراكة مع شركات ألمانية مثل "لايكا كاميرا" (Leica Camera)، و"كارل سيز" (Carl Zeiss). (أطلقت "لايكا" مؤخراً هاتفها الخاص أيضاً، ولكنَّه حتى الآن لا يُباع إلا في اليابان).
طفرة الشركات الناشئة
عندما يتعلَّق الأمر بـ"الشركات الناشئة"؛ فإنَّ ألمانيا ليست متخلِّفة عن المعايير الأوروبية. تمتلك القارة العجوز حوالي 12% من "شركات يونيوكورن" في العالم، أو الشركات الناشئة التي تقدَّر قيمتها بأكثر من مليار دولار. تضمُّ ألمانيا 11 من أصل 52 شركة أوروبية من هذا النوع، وتحل في المرتبة الثانية بعد المملكة المتحدة فقط، التي لديها 19 شركة. هذا العام وحده، أضافت ألمانيا ست شركات، وفقاً لـ"بيتش بوك" (PitchBook): شركتا الوساطة عبر الإنترنت "سكالابل كابيتال" (Scalable Capital)، و"تريد ريبلبلك" (Trade Republic)، وشركة البيانات الضخمة "سيلونيس" (Celonis)، ومورّد البرامج اللوجستية "سيندر" (Sennder)، وخدمة العمليات المصرفية السحابية "مامبو" (Mambu)، ومطوّر برمجيات الموارد البشرية "بيرسونيو" (Personio) بتقديرات تزيد على مليار دولار. لا عجب في أنَّ برلين وميونيخ تقعان في قائمة أفضل 10 مراكز للشركات الناشئة في أوروبا. بالطبع، يمكنك أن تنظر إلى أوروبا ككل على أنَّها متأخرة بشكل ميؤوس منه وراء الولايات المتحدة وبعض الدول الآسيوية، ولكن يمكنك أيضاً وصف مؤسساتها التكنولوجية بأنَّها ذات نطاق إنساني أكبر، وهي سعيدة بالقيام بعملها في صناعة عالية التخصص أو مكان معين. الحجم ليس كل شيء، إذ يزن دماغ حوت العنبر حوالي خمسة أضعاف وزن دماغ الإنسان، لكن هذا لا يجعل الحوت أكثر ذكاءً.
تعتمد سمعة ألمانيا السيئة في جزء كبير منها على مكانتها المنخفضة في تصنيفات سرعة الإنترنت على الهاتف المحمول والثابت. يضع موقع (Cable.co.uk) وهو خدمة مقارنة الاتصالات السلكية واللاسلكية، ألمانيا في المرتبة 36 على مستوى العالم؛ هذا يبدو فظيعاً، ولكن متوسط سرعة تنزيل النطاق العريض التي تبلغ 60.55 ميغابت في الثانية تسمح للمستخدم بالحصول على فيلم بحجم 5 غيغابايت في 11 دقيقة و16 ثانية، في حين في الولايات المتحدة المصنَّفة (في المرتبة 14) يستغرق الأمر 7 دقائق و23 ثانية. هل يستحق هذا الاختلاف جهداً وطنياً للحاق بالركب؟ أنت صاحب القرار. (إفصاح كامل: يستغرق الأمر دقيقتين ونصف الدقيقة في جزيرة جيرسي، التي تحتل المرتبة الأولى، ولكن في النهاية، من السهل بناء البنية التحتية في مكان بحجمها).
الهاتف المحمول
ينطبق الأمر ذاته على سرعات الهاتف المحمول. يصنف موقع (SpeedTest) ألمانيا في المرتبة 30 على مستوى العالم بمتوسط سرعة تنزيل 75 ميغابت في الثانية، أي أقل بكثير من المملكة العربية السعودية التي تحتل المرتبة الأولى بسرعة 190 ميغابت في الثانية، لكنَّ المستخدم العادي لن يلاحظ الفرق. أنا أقوم ببثِّ ملفات البودكاست والموسيقى عندما أركض في الغابة على أطراف برلين، ولا أستخدم حتى شبكة الجيل الخامس (5G)؛ إذ لا تحتل ألمانيا المرتبة الأولى بين أفضل البلدان من ناحية انتشارها، ولكنَّها واحدة من الدول الرائدة في جودة التجربة التي يقدِّمها المعيار.
في وقت سابق من هذا العام، اشترت عائلتي منزلاً صغيراً في منطقة نائية بشرق ألمانيا، بالقرب من بقعة على خريطة البلاد، تعدُّ الأبعد عن الطريق السريع. كما تتيح لي الاتصالات المتنقلة والثابتة هناك القيام بعمل كثيف على النطاق الترددي لإنجاز عملي لفريق بلومبرغ لأتمتة الأخبار.
حتى وقت قريب، كان اعتماد ألمانيا الأعلى من المتوسط على المدفوعات النقدية، يستخدم غالباً كمقياس للتخلُّف الرقمي. لن تقبل العديد من الشركات الصغيرة أي شيء سوى النقد. لكنَّ جائحة كوفيد 19غيّرت ذلك جذرياً. في عام 2020، انخفضت المعاملات النقدية بنسبة 5.6 نقطة مئوية لتصل إلى 40.9% من مبيعات التجزئة. ووصلت مدفوعات البطاقات إلى 56.3% من المبيعات، وتمَّت معالجة 35% من هذه المعاملات باستخدام تقنية لا تلامسية؛ وهو أمر اعتادت ألمانيا أن تتأخر فيه بشكل ملحوظ عن البلدان الأخرى.
كانت التكنولوجيا موجودة قبل فترة طويلة من كوفيد، الأمر فقط هو أنَّ الألمان يحبون النقود تقليدياً لأسباب تتعلَّق بالحرية الشخصية، وهي الأسباب ذاتها التي تجعلهم يكرهون الاستخدام الواسع لتقنية التعرف على الوجوه، على سبيل المثال. ولكن بمجرد أن بدأ خبراء الصحة يقولون، إنَّ المعاملات غير التلامسية أكثر أماناً في حالة حدوث جائحة، انطلقوا بها على الفور.
أعرف حقيقة أنَّ وسائل الإعلام الورقية في ألمانيا ماتزال منتشرة على نطاق واسع. نعم، يمكنك في الواقع رؤية الناس يقرؤون الصحف، وهي علامة على نزعة محافظة صحية وليست تخلُّفاً. أعلنت شركة "أكسل سبرينغر ميديا" (Axel Springer Media)، ناشرة الصحف المصورة الشعبية المنتشرة في كل مكان، في وقت سابق من هذا العام، أنَّ منشوراتها حصلت على مليون مشترك رقمي. مرة أخرى، توجد كل من التكنولوجيا والقدرة على تسييلها، ولكنْ ليس هناك أي اندفاع في المجتمع الألماني للتخلي عن العادات التي لا تلحق الضرر بالألمان.
البيروقراطية
المنطقة الوحيدة التي يمكنني التفكير فيها كمقيم ألماني عادي، التي يلزم إحداث قفزة تكنولوجية كبيرة فيها، هي البيروقراطية القائمة على الورق والمماطلة.
لا تتسبَّب المكانة المنخفضة لألمانيا في تصنيفات الحكومة الإلكترونية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في أي تنافر معرفي. يمكنك استخدام الهوية الإلكترونية المدمجة في بطاقة الهوية الوطنية لتنزيل المستندات من مكتب الضمان الاجتماعي، لكنَّ زوجتي الآن في شهرها السادس من المراسلات الورقية مع السلطة ذاتها حول إصدار هذه الوثائق في المقام الأول. يحب الألمان الإحصاءات، ولكنَّ هناك أنواعاً مختلفة من البيانات الحكومية في الصوامع، وهذا يفوِّت فرصاً لا حصر لها لاستخدامها في إدارة أكثر ذكاءً، وهو الأمر الذي أصبح واضحاً بشكل قاتل أثناء الوباء.
غالباً ما يميل الألمان إلى امتلاك نظرة كئيبة عن أنفسهم وبلدهم. ولأنّي شخص يتوقَّف تدريجياً عن أن يكون دخيلاً هنا، لا يمكنني إلا أن أقول لهم، ولأي شخص يهتم كثيراً بتذمّرهم من التخلُّف التكنولوجي؛ أن ينظروا حولهم ويبتهجوا.