بلومبرغ
تتردد منذ أشهر التحذيرات من الخطر الذي تشكله الشقق الصغيرة المُجَزَّأةُ سيئة السمعة في هونغ كونغ، وسط مخاوف من أن تتحول إلى بؤرة لتفشي فيروس كورونا.
فهذه الشقق المزدحمة، سيئة التصميم، التي أحياناً لا تزيد مساحتها عن حجم سرير صغير واحد، تشكل قنبلة موقوتة. وذلك بحسب تحذيرات المنظمات الاجتماعية المحلية مثل "تحالف حقوق السكن" و"منظمة الخدمة الاجتماعية الميثودية". هذه القنبلة انفجرت أخيراً، ودفعت المدينة إلى فرض حظر للمرّة الأولى منذ اكتشاف أول إصابة بالفيروس في يناير 2020.
العيش فيما يسمى بـ"منازل القبور"
وفي 23 يناير من العام الحالي، فرضت الحكومة الحجر المنزلي على 10 آلاف شخص في مناطق ياو ما تاي وجوردن في مقاطعة كولون، وفرضت إجراء فحوصات كورونا. ففي الأسابيع الثلاثة الأولى من 2021، تم تأكيد إصابة 162 شخصا في 56 مبنى في المنطقة، وهو رقم صغير نسبة للعديد من التجمعات المدنية الكبرى، مع ذلك يشكل 17% من إجمالي الحالات في المدينة البالغ عدد سكانها 7.5 مليون نسمة. وفي غضون بضعة أيام أخرى، تم فرض حظر ثان في منطقة مجاورة.
وقالت الرئيسة التنفيذية لهونغ كونغ كاري لام، في منشور على "فيسبوك" :"في إطار السعي للسيطرة على التفشي الوبائي، لا يمكننا الاستخفاف بأي مصدر للعدوى"، وأشارت إلى أن الهدف التالي للحكومة: "نريد أن نسبق العدوى ضمن المجتمع، وأن نصل تدريجياً إلى صفر حالات".
وتجدر الإشارة إلى أن الوحدات السكنية الصغيرة المجزأة المشمولة بالحظر، والتي تعرف أحياناً بـ "منازل القبور" ظهرت نتيجة ارتفاع أسعار العقارات والإيجارات إلى معدلات خيالية في هونغ كونغ.
أغلى سوق للعقارات في العالم
كان عدد سكان المدينة قد تضاعف بشكل كبير في خمسينيات القرن الماضي، حيث تشارك العديد من المهاجرين الصينيين الشقق مع غرباء. ولكن في العقود التالية بدأت الشقق المجزأة في التراجع مع توفر المزيد من المساكن العامة. ولكن إثر الأزمة المالية الآسيوية في العام 1997 وما تلاها من انهيار في السوق العقاري استمر لستّ سنوات، انخفضت أسعار العقارات بنسبة الثلثين، وقررت الحكومة تجميد توفير الأراضي دعماً للإسكان الخاص. ثمّ أدت حركة العمار في سنوات ما بعد الانهيار إلى نشوء أغلى سوق للعقارات في العالم.
منذ ذلك الحين، يتجاوز الطلب على الإسكان العام العرض بأشواط. ويقدر الوقت اللازم للحصول على منزل في هذه المباني بحوالي ستّ سنوات، وربما أكثر في الحالات التي لا تصنف كأولوية، ما يعني أن على طالبي السكن أن يجدوا أمكنة ينتظرون فيها.
ويعيش واحد من أصل خمسة أشخاص في هونغ كونغ تحت خط الفقر، ما يجعل هذه المدينة العصرية المزدهرة واحدة من أقل المدن مساواة في الاقتصادات المتقدمة. وفي المناطق الأكثر فقراً، تنتشر الشقق السكنية المقسمة إلى عدة غرف صغيرة.
وبحسب إحصاء السكان الأخير، كان أكثر من 200 ألف شخص يعيشون في 92 ألفا و700 شقة مجزأة في العام 2016. مع العلم أنه لا تتوفر سجلات رسمية بعدد السكان في الكثير من المباني، ما يشكل تحدياً آخر للحكومة التي تسعى للقيام باختبارات كورونا تشمل الجميع.
تتركز حالات الفيروس في الوحدات السكنية المجزأة بشكل كبير
كانت تبعات الفيروس في هونغ كونغ محدودة بالمقارنة مع مناطق أخرى حول العالم، حيث سجلت 10 آلاف إصابة و172 حالة وفاة منذ بداية الوباء. إلا أن تركز الحالات في الوحدات السكنية المجزأة يظهر إلى أي مدى تسهم هذه الشقق في تفشي الفيروس. حيث إن العديد منها لا تحتوي على أي نوافذ وتعاني من سوء التهوية. كذلك، يؤدي تشارك المرافق إلى تدني مستويات النظافة، حيث وجدت دراسة حكومية نشرت في العام 2016 أن 28% من سكان هذه المباني لم يملكوا مطبخاً مستقلاً و4% كانوا يتشاركون المراحيض، حتى إنه في بعض الحالات كان السكان مضطرين للطهي في المرحاض.
وقال تشان هونغ كي، المنسق الاجتماعي في "تحالف حقوق السكن" إنه غالباً ما يتم تجاهل قوانين البناء الحكومية في مثل هذه الأماكن، فيتم إجراء تعديلات على أنظمة السباكة والصرف الصحي بشكل غير شرعي. وأضاف: "كثير من أنابيب السباكة في المراحيض والمطابخ لم يتم تركيبها بالشكل المناسب، وحتى قبل الوباء، كان المكان أرضية خصبة لتفشي الفيروسات".
وأظهرت دراسة نشرها التحالف في شهر ديسمبر أن أكثر من 60% من أصل 171 شخصا شملهم الاستطلاع قالوا إن أنابيب السباكة لديهم تفوح منها رائحة كريهة، وهو مؤشر على احتمال وجود تسرب.
ومثل كثير من الفيروسات الأخرى، يتواجد فيروس كورونا في براز المرضى المصابين.
وبحسب تشان، فإن التفشي الأخير للفيروس ليس بالأمر المفاجئ، وقال: "سبق وحذرنا من أن تصميم الوحدات السكنية المجزأة هو قنبلة موقوتة"، وكانت المنظمة قد حثّت الحكومة على تشديد المراقبة وتطبيق القانون في العام الماضي.
وقالت وونغ يوك ليك التي تعيش مع عائلتها في وحدة سكنية مساحتها 60 قدما مربعة في حيّ كوون تونغ في مقاطعة كولون: "نحن قلقون جداً"، مشيرة إلى أن وحدتها السكنية هي جزء من شقة يسكنها أكثر من عشرة أشخاص، ومحذرة من أن أنابيب السباكة في المرحاض تبدو قديمة.
وأضافت: "يوجد عدد كبير جداً من الأشخاص الذين يقيمون هنا. حين يخرجون للعمل، نحن لا نعرف أين يذهبون، وأنا أخاف لأن عليّ أن أتشارك المطبخ والمرحاض معهم".
الشقق المجزأة مشكلة لن تزول قريباً
وفي صلب هذه المشكلة، يكمن افتقار هونغ كونغ للمساكن ذات الأسعار الميسرة، ما يجبر الفقراء على العيش في حاويات ومبان صناعية ووحدات مجزأة. وكانت المساكن المزدحمة في المجتمعات الفقيرة قد أسهمت في انتشار الفيروس في كثير من المدن حول العالم مثل سنغافورة، ولندن، ونيويورك.
وقالت وينكي تشان، العاملة الاجتماعية في جمعية "كوون تونغ الميثودية": "السكان كانوا مدركين أن تفشي الفيروس أمر حتمي"، ودعت الحكومة إلى التشدد في تنظيم هذه الوحدات السكنية.
وتابعت: "هم يتجاهلون المشكلة ولا يقومون بردة فعل إلا حين يحصل تفش"، مشيرة إلى أنه: "لا يمكن حلّ المشكلة على الفور بسبب المشاكل الهيكلية في المباني".
ونظراً إلى شحّ المساكن في هونغ كونغ، يبدو أن الشقق المجزأة مشكلة لن تزول قريباً. وقد طالبت المنظمات الحقوقية الحكومة بتحديد سقف أعلى للزيادات في الإيجارات من أجل التخفيف من الأعباء المالية التي يرزح تحتها المستأجرون خلال فترة الوباء، وتحميل أصحاب المنازل مسؤولية الصيانة.
وتدرس لجنة عمل حكومية حالياً سبل ضبط الإيجارات وغيرها من القواعد التنظيمية من أجل حماية مستأجري هذه الوحدات، بحسب ما أفادت به وسائل الإعلام المحلية. كذلك، تسعى الحكومة لإيجاد أراض جديدة لبناء مساكن عامة عليها، وذلك على الرغم من أن العرض المتاح لا يزال أقل من الطلب.
وكان اقتراح طموح بتخصيص 624 مليار دولار هونغ كونغي (80 مليار دولار) لبناء جزر صناعية تخصص للتطوير العقاري قد أثار موجة من الشكوك، كما أن تحقيقه إذا تم قد يستغرق عقودا.
وفي غضون ذلك، لا خيار أمام المستأجرين المقيمين في هذه المباني المهترئة إلا الاتكال على أنفسهم. وقالت وونغ: "إننا نقوم بكلّ ما هو باستطاعتنا، أنا أنظف المرحاض والرواق بالمطهرات أكثر من أي وقت مضى".