في الشرق الأوسط، أصبح المثل القائل "عدو عدوي.. صديقي" هو السائد. وبهذ المنطق، اتجهت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها بهدوء، وأحياناً بوضوح، إلى الاصطفاف مع إسرائيل في مواجهة إيران.
لكن هذا قد تغير.
في ظل وقوعهم بين قوتين متعاديتين، بدأت السعودية ودول خليجية أخرى التلميح إلى تبني موقف محايد تجاه إيران. هذه التحركات الدبلوماسية التي تجري خلف الكواليس تعكس جزئياً العجز عن التأثير في الأزمة، وعدم القدرة على فرض نفوذ ملموس على كل من إيران وإسرائيل. كما تعكس هذه التحركات جزئياً خوفاً من أن تلحقهم أضرار الصراع الدائر.
أبرز نتائج الاجتماعات بين الدبلوماسيين العرب والإيرانيين خلال الأسابيع الماضية كان التوجه نحو عدم المشاركة في الصراع. هذا التوجه بدأ منذ سنوات، وله تأثير كبير على أسواق المال العالمية. فهو يقلل من احتمالات حدوث سلسلة من الهجمات المتبادلة على المنشآت النفطية في المنطقة.
كيف استوعبت سوق النفط التقارب السعودي الإيراني؟
أسواق النفط لم تستوعب بعد التحول في العلاقات السعودية الإيرانية، الذي ظهر بوضوح في إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما العام الماضي بوساطة صينية، إضافة إلى الجهود الإقليمية المستمرة. بالنسبة لبكين، التي تعد أكبر مستورد للنفط السعودي والإيراني، فإن استقرار العلاقات بين الدولتين المؤثرتين في الشرق الأوسط أمر بالغ الأهمية. وهذا يجعل الشرق الأوسط في 2024 مختلفاً تماماً عما كان عليه قبل خمس سنوات. وبالتالي، قد يكون سعر النفط أقل عرضة للخطر مما يأمله العديد من المراهنين على صعوده.
من أهم هذه اللقاءات الدبلوماسية كانت الزيارة النادرة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، إلى السعودية الأسبوع الماضي، حيث استقبله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بالإضافة إلى نظيره السعودي. الصور التي نشرتها وسائل الإعلام السعودية أظهرت أجواء ودية بين الطرفين، ما يعكس رسالة واضحة: ربما لسنا أصدقاء، لكننا لسنا بحاجة لأن نكون أعداء.
في وقت سابق، التقى عراقجي بوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في 3 أكتوبر، وهو لقاء وصفه عبدالعزيز العويشق، الدبلوماسي البارز في المجلس، بأنه “قد يمثل بداية لمرحلة جديدة في العلاقات” بين إيران وجيرانها العرب.
هذا التحول يعكس اتجاهين رئيسيين: الأول هو الانفراج بين السعودية وإيران والذي بدأ منذ منتصف 2021 وتطور في 2023، والثاني هو خيبة الأمل السعودية من إدارة البيت الأبيض وحكومة نتنياهو اليمينية.
خلال حملة "الضغط الأقصى" التي قادتها الولايات المتحدة ضد إيران بين 2017 و2021، دعمت السعودية الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وبشكل ضمني، إسرائيل. لكن ذلك تغير في 2019 عندما تعرضت السعودية لهجوم كبير بالطائرات المسيرة على أهم منشآتها النفطية في بقيق من قبل جماعات موالية لإيران، ولم يتخذ ترمب أي إجراء انتقامي ضد طهران، مما خيب آمال الرياض.
"السعودية أولاً"
ومنذ ذلك الحين، أعادت الرياض تقييم ما يصب في مصلحتها الأمنية الوطنية. فهي لا تسعى إلى إقامة صداقة مع طهران، ولكنها لم تعد مهتمة بدعم الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة إيران كالسابق. وبالنسبة للمملكة، فإن حماية تدفقاتها النقدية من النفط تشكل أهمية بالغة، لذا فهي تعمل على تقليل المخاطر التي قد تنجم عن إنفاق مليارات الدولارات في مشاريع سياحية كجزء من برنامج رؤية 2030. والواقع أن الفنادق الفاخرة في البحر الأحمر هي من يجتذب الأجانب إلى المملكة؛ وليس الصراعات. وهذا جزء آخر مما أسميه سياسة "السعودية أولا".
كما أن انخفاض الهجمات الحوثية المدعومة من إيران على السعودية في الأشهر الأخيرة ساهم في تهدئة التوترات. لم تستهدف الجماعات الحوثية أي منشآت نفطية سعودية، في تراجع واضح عن سلسلة الهجمات التي شهدتها السنوات السابقة (2019 و2020 و2021 و2022).
تفاهمات سعودية إيرانية
في ظل الأزمة الحالية، يبدو أن إيران تسعى إلى تحقيق هدفين من السعودية. الأول هو ضمانات بعدم استخدام أراضي المملكة لتسهيل أي هجوم إسرائيلي. والثاني هو أن تمارس الرياض ضغطاً على واشنطن لإقناع إسرائيل بالدخول في محادثات لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان. إذا منعت الطائرات الحربية الإسرائيلية من التحليق فوق أجواء المملكة (ولا فوق الإمارات والكويت وقطر وعمان والبحرين)، فسيتعين عليها اتخاذ مسارات أطول عبر سوريا والعراق (التي لا يمتلك أي منهما دفاعات جوية لوقف الإسرائيليين)، أو بالتحليق فوق تركيا (وهو أمر مستبعد للغاية لأن أنقرة ستعارضه)، أو التحليق في مسار قوس طويل فوق البحر الأحمر والمحيط الهندي.
وفي المقابل، تريد السعودية وعداً بأنها لن تكون هدفاً محتملاً في أي انتقام إيراني من إسرائيل. فقد كان لديها قلق حتى وقت قريب جداً من أنه إذا تعرضت طهران لضربة إسرائيلية مدمرة، فإن طهران قد ترد بضرب حقول النفط بالمملكة، إما بشكل مباشر أو باستخدام أحد وكلائها الإقليميين.
ورغم عدم الكشف عن أي اتفاقات رسمية، يبدو أن هناك تفاهمات ضمنية بين الجانبين. بناءً على ذلك، من غير المتوقع أن تفتح السعودية مجالها الجوي أمام القوات الإسرائيلية، كما من غير المرجح أن تستهدف إيران المنشآت النفطية السعودية.
في النهاية، يُظهر الشرق الأوسط مرة أخرى كيف يمكن للمصالح الاقتصادية، وخاصة النفط، أن تجمع بين خصوم سابقين.