بلومبرغ
في شهر ديسمبر اشترى آرون مور منزلاً عادياً من ثلاث غرف نوم، في ضاحية برامبتون في مدينة تورونتو الكندية. وبعد أن أعاد طلاء جدران المنزل، ووضع أرضيات جديدة من الخشب الصلب، قرر عرضه للبيع في السوق.
وفي شهر مارس وجد المنزل من يشتريه بمبلغ 810 آلاف دولار كندي (حوالي 649 ألف دولار)، وذلك بزيادة مذهلة في سعره بلغت نسبة 28% مما كان قد دفعه مور.
وعادةً ما يفسر خبراء الاقتصاد، وواضعو السياسات، وخبراء التمويل هذا النوع من المضاربات سريعة الربح على أنها، وبلا جدال، علامة على حدوث فقاعة عقارية.
إلا أن مور يعد لاعباً محترفاً في عالم ترميم وبيع المنازل في منطقة تورنتو منذ أكثر من عقد من الزمان، وهو الذي راهن الكثير من المتشائمين اللامعين على فشله مراراً وتكراراً، ولكنه كان يثبت خطأهم في كل مرة.
وقد كان من أوائل من حذروا من فقاعة القطاع العقاري، مارك كارني، الذي كان محافظ البنك المركزي الكندي، ثم تولى رئاسة بنك إنكلترا. وهو الذي وصف اعتماد البلاد على قطاع الإسكان بأنه أمر "غير مستدام" في عام 2012.
ثم جاءت بعد ذلك موجة الممولين الأمريكيين، الواحد تلو الآخر، والذين راهنوا مجتمعين على انهيار قطاع الإسكان الكندي.
وقد أطلق على هذا الانهيار لقب "القصة البيضاء العظيمة القصيرة"، وكان من الأمريكيين الذين استفادوا من هذه الفقاعة، ستيف إيزمان، الذي اشتهر بكتاب (The Big Short)، والذي كان من الأمريكيين الذين طبقوا الدروس التي تعلموها في انفجار فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة قبل سنوات.
ارتفاع الأسعار على عكس التوقعات
ومن جهتها كانت وكالة الإسكان الوطنية الكندية متأكدة عندما ضربت جائحة (كوفيد-19) من أن نهاية الفقاعة العقارية قد جاءت أخيراً، وتوقعت الوكالة هبوطاً في قيمة المنازل تتراوح بين السيئ والكارثي.
ولكن بدلاً من ذلك، استمرت السوق في تحقيق عام قياسي آخر، حتى أن المكاسب تجاوزت تلك التي حققتها سوق الولايات المتحدة. وكان على رئيس وكالة الإسكان أن يتوجه إلى تطبيق "تويتر" ليعترف بخطئه قبل وقت قصير من استبداله.
أما آرون مور، فقد استمر في عمله في شراء المنازل وترميمها وبيعها. وقد وقف مور محتاراً في منزل ضاحية برامبتون قبل أيام من إدراجه للبيع، وهو يفكر في كل التوقعات القاتمة التي سمعها على مر السنين، والتي كانت تبدو غريبة جداً بالنسبة له.
وقال: "حتى أفقد إيماني في سوق الإسكان في تورنتو، يحتاج الأمر لحدوث شيء جنوني، كتولي حكومة شيوعية الحكم مثلاً".
واليوم تستحوذ عمليات شراء المنازل وبيعها وبنائها في كندا على حصة أكبر من الاقتصاد مما هو الحال في أي دولة متقدمة أخرى، وذلك بناءً على ما أفاده به "بنك التسويات الدولية". كما أن هذا القطاع استحوذ على حصة أكبر من رأس المال الاستثماري مقارنة بأي من القطاعات الأخرى في كندا.
رهن عقاري ضخم
ساعدت الرهون العقارية الكندية في تشكيل أكبر تكتل لديون المستهلكين في العالم، كما أن نسبة تعرض النظام المالي الكندي لهذه القروض هو ضعف نظيره في الولايات المتحدة.
وقد بدأت سوق الإسكان الكندية عام 2021 في ظل ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية بالازدهار بقوة كبيرة محققاً مكاسب سنوية بنسبة 30% في العديد من المجتمعات في جميع أنحاء البلاد.
ومع ذلك، فإن المتشائمين الذين توقعوا نهاية هذا الارتفاع، قد التزموا الصمت إلى حد كبير بعدما أصبحوا على ما يبدو خائفين من جذب المزيد من الانتباه إلى مطالبات إعادة الأموال إلى البنك المركزي.
ارتفاع الأسعار يعزز فجوة عدم المساواة
ولكن مع تلاشي الأصوات، بدأ يُطرح سؤال جديد ومثير للقلق في دوائر السياسة في مدينتي تورنتو وأوتاوا: ماذا لو لم تنفجر الفقاعة؟ وماذا لو استمرت الأسعار في الارتفاع أكثر فأكثر؟
تنبع هذه الأسئلة من إمكانية توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في كندا. وبناءً على ما أوردته شركة الاستشارات للتخطيط الحضري "ديموغرافيا"، فقد سجلت المدن الرئيسية في البلاد خلال العقدين الماضيين أسوأ انخفاض في قدرة تحمل الفرد تكاليف الإسكان مقارنة مع باقي المدن الكبرى في العالم، والذي يجعل ما كان يعرف تقليدياً على أنه الطريق الأكثر ضماناً للكنديين لتحقيق استقرار الطبقة الوسطى، أي ملكية المنازل، أمراً بعيداً عن متناول العديد من الأشخاص غير الموجودين بالفعل في السوق مما يفاقم فجوة عدم المساواة.
تجميد رؤوس الأموال في العقارات
تتزايد المخاوف في ظل تخصيص جزء أكبر من الاقتصاد للإسكان، والذي من شأنه أن يقلل من وضع رؤوس الأموال في استخدامات أكثر إنتاجية.
يقول سال غواتيري، كبير خبراء الاقتصاد في "بنك مونتريال": "سوق الإسكان تبلي بلاءً حسناً، ولا يبدو أنه يوجد أي شيء يمكن أن يوقف ذلك. إننا ننفق الكثير للحفاظ على وجود سقف فوق رؤوسنا. أكثر مما ننفقه على الآلات والمصانع والذكاء الاصطناعي. ويتم الآن تخصيص حصة أكبر بكثير من اقتصادنا للبناء السكني بدلاً من الأبنية غير السكنية، أو حتى الإنفاق المباشر على الآلات والمعدات. وهذا في الأساس ليس توجهاً صحيحاً".
أما بالنسبة لكل من المراهنين بقوة على شراء المساكن، والمتشائمين التائبين الذين فشلت رهاناتهم، فإن السبب الرئيس وراء حقيقة أن سوق الاسكان لم ولن ينهار، هو قدرة كندا غير العادية على استيعاب المهاجرين.
المهاجرون ينعشون سوق الإسكان
كانت البلاد قبل الجائحة تستقبل أكثر من 300 ألف وافد جديد سنوياً، وهو الأمر الذي استطاع لوحده تقريباً تحقيق أسرع نمو سكاني بين مجموعة الدول الصناعية السبع.
وفي حين تتمتع أهداف الهجرة الجريئة هذه بدعم شعبي، فإن جميع هؤلاء الوافدين سوف يحتاجون إلى مكان للعيش فيه. وهم في النهاية يواجهون ركيزة ازدهار سوق العقارات السكنية الأخرى في كندا عند وصولهم إلى المدن الرئيسية، ألا وهي نقص المساكن المعروضة في السوق.
ولطالما عانت كل من مدينتي تورنتو وفانكوفر من بعض أدنى معدلات الشغور الإيجاري في أمريكا الشمالية خاصة.
وتعد عمليات إعادة تقسيم المناطق والتي تسير بخطى بطيئة، تعاني من التأخر بشكل دائم في إضافة مخزون شقق جديدة، ناهيك عن القيود التي تصبح أصعب وأكثر صرامة عندما يتعلق الأمر بالمنازل على مستوى الأرضي. وهذه المدن محاطة بمسطحات مائية كبيرة من جهة، كما تحد القوانين الكثيرة من أي زحف عمراني من جهة أخرى.
وقد تكون نصيحة توني سوبرانو بشراء الأراضي "لأن الكون لم يعد يصنع المزيد منها" هي الأكثر صحة في المدن والعواصم الكندية، حتى أكثر مما كان عليه الأمر في شمال ولاية نيوجيرسي، وذلك بفضل المنظمين المحليين.
ندرة المساكن المعروضة وانخفاض أسعار الفائدة الناجم عن الجائحة، ومتوسط معدل الرهن العقاري المشترك ذي السعر الثابت في كندا 1.97% في نهاية عام 2020، كانت كلها من الأسباب التي رفعت أسعار المساكن. وهذا حصل حتى مع تراجع الهجرة.
وقد أظهرت البيانات الصادرة مؤخراً أن جنون العقارات بدأ يكتسب زخمه، حيث سجل شهر فبراير أكبر زيادة شهرية على الإطلاق في الأسعار القياسية الوطنية للمنازل.
ارتفاع متسارع في الأسعار
ويقول رود بولغر، المدير المالي لـ"رويال بنك أوف كندا"، والذي يعد أكبر مقرض رهن عقاري في البلاد، والذي تفترض قاعدته الداخلية زيادة أخرى بنسبة 25% في الأسعار على مدى السنوات الخمس المقبلة: "لدينا في كندا قواعد تقسيم مناطق تحد من التنمية حول المناطق الحضرية الكبرى والتي تضع حداً لنسبة العرض. أما من ناحية الطلب، وبمجرد استئناف الهجرة، فلابد أن يستمر هذان العاملان بالتزامن معاً لدفع اقتصاد تقليدي يعطي الأولوية للتضخم التصاعدي على المدى الطويل على الإسكان في كندا".
وقد بدأ تحول القلق من انهيار السوق إلى القلق حول ارتفاعه السريع للغاية. ولقد بدأت الأمور تجنح نحو الجنون بعض الشيء. ففي مدينة تورونتو مثلاً، تم عرض مرآب منفصل (من غير المنزل) للبيع مؤخراً مقابل 729 ألف دولار كندي. وفي مدينة وودستوك في أونتاريو والتي يبلغ عدد سكانها حوالي 40 ألفاً، وتقع جنوب غرب مدينة تورنتو، كان متوسط الزيادة في قيمة المنازل العام الماضي أكبر من الدخل السنوي لمعظم السكان.
ويبدو أن التوقعات هي أيضاً آخذة في الارتفاع، ففي شهر يناير تم شراء 6% من جميع المنازل المعروضة للبيع في ضواحي مدينة تورنتو خلال الأشهر الـ12 الماضية، وهو ارتفاع بنسبة 4% مقارنة بالعام الماضي، وذلك بناءً على ما أفادته شركة الوساطة "ريلسوفي".
وكل هذا أدى إلى تدهور سريع في قدرة الناس على تحمل تكاليف مكان للعيش. ففي هذا العام، قامت "ديموغرافيا" بتصنيف مدينة فانكوفر على أنها ثاني أغلى مدينة في العالم بعد هونغ كونغ. وهذه ثاني مرة تدرج المدينة فيها على اللائحة حيث إنها احتلت المرتبة 15 على لائحة أغلى مدن العالم في عام 2006. أما ترتيب مدينة تورونتو فارتفع من المركز 37 إلى الخامس.
تصدير المشكلة للمدن الصغيرة
تعمل المدينتان الآن بفضل الجائحة على تصدير مشاكلهما السكنية إلى البلدات الصغيرة في جميع أنحاء البلاد، في وقت أصبح سكان المدن أكثر حرية للتنقل، بسبب العمل عن بُعد والذي يسمح لهم بالانتقال إلى أماكن أبعد بحثاً عن منازل أكبر. وبالتالي تم رفع الأسعار في هذه المناطق بما يتجاوز ما يمكن للسكان المحليين تحمله.
بدأت هذه المشاكل في إثارة الغضب والسخط. وقد أشار صانعو السياسة الكنديون بدءاً من رئيس الوزراء، جاستن ترودو، إلى عمدة تورنتو، جون توري، إلى أنهم يفكرون في تطبيق ضرائب جديدة في محاولة لجعل المنازل أقل كلفة. وبدأ خبراء الاقتصاد في البنوك الكبرى في البلاد بالتحذير من أن السوق تخاطر، حيث يتغلب عليها جنون التكهنات إذا لم تتصرف الحكومة.
إلا أن هذه ليست أول مرة تشهد فيها طفرة الإسكان الطويلة في كندا تعديلات في السياسة، فقد حصلت سابقاً، بدءاً من التغييرات في قواعد الدفع المسبق إلى الضرائب على شراء وملكية الأجانب. إلا أنها أثبتت في النهاية أنها مطبات فحسب، أمام ارتفاع قيمة المنازل الكندية على المدى البعيد.
ومع وصول مستوى توفر المساكن في جميع أنحاء البلاد إلى أدنى مستوياته على الإطلاق، وقيام حكومة ترودو بتصعيد أهداف الهجرة لتعويض هدوء العام الماضي، هناك اعتقاد أن التوجه الحالي سوف يستمر.
ويقول جاريد ديليان، المستثمر وكاتب النشرة الإخبارية المالية والمساهم في "رأي بلومبرغ": "كل شخص لديه مصلحة في استمرار ما يحدث، وهذا هو الجزء الذي لم أكن أدركه. كان هناك الكثير من الأشخاص الذين قالوا إن كندا مختلفة وهناك الكثير من المهاجرين وجميع أنواع الأسباب التي تجعل سوق الإسكان الكندي مختلفاً، وتبين أنهم على حق في نهاية المطاف". بدأ جاريد ديليان، رهانه الخاص ضد سوق الإسكان في عام 2013، إلا أنه غير رأيه العام الماضي.