الشرق
عادت مصر لتنضم مجدداً إلى صفوف مستوردي الغاز الطبيعي المسال بعد 5 أعوام عاشتها البلد الأكبر من حيث عدد السكان عربياً في نادي المصدرين.
جاء هذا التحول رغم جهود المسؤولين لتحويل البلاد لمركز إقليمي للطاقة بالمنطقة بعد كشف حقل "ظُهر"، لكن تقادم الآبار والتناقص الطبيعي للحقول ومشكلة العملة الصعبة وتأخر سداد مستحقات شركات النفط الأجنبية أجهض هذه المحاولات في ظل تراجع حجم الإنتاج وسط تزايد الاستهلاك.
مسؤول حكومي تحدث مع "الشرق"، مشترطاً عدم ذكر اسمه، قال إن إنتاج البلاد من الغاز الطبيعي حالياً يصل إلى 4.8 مليار قدم مكعب يومياً تقريباً، مقابل حجم استهلاك يصل لما يقارب 7 مليارات قدم مكعب يومياً.
تراجع إنتاج الغاز الطبيعي في مصر العام الماضي إلى أدنى مستوياته منذ 2017، حسبما تظهر أرقام مبادرة بيانات المنظمات المشتركة "جودي"، ليبلغ 59.29 مليار متر مكعب، بانخفاض 11.5% عن 2022.
بدأت مصر في الشهرين الماضيين شراء شحنات الغاز الطبيعي المسال في خطوة نادرة لتجنب الانقطاعات في الكهرباء. واشترت شركة "إيجاس" الحكومية مؤخراً أكثر من شحنة على الأقل من الغاز الطبيعي المسال للتسليم الفوري إلى محطة العقبة للتغويز في الأردن، قبل نقلها بأنابيب إلى مصر، وقبل أن تصل سفينة التغويز "هوج" التي استأجرتها مصر لاستيراد الغاز الطبيعي المسال مباشرة إلى أراضيها.
حقل "ظُهر"
ساهم اكتشاف حقل "ظُهر" في 2015 بفتح شهية المستثمرين لقطاع الغاز في البلاد وزيادة عدد الآبار المكتشفة، فتوقفت البلاد عن استيراد الغاز بنهاية سبتمبر 2019 تماماً، ثم بدأت بتصديره. الحقل نفسه كان أيضاً من أهم أسباب معاودة البلاد للاستيراد بعد تراجع إنتاجه لنحو ملياري قدم مكعب يومياً مقارنةً بما يتجاوز 3 مليارات قدم مكعب في بعض الأوقات، فيما توقفت "إيني" عن ضخ استثمارات جديدة بالحقل واكتفت بعمليات التنمية الحالية للحقول، دون حفر حقول جديدة لحين حصولها على متأخراتها المالية لدى الحكومة المصرية.
وصلت مستحقات الشركات الأجنبية العاملة بالاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما لدى "الهيئة المصرية العامة للبترول" لنحو 4.5 مليار دولار، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي.
سددت مصر 1.5 مليار دولار من مستحقات شركات النفط الأجنبية في مارس الماضي، ووعدت البلاد الشركات بسداد دفعة جديدة من المستحقات خلال الأسبوع الأول من يونيو الجاري، وفقاً لما أعلنه مصطفى مدبولي رئيس الوزراء نهاية مايو، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
أزمة الكهرباء
أسامة كمال، وزير البترول المصري الأسبق، أرجع أزمة نقص إمدادات الغاز الحالية إلى تراجع إنتاج بعض الآبار بسبب تقادمها، مما أدى إلى انخفاض الإنتاجية في الوقت الذي زاد فيه استهلاك الكهرباء نتيجة التوسع العمراني في البلاد.
من شأن مرور صيف آخر من انقطاع التيار الكهربائي على نطاق كبير أن يزيد الضغط على السكان الذين يعانون بالفعل من ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة بشكل كبير، وارتفاع أسعار الوقود المحلية.
كمال أضاف لـ"الشرق" أن محطات الكهرباء في مصر تعتمد بنسبة تصل إلى حوالي 93% على إمدادات الغاز والبترول، وأن "عدم توافر إمدادات الطاقة بالكميات المطلوبة يتسبب في لجوء الحكومة إلى قطع التيار عن المواطنين".
تطبق مصر منذ انتهاء عطلة عيد الفطر نظام تخفيف الأحمال الكهربائية، إذ تقطع الكهرباء لمدة تتراوح من ساعتين إلى ثلاثة يومياً بالتناوب بين المناطق المختلفة، وهو إجراء يُقابل بسخط شعبي كبير، لكن لا حل أمام الحكومة غير قطع الكهرباء وسط نقص الإنتاج وتراجع الاستيراد وزيادة الاستهلاك، وعدم سداد مستحقات الشركاء الأجانب بالقطاع من أجل حفر آبار جديدة لتعويض تناقص الحقول الطبيعي.
في محاولة من الحكومة لحل الأزمة التي تفاقمت آثارها خلال الأسبوع الجاري، أعلن مصطفى مدبولي رئيس الوزراء المصري عن قرب انتهاء أزمة انقطاع التيار الكهربائي، مؤكداً وقف تطبيق خطة تخفيف الأحمال الكهربائية بدءاً من نهاية يوليو المقبل. كما أوضح مدبولي أنه تمت الموافقة على تخصيص 1.180 مليار دولار لتوفير المنتجات اللازمة.
المسؤول الحكومي الذي تحدث لـ"الشرق"، قال إن محطات الكهرباء تستهلك أكثر من 60% من الغاز المتاح في الشبكة يومياً، واعتبر أن "هذا أمر غير منطقي في ظل تراجع إنتاج الغاز محلياً".
غاز إسرائيل
رغم اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي لتلبية جزء من الطلب المحلي، مع تصدير الفائض على شكل غاز مسال إلى أوروبا بشكل أساسي خلال أشهر الشتاء فقط، هبطت واردات البلاد من الغاز الطبيعي المسال الإسرائيلي بداية شهر يناير الجاري 26% لتبلغ ما يقارب 850 مليون قدم مكعب حالياً، بحسب مسؤول حكومي تحدث إلى "الشرق" في وقت سابق من الشهر الجاري شرط عدم الكشف عن اسمه، وذلك بسبب دخول بعض المحطات بإسرائيل للصيانة، بجانب زيادة الاستهلاك المحلي هناك بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وهو ما شكل عبءاً آخر يثقل كاهل مصر.
بدأت مصر استيراد الغاز من إسرائيل للمرة الأولى في 2020، في صفقة قيمتها 15 مليار دولار بين شركتي "نوبل إينرجي" -التي استحوذت عليها "شيفرون" في 2020- و"ديليك دريلينغ" من جانب، وشركة "دولفينوس" القابضة المصرية من جانب آخر.
ما الحل؟
كمال استبعد في حديثه مع "الشرق" قدرة بلاده على تجاوز الأزمة برمتها في الوقت الراهن، قائلاً إن "استيراد شحنات من الغاز المسال والتعاقد على استئجار مركب إعادة تغويز للغاز المسال المستورد سيخفف من حدة الأزمة حالياً، لكن حلها بالكامل سيستغرق بعض الوقت".
استقبلت مصر خلال الأيام القليلة الماضية وحدة عائمة للغاز الطبيعي المسال، سفينة "التغويز" المعروفة باسم "هوج جاليون"، بهدف المساهمة في تأمين الاحتياجات الإضافية للاستهلاك المحلي خلال أشهر الصيف.
وتُعرف عملية "التغويز" بأنها إعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى صورته الغازية الصالحة للاستهلاك المباشر.
الحكومة المصرية تتجه كذلك في خطوة نادرة إلى طرح مناقصة عالمية لاستيراد حوالي 17 شحنة من الغاز المسال حتى أكتوبر المقبل لسد احتياجات البلاد، بحسب مسؤول حكومي تحدث مع "الشرق" في وقت سابق من الشهر الجاري مشترطاً عدم نشر اسمه. قالت مصادر تجارية لـ"رويترز" إن المناقصة تتضمن سداداً مؤجلاً لمدة تصل إلى 6 أشهر.
لفت مدحت يوسف، نائب رئيس هيئة البترول الأسبق، إلى وجوب العمل على زيادة عمليات الحفر والاستكشاف في المدة المقبلة لرفع إنتاج الزيت والغاز المحلي، مشيراً إلى أن بدء الحكومة في صرف مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في القطاع والمتراكمة منذ أزمة الدولار سيساهم في عودة أعمال تنمية الحقول إلى معدلاتها الطبيعية، ما قد يساعد على زيادة الإنتاج المحلي.