بلومبرغ
في ظل ارتفاع الإيجارات في المدن الأوروبية الكبرى بسبب نقص المعروض من المنازل، يستعد المستثمرون لضخ أموالهم في منازل جديدة، لكنهم يتعثرون في مجموعة مربكة من العقبات.
بينما تعاني العقارات المكتبية والتجزئة من تأثير اتجاهات العمل عن بُعد والتسوق عبر الإنترنت، خصص المستثمرون في العقارات مبلغاً إضافياً قدره 82 مليار يورو (90 مليار دولار) لمشاريع الإسكان في أوروبا حتى 2025، وفقاً لمسح أجرته شركة "سافيلز" (Savills). لكن مستنقع القواعد واللوائح التنظيمية والبيروقراطية يقف حائلاً في طريقهم.
قال مارك ألنوت، المدير التنفيذي لشركة "غريستار ريال ستيت بارتنرز" (Greystar Real Estate Partners)، وهي شركة أسهم خاصة متخصصة في تأجير العقارات: "بالرغم من وفرة رأس المال الذي يتطلع للدخول إلى أوروبا، إلا أن هناك عقبات تتمثل في ندرة المعروض ونقص المخزون الحالي".
أصبح الإسكان قضية سياسية شائكة في أوروبا، حيث تثير صعوبات العثور على مساحة للعيش بأسعار معقولة توترات اجتماعية واستياء الناخبين. لكن ليس هناك حل سريع للأمر.
تتفاوت العقبات في أنحاء أوروبا، بدءاً من الضوابط على الإيجارات وحتى عقبات التخطيط، وستتطلب جهوداً حكومية مستمرة لإتاحة الفرصة أمام الاستثمارات اللازمة لتخفيف الضغط في النهاية عن الأسر التي تعاني ضائقة مالية.
في السطور التالية نلقي نظرة على القضايا الرئيسية في أسواق مختلفة:
المملكة المتحدة
عادةً ما تكون الإشارة إلى نظام التخطيط في بريطانيا أمراً كافياً لإثارة نظرة استهجان من جانب مستثمري العقارات. فقد أصبحت قرارات التطوير في أيدي المجالس المحلية المُنهكة، كما يمكن للإسهامات العامة إعاقة المشاريع الطموحة.
وقال ألنوت إن "بعض المجالس تفهم المعوقات، والبعض الآخر لا يفهمها.. وعدد الذين لا يفهمون تلك المعوقات يفوق من يفهمونها".
تمتلك السلطات المحلية في العادة فترة تصل إلى ثمانية أسابيع لاتخاذ القرار، أو 13 أسبوعاً للمشاريع الكبرى. لكن اثنين فقط من كل عشرة طلبات لمشاريع تطوير الإسكان الكبيرة تم النظر فيها في تلك الفترة بين شهري يوليو وسبتمبر من العام الماضي، وفقاً للإحصاءات الحكومية.
يمثل احتمال وضع قواعد جديدة مشكلة أيضاً. وتعهد حزب العمال، الذي يتصدر استطلاعات الرأي، بسلسلة من الإصلاحات للتصدي لمشكلة نقص المنازل في بريطانيا، بينما طالب عمدة لندن صادق خان مراراً وتكراراً بفرض قيود على زيادات الإيجارات.
أزمة الإسكان في لندن الأسوأ خلال عقد
بالرغم من أن سقف الإيجارات قد يكون مرحباً به بالنسبة للمستأجرين، لكنه قد يؤدي إلى استمرار نقص المنازل على المدى الطويل من خلال قمع الحوافز المقدمة لعمليات البناء الجديدة. وهو ما يحدث في إسكتلندا، حيث يمكن لمُلاك العقارات رفع الإيجارات بنسبة تصل إلى 3% سنوياً فقط، وفقاً لاتحاد العقارات الإسكتلندي (Scottish Property Federation).
وقال جون بويل، المؤلف الرئيسي للبحث إن "القطاع واجه تحديات بسبب ما يعتبره المستثمرون مستويات عالية من المخاطر السياسية".
أيرلندا
لا تزال أيرلندا تعاني من فقاعة الإسكان التي انفجرت خلال الأزمة المالية، حيث حددت زيادات الإيجارات هناك عند 2% سنوياً بصورة دائمة. وهذا يعني أن الارتفاع الأخير في معدلات التضخم لم يؤخذ بعين الاعتبار، مما يؤثر على الاستثمار في المعروض الجديد من المنازل.
وكانت النتيجة تفاقم أزمة الإسكان وتصاعد التوترات. فقد استغل المحرضون المتورطون في أعمال الشغب العنيفة في دبلن خلال نوفمبر مشاكل المواطنين، حيث تزامن نقص المنازل ميسورة التكلفة مع تدفق اللاجئين وطالبي اللجوء.
تعهدت الحكومة الأيرلندية ببناء ما متوسطه 33 ألف منزل جديد سنوياً بين عامي 2021 و2030. لكن بالنسبة للمطورين، فإن التضخم المستمر في الارتفاع يعني أن الأرقام غير منطقية. وقال بوب فيث، الرئيس التنفيذي لشركة "غراي ستار" (Greystar): "لا ينبغي أن يكون التحكم في الإيجارات مشكلة"، لكن القواعد يجب أن تتماشى بشكل أفضل مع التكاليف والمخاطر.
ألمانيا
يمتلك أقل من نصف الألمان منازلهم الخاصة، وهي واحدة من أدنى النسب في أوروبا، لكن بينما يعني ذلك توافر فرص استثمارية في قطاع الإيجار، فإن شراء المنازل القائمة بالفعل ينطوي على مخاطر التجديد. تضم ألمانيا عدداً كبيراً من المنازل المستأجرة، لكن جزءاً كبيراً منها "قديم جداً وغير صالح للمعيشة"، وفقاً لفيث، من "غراي ستار".
فشل الائتلاف الحاكم بقيادة المستشار أولاف شولتس في تحقيق هدف بناء 400 ألف منزل جديد سنوياً، ومن ثم علّق قواعد الكفاءة الأكثر صرامة للمباني الجديدة في سبتمبر في محاولة لتعزيز عمليات البناء. لكن هذه الخطوة لا تتصدى لارتفاع أسعار الفائدة وتكاليف البناء المتزايدة، كما يظل المستثمرون قلقين بشأن موعد عودة القواعد.
المستشار الألماني يدافع عن أسعار الفائدة في قطاع الإسكان
قال فيليكس باكليبا، المدير التنفيذي للاتحاد الألماني المركزي لقطاع البناء، إن "بناء المنازل يحتاج بشكل عاجل وسريع إلى الدعم، وليس المزيد من عدم اليقين".
في الوقت نفسه، تزيد القواعد الصارمة المتعلقة بحماية المستأجرين من صعوبة جذب المستثمرين. وقال رولف بوخ، الرئيس التنفيذي لـ"فونوفيا" (Vonovia SE)، وهي أكبر شركة مالكة للعقارات في ألمانيا، إن الحكومة تخطط لتشديد اللوائح، مثل خفض سقف زيادات الإيجارات، "وهذا سيؤدي إلى تراجع أعمال البناء بدلاً من زيادتها.. بالتالي يجب على المشرعين التفكير في الأمر بعناية".
دول الشمال الأوروبي
أدت أزمة العقارات المستمرة في السويد، والتي أعادت أصداء أزمة انهيار التسعينيات حينما حدث انهيار مالي كامل، إلى انخفاض أسعار العقارات وارتفاع تكاليف التمويل، مما يؤثر على اقتصاد الدولة الإسكندنافية. لكن في ستوكهولم، لا يوجد ما يكفي من المنازل المعروضة، كما أن ضوابط الإيجار الوطنية تعيق الاستثمار في التطوير العقاري.
بالنسبة لأولئك الذين لا يملكون المال للشراء أو إمكانية الانتظار لسنوات للحصول على عقد إيجار رسمي، فليس لديهم البديل تقريباً سوى الإيجار من الباطن. ومثل هذه القضايا تثير قلق الكثيرين الذين يسعون للاستثمار في المعروض الجديد في جميع أنحاء أوروبا، وسط مخاطر مواجهة كافة أصحاب العقارات لنفس التهمة.
ارتفاع تكاليف البناء يهدد مستقبل العقارات السكنية في ألمانيا
قال أندرو ألين، الرئيس العالمي للأبحاث واستراتيجية المنتجات والتطوير لدى شركة إدارة الاستثمارات "سافيلز"، إن "المستثمرين يشعرون بالقلق بشأن قضايا السمعة، لكن المشكلة الكبرى هي التنظيم".
وفي الدنمارك، حيث لا يزال التضخم مرتفعاً، لا يُسمح للإيجارات أن ترتفع بأكثر من 4% سنوياً حتى هذا العام، مع تطبيق سقف على عقود الإسكان الحالية والمستقبلية على حد سواء. وقد تم وضع هذا الحد لتخفيف الضغط عما يقرب من 160 ألف مستأجر كانوا سيواجهون زيادات كبيرة في الإيجارات، وفقاً للحكومة.
بولندا
قبل الحملة الانتخابية العام الماضي، نفذت حكومة بولندا حزمة تحفيز للرهن العقاري للمشترين لأول مرة، مما تسبب في ارتفاع أسعار المنازل في أكبر المدن بنسبة 20% تقريباً خلال 2023. لكن الأموال نفدت الآن، وتخطط الإدارة الجديدة برئاسة رئيس الوزراء دونالد توسك لاستئناف الدعم في موعد لا يتجاوز النصف الثاني من العام، مع وضع حدود الدخل.
هذا يعني أن البولنديين معرضون مرة أخرى للمشاكل الهيكلية في السوق، مثل ارتفاع الأسعار والقروض باهظة الثمن وقلة المعروض. ويُتوقع أن تؤدي هذه الاتجاهات إلى إقصاء البعض تدريجياً عن ملكية المنازل، مما يؤكد إحدى فرضيات الاستثمار الرئيسية لصناديق الاستثمار الأجنبية التي تستثمر في مشاريع الإيجار منذ 2016.
صرحت شركة التطوير العقاري "إيكو إنفستمنت" (Echo Investment SA)، التي تتعاون مع "بيمكو" (Pimco)، بأنها ترى "اهتماماً متزايداً من المشغلين الأجانب لدخول السوق". وبينما ينضم العديد من البولنديين لهذا الاتجاه في شراء العقارات، يتزايد حجم الصفقات الجديدة.
أيبيريا
شهد بناء المنازل في إسبانيا ركوداً منذ انفجار فقاعة الإسكان الأخيرة قبل أكثر من عقد، إذ تعد الإدارة البطيئة هي العائق الأكبر أمام عمليات البناء. وتشكو شركات التطوير العقاري من أن الأمر قد يستغرق أكثر من عام للحصول على الموافقات، مما يزيد من التكاليف الإجمالية.
قال جون جيرمان، الذي يشرف على أعمال شركة "إنفيسكو" (Invesco) في مجال الإسكان في أوروبا: "في إسبانيا، عليك أن تضع في اعتبارك الوقت المستغرق للحصول على تصريح البناء.. فحتى لو كانت الأرض مخصصة، قد يستغرق الأمر عاماً أو أكثر للحصول على التصريح اللازم للبدء في البناء".
هناك جهود لتحفيز الاستثمار عن طريق توزيع المخاطر. حيث تقيم شركة تطوير المنازل الإسبانية "نينور هومز" (Neinor Homes SA) شراكات مع مستثمرين مثل "إيه.إكس.إيه أي. إم إيه.إي.تي.إس" (AXA IM Alts). هناك حاجة ماسة إلى مثل هذه المبادرات، وسط تقلص أعداد المنازل الجديدة لمدة 13 عاماً متتالية لتصل الآن عند أدنى مستوياتها منذ 2007.
أما في البرتغال، تسعى الحكومة إلى تهدئة سوق الإسكان من خلال إنهاء برنامج التأشيرة الذهبية والموافقة على خطة لخفض الحوافز الضريبية للمقيمين الجدد. وأثارت هذه التحركات الطلب من المستثمرين الأجانب وجعلت ملكية المنازل بعيدة عن متناول معظم السكان المحليين، لكن الناس لا يزالون بحاجة إلى مكان للعيش فيه، وهذا يفتح الباب أمام المستثمرين الذين يمكنهم التغلب على المخاطر.
قال ألين من "سافيلز"، إن "المستثمرين يلجؤون بشكل متزايد إلى الأسِرَّة لأنهم لا يحبون الأشياء الأخرى"، موضحاً أن "الناس سيحتاجون دائماً إلى مساحة لسرير ومطبخ".