بلومبرغ
من غرفة الجلوس في شقتي بالطابق الرابع، يمكنني رؤية أعالي الأشجار تتمايل في هواء الربيع، ويمكنني أن أشعر بدفء أشعة الشمس المنعكسة على حجري. إنَّ العالَم الخارجي الرائع بهدوئه الذي يبدو كأنَّه غير مبال بالفيروس، الذي يعيث خراباً في كل أنحاء العالم، هو موجود أمامي، ويمكنني رؤيته من النافذة، غير أنَّه في عصر التباعد الاجتماعي تبدو عقبات الوصول إلى هذا العالَم هائلة.
فرص الإصابة بكورونا أكبر في الأمكان الضيقة
وبالنسبة إلينا، نحن مَن نعيش في المباني السكنية، فإنّّ كل جزء من الرحلة، من عتبة الشقة إلى العالم الخارجي، يمكن أن يزيد من مخاطر إصابتنا بالفيروس، كما يمكن أن تضعنا الممرَّات الضيقة، والمصاعد الصغيرة على مسافة قريبة جداً من جيراننا وجراثيمهم، وتحمل مسكات الأبواب والأزرار مزيداً من المخاطر.
"لو أنَّ لديّ واحدة فقط".. أتمتم وأنا أنظر إلى شرفات جيراني، وأحلم بالاستلقاء تحت أشعة الشمس على كرسي الحديقة الذي وضعه أحد جيراني، أو بتناول الغداء على الطاولة الخاصة بهم، المحاطة بحديقة صغيرة. وقد أثبِّت أرجوحة شبكية على طرفَي السور مثلما رأيت أحدهم يفعل عندما ذهبت لشراء حاجاتي. وفي أحلك أيام الحجر، أشعر بالسعادة عند التفكير في الجلوس على الشرفة حتى في الطقس السيئ.
ومما لا شك فيه أنَّ هذه الرغبة قد تبدو سخيفة مقارنةً بخطورة الجائحة، والعواقب الاقتصادية المتتابعة لها، لا سيَّما بالنسبة إلى من لا يملكون منزلاً أصلاً، لكنَّها رغبة يتشاركها كثير من سكان المدن الذين باتوا محاصَرين في شُقَقهم الصغيرة. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي يتحدَّث من يعيشون في شُقَق لا تدخلها الإضاءة أنّهم لن يستقروا في شقة دون شرفة بعد الآن. كما تزداد رغبة من يعيشون مع شخص واحد على الأقل في الهروب من التوترات المتصاعدة في الداخل إلى متنفس خارجي.
هالي هوفمان: لن أعيش في شقة دون شرفة أبداً
وتعكس هذه الرغبة المتصاعدة قيمة المساحة الخارجية الخاصة، وعددها المحدود في المدن، سواء كانت فناءً، أو حديقة، أو حتى مخرجاً للطوارئ، إذ يُعَدُّ أي نوع من المساحة الخاصة سلعةً ثمينة.
ويقول برنت توديريان مستشار التخطيط المدني المقيم في فانكوفر: "تحمل الشرفات عديداً من المزايا لتحسين جودة الحياة، والمحبة، والاستمتاع بالعيش في السياقات الحضرية، وذلك حتى قبل الجائحة، ويُعَدُّ السبب الأهمُّ لذلك أنَّها تربط الشقق في المدن العالية الكثافة بالشوارع والعالم الخارجي".
ومع مرور وقت على التزام الناس أوامر البقاء في مدنهم ومنازلهم، باتت هذه الميزة متجلية الآن أكثر من أي وقت مضى، إذ باتت الشرفات ترمز إلى أنواع جديدة من الحرية، وتمكِّن الأفراد مِن تقبُّل العزل الاجتماعي دون الشعور بالمحاصرة، وتتيح أيضاً لهم الاستمتاع بالهواء المنعش دون الخوف من تنشّّق الفيروس.
وخضع مليارات الناس عالمياً للإقفال التام، من ضمنهم 95 % من سكان الولايات المتحدة بدءاً من أوائل أبريل، وباتوا يلزمون منازلهم من أيام حتى أسابيع، علماً أنَّ العديد منهم يعيشون بمفردهم.
ولا تزال عدَّة من أوامر البقاء في المنزل تسمح للناس بالانخراط في أنشطة خارجية فردية، مثل المشي والركض، ويُعَدُّ هذا الاحتكاك مع العالم الخارجي ضرورة ملحة للحالة الذهنية، إذ إنَّ الخبراء الصحيين توقَّعوا أن يؤثِّر العزل الاجتماعي المطوَّل بشكل سلبي في الصحة العقلية، ومع ذلك فإنَّ مغادرة المنزل سلاح ذو حدَّين الآن.
توجيهات التباعد الاجتماعي
وحملت مقالة نُشرت في "واشنطن بوست" العنوان التالي: "الخروج هو ملاذنا الوحيد.. ولكنَّه أصبح مخيفًا للغاية أيضاً"، و في حين تلجأ الحكومات إلى إغلاق الحدائق والطرقات، يُحشَر الناس على الأرصفة الضيقة في أحيائهم.
وأغلقت بعض المدن الطرقات أمام السيارات للسماح للمشاة، ولراكبي الدراجة الهوائية بالتنقل، إلّا أنَّ التزام توجيهات التباعد الاجتماعي قد يبقى أمراً صعباً، إذ يعني هذا أنَّ مغادرة المنزل التي كانت في السابق أمراً عادياً، باتت تنطوي الآن على تحضيرات جسدية (التحقق من ارتداء الكمامات، وتعقيم اليدين) والحسابات الحذرة (كم يبلغ عرض مسافة المتر ونصف المتر)، حتى عندما تعود إلى المنزل متسائلاً بقلق لأيام عمَّا إذا كان الشخص الذي ركض بجانبك، وتنفس على مسافة قريبة منك قليلاً قد نقل إليك العدوى (يمكن أن تستغرق أعراض "كوفيد-19" 14 يوماً لتبدأ بالظهور).
إنَّ أكثر الأمور الواضحة التي كشفت عنها هذه الجائحة في تفاصيل معيشة المدن الصغيرة، هي عرض الأرصفة، وعمق الشرفات، ولكنَّ عدد الشرفات قليل إلى حدٍّ ما في عديد من المناطق الحضرية الأكثر كثافة.
الوصول إلى شرفة أو فناء
ووفقاً لدراسة استقصائية عن الإسكان الأمريكي أُجريت في 2017، يملك 62 %من المستأجرين فقط القدرة على الوصول إلى "شرفة، أو فناء، أو سطح، أو رواق" في المناطق الحضرية الـ15 الأكثر سكاناً.
ويتمتَّع ثلثا المستأجرين فقط في سان فرنسيسكو بهذه القدرة، إلّا أنَّ من ينفقون أكثر من نصف دخولهم على الإيجار الشهري يشكِّلون نسبة 20% من هذه المجموعة. وفي مدينة نيويورك يمكن لثلث المستأجرين فقط الوصول إلى وسائل الراحة هذه، ويدفع نصفهم ما لا يقل عن 1,500 دولار كإيجار شهري.
وأما بالنسبة إلى توديريان، فليست كل الشرفات كبيرة بما يكفي لتكون مفيدة، ويقول، إنَّّ متعهدي البناء يبنونها بثلاثة أحجام إجمالاً. وتسمى الشرفات الصغيرة شرفات جولييت "الزائفة"، وهي شائعة في المدن الأوروبية، وموجودة أيضاً في شقق أمريكا الشمالية، وتوجد أمام النوافذ، وهي تكفي لوقوف شخص واحد فقط (ربما من تبحث عن روميو الخاص بها). ومن ناحية أخرى، هناك الشرفات ذات الحجم الكامل التي يصل عمقها إلى ستة أقدام تقريباً (القدم = 3040. متراً) ويمكنها أن تتسع لطاولة وكراسي، وربما شواية.
سحر واشنطن العقاري
ويتابع توديريان: " هناك شرفات متوسطة تتمتع بمساحة، ولكنَّها تبدو للعرض فقط، إذ إنها لا تملك كثيراً من العمق لوضع كرسي معقول، والجلوس دون وضع رجليك على الدرابزين". وفي الواقع، هذه الشرفات شائعة في واشنطن حيث أعيش.
وأشار إليها مقال نُشِر في "واشنطن بوست" في 2013، تحدَّث عن معضلة الشرفات الصغيرة على أنَّها "سحر واشنطن العقاري"، إذ "لا شيء يتَّسع، ولا حتى الأحلام التي كانت لديك بشأنها".
ووفقاً لتوديريان، فإنَّ الشرفات الصغيرة وغير العملية غالباً ما تكون نتيجة لقوانين تقسيم المناطق، إذ في بعض الحالات تحدُّ المدن أحجام المساحات الخارجية الخاصة في المباني المتعددة الوحدات. وعلى نحو أكثر شيوعاً، لا تفرض المدن حدوداً، ولكنها تضع قوانين تُثني متعهدي البناء عن بناء شرفات أكبر.
ويقول توديريان: "يملك عديد من المدن قدراً معيّناً من المساحة يمكن لمتعهدي البناء الحصول عليه مجاناً للشرفات". وتخصص هذه القوانين قدراً معيّناً من المساحة يمكن لمتعهدي البناء استخدامه دون أن يدفعوا لكل متر مربع، أو دون أن يُحتسَب جزءاً من مساحة الموقع القصوى، إن وُجِدَت.
ويسمح ذلك لمتعهدي البناء ببناء شرفات صالحة للاستخدام بشكل أكبر، ولكن المشكلة تكمن في أنَّ المساحة المجانية عادةً ما تكون صغيرة للغاية، مما يعني أنَّه تحصل مقايضة لجعل مساحة الشرفة أكبر.
ويضيف توديريان: "إذا بنيت شرفات أكبر، فهذا يعني بناء مساحة داخلية أصغر، ولن يُرضي ذلك أيّ متعهد بناء، وبالتالي تحصل على شرفات أصغر"، أو لا تحصل على أي شرفة أحياناً.
وبدلاً من ذلك، قد يقدِّم بعض متعهدي البناء مساحات خارجية مشتركة أكبر، ومصممة كأماكن للتجمُّع، ويستفيد منها كل سكان المبنى، مثل أسطح الأبنية، أو الأفنية. ووفقاً للجمعيات الوطنية للشقق، وفي دراسة استقصائية تناولت عدَّة مدن أمريكية، فإنَّ هذا الخيار يُعَدُّ أحد أفضل خواصّ الراحة التي أضافها مالكو العقارات، أو حدَّثوها على مدى السنوات القليلة الماضية.
خصائص مهمة للشقق
وبصفته كبير المخططين السابق لفانكوفر، عدَّل توديريان القوانين الداخلية للمدينة ليحِفِّز بناء شرفات أكبر، ويمكنها أيضاً أن تلبّي حاجات أخرى. وبموجب القوانين المعدَّلة، يمكن أن يزيد متعهدو البناء قدر مساحة الشرفة المستثنى في حال تمكَّنوا من إظهار أنَّ تصميمه أضاف ثلاث خصائص للشقق: قابلية العيش، ومصلحة المبنى المعمارية، والأداء الأخضر للعقار.
وبالنسبة إلى العامل الأخير فيمكن أن تساعد الشرفات على تقليل استخدام الطاقة من خلال توفيرها لما يسمى بـ"الظل السلبي"، الذي يمكنه أن يبرِّد المنازل طبيعياً. وقال، إنَّ النتيجة أدَّت إلى بناء أفضل، فـ"ليس عليك أن تعيِّن مهندساً معمارياً خارقاً، عليك فقط أن تفكِّر في الأمر قليلاً ".
وفي حين يفكر المخططون الحضريون في كيفية تكييف المدن مع المستقبل اللاحق للجائحة، بما في ذلك إعادة تصميم الطرقات، وجعلها أكثر مرونة للكوارث، فهناك مجال لمناقشة تحسين تصاميم المباني لجعل المدن أكثر قابلية للعيش. يقول توديريان: "إنَّ أكثر الأمور وضوحاً التي كشفت عنها هذه الجائحة في المدن الصغيرة هي: عرض الأرصفة، وعمق الشرفات".
وفي حين أنَّ المدن ومتعهدي البناء كانوا ينظرون سابقاً إلى الشرفات على أنَّها وسيلة راحة تزيد من القيمة السوقية، أظهرت الجائحة أنها تخدم أغراضاً أعظم بكثير. وفي الأحياء حيث الشرفات المواجهة للشارع شائعة بشكل خاصّ، أصبحت هذه أيضاً منصات تخدم المرونة المجتمعية، والتواصل الاجتماعي.
معارض فنية وعروض ارتجالية
وشارك سكان فانكوفر كما في العديد من المدن حول العالم، في هتافات ليلية للعاملين في مجال الرعاية الصحية من شرفاتهم، إذ يغنّي الجيران، ويرقصون معاً أيضاً، ويقضون أوقات تسلية مع بعضهم من خلال المعارض الفنية المؤقتة، والعروض الارتجالية حتى جلسات الرياضة المفيدة بشكل خاص للراشدين الأكبر سناً، الذين حتى وإن كانوا يعيشون في طوابق عالية، أو عبر طرق واسعة كانت مليئة بالسيارات من قبل، تمكِّنهم الشرفات من بناء العلاقات مع جيرانهم من منازلهم الآمنة.
واستعاد السكان في نابولي، بإيطاليا، التقليد القديم المتمثِّل بإنزال "سلال التضامن" المليئة بالطعام من شرفاتهم للمساعدة في إطعام السكان المحتاجين. وفي المدن الملوَّثة بشكل كبير، أصبحت الشرفات أيضاً مساحات مفيدة للمرة الأولى، بفضل انخفاض التلوث الهوائي جزئياً نتيجة تراجع زحمة السير.
وكتب المصور والكاتب المقيم في الهند شريكانث جوفينداراجان عن تجربته في تمضية الوقت على شرفة شقته، وهي مساحة كانت مخصصة حسب قوله سابقاً لتجفيف الملابس، ويمكنك قراءة ذلك هنا.
ومن التأكيد أنَّه مع كلِّ ما يحصل؛ كان الخروج إلى الشرفة بمثابة هروب من ضجر الحجْر الصحي. إنَّ الأمر أشبه بمتعة ناتجة عن رؤية شارع فارغ مع صمت مطبق، يملؤه صوت زقزقة العصافير فقط. وقد تستمر بعض الاستخدامات المتغيِّرة للشرفات على الأقل لأكثر من الأشهر القليلة الماضية، مما يزيد من احتمالية زيادة الطلب على الشرفات وفوائدها في السنوات القادمة.
ويقول توديريان أخيراً: "السؤال هو: هل نحن جاهزون لإعادة التفكير في افتراضاتنا القديمة بشأن مدى فائدة الشرفات؟ وكيف يمكن أن نبنيها بشكل جيد بعد أن اكتسبنا هذه الخبرة المستفادة نتيجة ملازمة المنزل قسراً؟".