سوريا والنفط.. إرث الماضي ورهان المستقبل

هناك حاجة ماسة لفصل الحقائق عن التوقعات والتحليلات المتناقضة والمتأرجحة بين سرديات غارقة في التشاؤم وأخرى مفرطة في التفاؤل

time reading iconدقائق القراءة - 16
شخص يحمل في راحتيه كمية من النفط الخام - رويترز
شخص يحمل في راحتيه كمية من النفط الخام - رويترز
المصدر:

الشرق

- مقال رأي

بقلم: رياض النزال

مع دخول العام 2025، تشهد سوريا بداية عهد جديد بعد سقوط نظام الأسد، حيث أصبحت الحاجة ملحّة لاستغلال كافة الموارد المتاحة لدعم جهود إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد. وفي هذا السياق، يمثل النفط أحد أهم ركائز الاقتصاد السوري وأبرز روافده المستقبلية.

لكن مع وفرة المعلومات المتداولة حول الإمكانيات البترولية لسوريا في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، تظهر الحاجة الماسة إلى فصل الحقائق عن التوقعات والتحليلات التي غالباً ما تتسم بالتناقض، حيث تتأرجح بين سرديات غارقة في التشاؤم وأخرى مفرطة في التفاؤل. 

انطلاقاً من ذلك، يسعى هذا المقال لتقديم صورة دقيقة وشاملة عن الإمكانات البترولية في سوريا تاريخياً ووصولاً إلى واقعها الحالي؛ وتقديم نظرة مستقبلية واقعية مدعومة بتحليل تقني وفني يستند إلى خبرتي الميدانية والأكاديمية المتواضعة طوال 15 عاماً في مجال الاستكشاف والإنتاج ضمن القطاع النفطي السوري، خلال عملي لدى الشركات الوطنية أو الأجنبية.

البدايات ورسم الخرائط (1925-1960)

في عام 1925، حصلت شركة البترول التركية (البريطانية) على امتياز التنقيب عن النفط في العراق عن طريق تحالف شركات أميركية وبريطانية وفرنسية لتتوج في العام 1926 باكتشاف النفط تجارياً في تركيب بابا كركر شمال مدينة كركوك حيث تدفق النفط من بئر "بابا كركر-1"، بأكثر من 95 ألف برميل من النفط يومياً، ما شكّل نقطة تحول في صناعة النفط بالمنطقة. 

بدافع هذه النتائج الواعدة، وسعت شركة نفط العراق أنشطتها، فحصلت عام 1934 على امتياز للتنقيب في سوريا. بدأت عملياتها الاستكشافية في عام 1936 واستمرت حتى عام 1947، إذ حفرت 11 بئراً استكشافياً في مختلف الأحواض الرئيسية دون تحقيق نتائج إيجابية، ما أدى إلى إنهاء الامتياز في عام 1951.

لاحقاً، وفي عام 1955، منحت الحكومة السورية امتياز التنقيب لشركة منهل الأميركية، التي باشرت التنقيب في منطقة "كراتشوك" (قره جوخ) شمال شرق سوريا. أسفر العمل عن نتائج مخيبة في أول بئر (كراتشوك-1)، لكن البئر الثاني (كراتشوك-2) أثبت وجود النفط تجارياً لأول مرة في سوريا. نتيجة لهذا الاكتشاف، حوّلت الحكومة السورية امتياز التنقيب لشركة "كونكورديا" الألمانية في عام 1956، التي اكتشفت بدورها عام 1959 حقل السويدية، أهم وأكبر حقول النفط في سوريا.

يُعد "حقل السويدية"، المعروف بـ"درة حقول النفط السورية"، أحد الحقول الكربوناتية العملاقة عالمياً، حيث يحتوي على احتياطي جيولوجي يزيد عن 8 مليارات برميل من النفط. يمتد الحقل على مساحة 186 كيلومتراً مربعاً، بأبعاد 25×12 كيلومتراً وسماكة طبقة منتجة تصل إلى 340 متراً. يتميز النفط المنتج بكونه متوسط اللزوجة، بدرجة 24 وفقاً لمقياس الجودة الأميركية.

التأميم والاستثمار الوطني (1960-1980)

في عام 1964، أصدرت الحكومة السورية المرسوم رقم 133 القاضي بحصر استثمار الثروات الباطنية بالدولة فقط. تزامن هذا القرار مع توقيع اتفاقية للتعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي، والتي أثمرت لاحقاً عن اكتشاف حقول نفطية مهمة في تراكيب الرميلان، وحمزة، وعليان في شمال شرق سوريا.

وفي عام 1974، تم تأسيس "الشركة السورية للنفط" لتكون الجهة المسؤولة عن عمليات الاستكشاف، والحفر، والإنتاج. تميزت هذه المرحلة بتركيز الجهود على زيادة الإنتاج من خلال تكثيف عمليات الحفر في الحقول المنتجة، وإعادة حقن المياه لزيادة الضغط الطبقي الذي انخفض نتيجة الإنتاج المفرط. ومع ذلك، أدى هذا النهج إلى أضرار مبكرة في الطبقات الخازنة، مثلما حدث في "حقل السويدية".

"حقل السويدية"، الذي بدأ الإنتاج فيه فعلياً عام 1968 بمعدل 8.3 مليون برميل سنوياً، شهد ارتفاعاً ملحوظاً في الإنتاج حتى بلغ ذروته عام 1975 بإنتاج 50 مليون برميل سنوياً، مع تشغيل 22 بئراً في البداية. إلا أن الإنتاج أخذ بالانخفاض التدريجي لاحقاً ليصل إلى 23 مليون برميل سنوياً بحلول عام 2001، رغم زيادة عدد الآبار العاملة إلى 685 بئراً، منها 114 بئراً أفقياً و571 بئراً عمودياً. 

عودة الاستثمار الأجنبي (1980-2011)

نتجية للانخفاض الحاد في إنتاج النفط السوري بداية الثمانينات، لجأت الحكومة السورية إلى توقيع عقود للتنقيب وتقاسم الإنتاج مع عدد من الشركات الأجنبية الكبرى مثل "توتال" و"إلف" و"شل" و"ماراتون". قامت هذه الشركات بتنفيذ مسوحات مغناطيسية وزلزالية، وحفرت أكثر من 200 بئر استكشافي، أثمرت عن اكتشافات تجارية مهمة للنفط والغاز في عدة تراكيب.

أهم الاكتشافات خلال تلك الفترة كان في منطقة دير الزور، حيث نجح تحالف يضم شركات "شل" و"إلف" و"توتال" في اكتشاف احتياطيات ضخمة من النفط. ففي عام 1984 تم اكتشاف "حقل التيم"، تلاه "حقل العمر" عام 1987، الذي يعد من أهم الحقول النفطية في سوريا. يقع حقل العمر جنوب شرق مدينة دير الزور، ويحتوي على احتياطي يُقدّر بـ760 مليون برميل من النفط الخام الخفيف. بدأ الحقل الإنتاج بمعدل 90 ألف برميل يومياً، لكن الإنتاج انخفض إلى 16 ألف برميل يومياً بحلول عام 1992 نتيجة انخفاض الضغط الطبقي. لاحقاً، أدى تطبيق تقنيات حقن المياه إلى زيادة الإنتاج ليصل إلى 65 ألف برميل يومياً بحلول عام 2001، بينما بلغ الإنتاج التراكمي للحقل 1.5 مليار برميل في عام 2006.

كما شهدت المنطقة اكتشافات لعدد كبير من الحقول مثل "الورد"، "التنك"، "الأحمر"، "عكاش"، و"الجفرة" بين مدينتي البوكمال ودير الزور، مما جعل "منخفض الفرات" ثاني أهم منطقة نفطية في سوريا بعد حقول الحسكة. بدورها، شهدت الحسكة اكتشافات جديدة خلال هذه الفترة، خصوصاً في التراكيب الواقعة على الحدود التركية مثل "عودة"، "سعيد"، و"سازبه"، التي أضافت إلى ثروة البلاد من النفط الثقيل.

في منطقة تدمر وسط سوريا، تمكنت شركة "ماراثون" من اكتشاف النفط والغاز في عدة تراكيب مهمة مثل "الأرك"، "الشاعر"، "أبو رباح"، "قمقم"، "الشريفة". ساهمت هذه الاكتشافات في تحقيق ذروة الإنتاج النفطي السوري، حيث بلغ الإنتاج 560 ألف برميل يومياً عام 1995، وهو أعلى مستوى في تاريخ البلاد. لكن الإنتاج بدأ في التراجع تدريجياً ليصل إلى 385 ألف برميل يومياً بحلول عام 2002، مما دفع الحكومة السورية إلى طرح مناطق جديدة للاستثمار عبر مزايدات عالمية. كما تم إصدار قوانين لتنظيم عمل الشركات الأجنبية تحت إطار "شركات عقود الخدمة"، والذي ساعد على اكتشافات بارزة هي:

  • شركة "غالف ساندز" البريطانية: حصلت على عقد للتنقيب شمال شرق سوريا. اكتشفت في عام 2008 حقل "شرق خربت"، ثم حقل "اليوسفية" عام 2010، باحتياطي إجمالي قدره 250 مليون برميل. بلغ الإنتاج من هذه الحقول 25 ألف برميل يومياً بحلول عام 2012.
  • شركة "تات نفت" الروسية: اكتشفت النفط عام 2010 في حقل "الكشمة" بريف مدينة البوكمال، الذي قٌدّرت احتياطياته بـ40 مليون برميل​.
  • شركة "إينا" الكرواتية: حققت في عام 2005 الاكتشاف الأهم في منطقة تدمر بوسط سوريا، حيث تمكنت من اكتشافات تجارية في ست حقول هي "جهار"، "المهر"، جزل"، "بالميرا"، "مستديرة"، و"مزرور". قدرت احتياطيات الغاز المكتشفة بـ280 مليار متر مكعب، مع طاقة إنتاجية بلغت 2.7 مليون متر مكعب يومياً من حقل "الشاعر" شرق حمص​.

في العام 2005 فرضت الإدارة الأميركية حزمة من العقوبات الاقتصادية على سوريا لتبدأ الشركات الاجنبية الكبرى تنسحب تدريجياً من سوريا ببيع أصولها لشركات صينية أو هندية وصولاً للعام 2011 حيث فرضت عقوبات دولية مباشرة على قطاع النفط السوري لتعلن أغلب الشركات القوة القاهرة وتوقف عملياتها وتغادر سوريا.

نيران التغيير (2012-2024)

مع بداية عام 2012، كانت معظم المدن السورية قد ثارت في وجه نظام الأسد، وشهدت المناطق النفطية نزاعات حادة نتيجة تغير السيطرة على الأرض وتنازع القوى المختلفة على عائدات النفط. في أبريل 2012، وقع النظام السوري عقداً مع "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" لتولي "حماية وتشغيل المنشآت النفطية" في شمال شرق سوريا. إلا أن ضعف الخبرة الإدارية والتشغيلية، إلى جانب الانفلات الأمني، تسبب في إغلاق غالبية الآبار المنتجة، ما أدى إلى هبوط الإنتاج إلى أدنى مستوى في تاريخه، حيث بلغ 1500 برميل يومياً في عام 2014.

مع استقرار الأوضاع نسبياً تحت سيطرة القوات الكردية (الإدارة الذاتية) ، ارتفع الإنتاج تدريجياً ليصل في أواخر عام 2020 إلى نحو 87 ألف برميل يومياً، بالإضافة إلى إنتاج نصف مليون متر مكعب من الغاز يومياً يتم توريده إلى محطة "السويدية" لمعالجة الغاز المرافق.

في منطقة دير الزور كانت الأمور أكثر تعقيداً نتيجة لتغير خرائط مناطق النفوذ وتبدل القوى المسيطرة عدة مرات حيث وقعت حقول "العمر"، و"التيم"، و"التنك"، و"الورد"، و"الجفرة"، ومعمل غاز "كونيكو" تحت سيطرت فصائل المعارضة المحلية عام 2012 ثم تنظيم "داعش" الإرهابي عام 2014 وبعدها الوحدات الكردية "قسد " عام 2017. هذا التنازع ادى الى تدمير معظم البنية التحتية في هذه الحقول. 

كما كانت منطقة تدمر وريف حمص مسرحاً للكر والفر بين قوات النظام و"داعش" الذي سيطر في عام 2014 على حقول "جبل الشاعر" أهم حقول الغاز في المنطقة؛ وامتدت سيطرة التنظيم على حقول "الأراك" و"الهيل" عام 2015 حيث تعرضت معظم الآبار الى التخريب والحرق.

أسفرت هذه النزاعات عن تدمير واسع للبنية التحتية النفطية والغازية في البلاد، مما أثر بشكل كبير على إنتاج الطاقة وساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية. وعلى الرغم من الجهود لاستعادة الإنتاج في بعض المناطق، فإن قطاع النفط والغاز في سوريا يواجه تحديات هائلة لإعادة البناء وتحقيق الاستقرار.

بارقة الأمل لقطاع النفط في سوريا

على الرغم من التحديات الكبيرة التي تلف قطاع النفط السوري، تلوح في الأفق بارقة أمل. فمن النقاط الإيجابية التي تعزز التفاؤل بمستقبل القطاع النفطي في سوريا، أن التخريب والنهب خلال السنوات الماضية أثّرا فقط على جزء من الموارد، بينما لا يزال الجزء الأكبر من الثروات الباطنية محفوظاً في أعماق الأرض، منتظراً جهوداً منظمة ومخلصة لاستخراجه واستثماره بالشكل الأمثل. هذه الإمكانات تمثل فرصة حقيقية لإعادة بناء القطاع النفطي وجعله رافعة أساسية لتعافي الاقتصاد الوطني.

وفقاً لدراسات دقيقة أجرتها المؤسسة العامة للنفط عام 2010، قُدرت الاحتياطيات النفطية في سوريا بنحو27 مليار برميل من النفط و678 مليار متر مكعب من الغاز، دون احتساب احتياطيات المناطق البحرية. تشير هذه الأرقام إلى إمكانات هائلة تنتظر الاستغلال. 

وزير تركي: نتطلع لاتفاقية ترسيم حدود بحرية مع سوريا

لاستثمار هذه الاحتياطيات، يتطلب الأمر إعادة هيكلة شاملة للقطاع النفطي في سوريا. يجب أن تبدأ هذه الجهود بتأهيل الحقول العاملة وإعادتها للإنتاج بشكل تدريجي وفق خطة متكاملة تعتمد على الكوادر الوطنية المؤهلة. كما ينبغي تشجيع عودة الشركات الأجنبية للاستثمار في القطاع، مع ضرورة مراجعة شروط عقود الخدمة بما يضمن تحقيق استثمار مستدام يعزز من إمكانيات القطاع ويضمن تنمية المجتمعات المحلية في المناطق التي تحتضن هذه المشاريع.

وربما ينبغي إعطاء الأولوية لتشغيل حقول "السويدية"، و"رميلان"، و"كرا تشوك"، و"حمزة"، و"اليوسفية"، و"شرق خربت" في شمال شرق سوريا، وذلك لجاهزيتها النسبية وانتاجيتها العالية وارتباطها بمنشآت معالجة الغاز في محطة الغاز المرافق بـ"السويدية"، لتوليد الكهرباء والغاز المنزلي، و"محطة تل عدس" لمعالجة وضخ النفط. بينما تحتاج حقول دير الزور الى جهد أكبر من إعادة تأهيل وتشغيل وربط الآبار المنتجة بمحطات التجميع من حقول "العمر"، و"التيم"، و"التنك"، و"الورد"، و"نيشان"، و"أبو خشب". وينطبق الأمر ذاته على حقول الغاز في المنطقة الوسطى، لارتباطها المباشر بمحطات توليد الكهرباء التي تغذي المدن والمناطق الصناعية. 

كما يتوجب إدخال حقول جديدة في الإنتاج عبر تفعيل الحملات الاستكشافية لتقييم التراكيب الواعدة في محافظات الحسكة، ودير الزور، وحمص، والتي أثبتت الدراسات والمسوحات الزلزالية وجود شواهد نفطية فيها قبل بدء الأحداث في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، يجب التوسع في الاستكشاف ضمن المياه الاقتصادية السورية في البحر المتوسط.

والأهم إنشاء بنك معلومات وطني يتسم بالشفافية وحرية تداول المعلومات، بهدف إعادة تقييم المعطيات الحالية من قبل كوادر فنية وأكاديمية متخصصة. كما ينبغي تعزيز التعاون وتكامل البيانات مع الدول المجاورة، لا سيما مع الحقول العابرة للحدود، مثل: حقل "صفية" (الجزء العراقي من حقل السويدية السوري)، وحقل "جومورلو" (الجزء التركي من حقل سازابه السوري)، وتوضعات السجيل الزيتي جنوب سوريا الممتدة إلى شمال الأردن، بالإضافة إلى غاز شرق المتوسط المشترك مع تركيا، وقبرص، ولبنان.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب فقط، ولا تعكس بأي حال من الأحوال موقف أو رأي "الشرق للأخبار".
تصنيفات

قصص قد تهمك

النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان

دمشق

4 دقائق

13°C
سماء صافية
العظمى / الصغرى 13°/13°
4 كم/س
55%