بلومبرغ
دخلت معركة أوكرانيا ضد الغزو الروسي مرحلة جديدة، حيث تهاجم الطائرات المُسيرة الأوكرانية شريطاً طوله 2000 كيلومتر (1200 ميل) من مصافي النفط التي تعود بشكل كبير إلى الحقبة السوفيتية.
تعرضت تسع مصافي رئيسية على الأقل لهجمات أوكرانية ناجحة هذا العام، مما أدى إلى توقف 11% من إجمالي الطاقة الإنتاجية للبلاد، وفقاً لبعض التقديرات. ومع تحول الصراع على الجبهات لصالح موسكو، أصبحت حملة الطائرات المُسيرة عنصراً رئيسياً في الاستراتيجية الدفاعية لأوكرانيا، سواء من حيث رمزيتها أو أهدافها الاستراتيجية.
هذه الهجمات تمنح كييف وصولاً عميقاً للأراضي الروسية وضرب قطاع ذي أهمية حاسمة بالنسبة لجهود الكرملين الحربية، إذ يوفر إمدادات وقود لقواتها المسلحة، وتدفقاً لعائدات النفط الدولارية إلى خزائنها.
قال فرانسيسكو سيرا مارتينز، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة صناعة الطائرات المُسيرة "تيرمينال أوتونومي" (Terminal Autonomy)، في مقابلة، إن "روسيا محطة وقود بها جيش، ونحن نعتزم تدمير تلك المحطة. سنركز على ما يمكن أن يضرها بشكل أكبر، وهو الموارد المالية".
اقرأ أيضاً: طائرات مسيرة أوكرانية تهاجم منشأة نفط روسية بالقرب من موسكو
وحتى مع تحوّل حملة الطائرات المُسيرة إلى قصة نجاح بالنسبة للجيش الأوكراني، والتي اشتدت الحاجة إليها بعد سلسلة من الانتصارات الروسية في ساحة المعركة، فإنها تمثل ورقة رابحة محتملة للأسواق العالمية وحلفاء كييف في الغرب، في وقت ارتفعت أسعار النفط العالمية بشكل مطرد في الأيام الأخيرة وسط مخاوف متزايدة من أن الهجمات، التي أحدثت أضراراً فادحة بشكل كبير حتى الآن، قد تؤدي يوماً ما إلى إغلاق مرفق تصدير رئيسي.
تكنولوجيا مدمرة
لم يمضِ سوى ستة أسابيع فقط على إنشاء حكومة كييف قوات الأنظمة غير المأهولة، وهي وحدة متخصصة تركز على الطائرات المُسيرة. وعند هذه النقطة، كانت القوات المسلحة الأوكرانية قد استخدمت بالفعل التكنولوجيا بفعالية كبيرة، حيث دمرت عدداً من السفن في أسطول البحر الأسود الروسي، وأضرت بمنشأة نفطية في بحر البلطيق.
قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 6 فبراير، إن "الطائرات المُسيرة، وهي أنظمة غير مأهولة، أثبتت فعاليتها في المعارك على الأرض وفي السماء والبحر.. تدمير الغزاة ومعداتهم على نطاق واسع يقع أيضاً في مجال الطائرات المُسيرة".
بحلول منتصف فبراير، دمرت هجمات الطائرات المُسيرة 5 مصافي نفط. وفي أعقاب ذلك مباشرة، حظرت روسيا تصدير البنزين بين 1 مارس وحتى 31 أغسطس لضمان توفير إمدادات محلية كافية قبل ارتفاع الطلب الموسمي.
بهذا الصدد، قال بيتر شرودر، كبير المحللين السابقين للشؤون الروسية في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إن "قادة أوكرانيا يبدو وكأنهم يشعرون بأنهم بحاجة إلى أن يكونوا قادرين على مواصلة إلحاق الألم بروسيا حتى لو ظلوا في وضع دفاعي"، فما بدأ كجهد رمزي بشكل كبير، وأبرزه هجوم الطائرات المُسيرة على الكرملين العام الماضي، تحول إلى "حملة منسقة للإضرار بهدف استراتيجي".
اقرأ أيضاً: عامان على الحرب.. الأثر الاقتصادي على روسيا وأوكرانيا في رسوم بيانية
لم يتحقق هذا النجاح بسهولة، وفقاً لمصنعي الطائرات المُسيرة الذين تحدثوا إلى "بلومبرغ". فقد كان لابد من تصميم آليات للتغلب على قدرات التشويش الروسية المتطورة، باستخدام الملاحة الأرضية أو تحديد المواقع المرئية التي لا تتطلب أي اتصالات إلكترونية بعد الإطلاق. وهذه الآليات بحاجة للعمل على مدى يصل إلى 1000 كيلومتر أثناء حملها شحنة متفجرة كبيرة لإلحاق أضرار جسيمة بالمنشآت المبنية بشكل يمكنها من الصمود.
الموجة الثانية
قال فاسيل ماليوك، رئيس جهاز الأمن في أوكرانيا، لـ"بلومبرغ" في 12 مارس، إن حملة الطائرات المُسيرة في أوكرانيا تُظهر "أن هجماتنا ليست مقتصرة على خط المواجهة، بل إننا نؤدي أيضاً مهامنا في البحر وفي أعماق خطوط العدو.. لن نتوقف".
بدأت موجة ثانية من هجمات الطائرات المُسيرة في نفس اليوم، لتلحق الضرر ببعض من أكبر مصافي النفط الروسية، مثل مصفاة نورسي في نيجني نوفغورود ومصفاة ريازان بالقرب من موسكو. وبالرغم من المحاولات العديدة، فشلت الطائرات المُسيرة في ضرب مصفاة سورغوتنفتيغاز في كيريشي، وهي منشأة رئيسية على ساحل بحر البلطيق تنتج الوقود بشكل أساسي للتصدير.
أدت موجة الهجمات إلى ارتفاع أسعار البنزين والديزل في بورصة سانت بطرسبرغ الدولية، رغم أن تكلفة الوقود في محطات الضخ داخل روسيا لم تشهد ارتفاعاً يُذكر. ونقلت وكالة الأنباء الروسية "تاس" عن النائب الأول لوزير الطاقة بافيل سوروكين قوله إن البلاد قد تضطر إلى تحويل المزيد من النفط الخام للتصدير بسبب التأثير على معدلات التكرير.
رد فعل سوق النفط
وبعيداً عن حدود روسيا، لم يُظهر سوق النفط سوى رد فعل متواضع على هجمات الطائرات المُسيرة، رغم مكانة البلاد كمُصدر رئيسي للنفط. إذ ارتفعت عقود النفط الخام الآجلة وسط تصورات المخاطر الجيوسياسية المتزايدة.
وبالرغم من ارتفاع أسعار الديزل الأوروبي القياسية أيضاً، فإنها لا تزال أقل من المستويات المسجلة في فبراير خلال ذروة هجمات جماعة الحوثي على الشحن في البحر الأحمر.
يمكن أن يتغير ذلك إذا تمكنت الطائرات المُسيرة الأوكرانية من إيقاف مصفاة كيريشي، مما قد يخرج حوالي 150 ألف برميل يومياً من إنتاج الديزل الموجه أساساً للتصدير. ويمكن أن تشهد أسواق النفط الخام توترات أكثر إذا بدأت كييف في استهداف المنشآت الروسية الرئيسية المخصصة للتصدير في بحر البلطيق أو البحر الأسود.
اقرأ أيضاً: وكالة الطاقة: عائدات نفط روسيا تنخفض مع تجنب المشترين لخامها
قال مارك ويليامز، مدير أبحاث التكرير قصير الأجل للنفط بشركة الاستشارات "وود ماكنزي": "إذا أرادت أوكرانيا تصعيد ضغوطها على العائدات الروسية لتكرير النفط، فإنها ستستهدف البنية التحتية الرئيسية لمحطات تصدير المنتجات في موانئ بريمورسك أو نوفوروسيسك. لكن هذا الأمر سيزيد الضغط على علاقتها بحلفائها الغربيين، حيث سيكون التأثير على أسعار النفط العالمية والمنتجات المكررة كبيراً".
انتصارات اقتصادية
حتى الآن، تركز حملة الطائرات المُسيرة في أوكرانيا فقط على الإضرار باقتصاد روسيا، وإعاقة قدرة البلاد على معالجة النفط الخام وتحويله إلى وقود، وإضعاف دفاعاتها الجوية.
قالت سيرا مارتينز، من "تيرمينال أوتونومي"، وهي شركة أميركية لديها مرافق إنتاج في أوكرانيا تأسست العام الماضي: "إنها في الأساس شكل جديد من أشكال حرب الاستنزاف، حيث تُنشر هذه الأنظمة بكميات هائلة ضد المواقع الاستراتيجية". جدير بالذكر أن الطائرات المُسيرة صُممت لتكون منخفضة التكلفة وللاستخدام لمرة واحدة، مما يعني أن تكلفة الصواريخ التي تطلقها أنظمة الدفاع الجوي الروسية قد تزيد بـ40 مرة عن تكلفة الطائرات التي تستهدفها.
اقرأ أيضاً: روسيا تفعّل دفاعات الحد الأدنى لسعر النفط لحماية عائداتها من العقوبات
وأوضح مارتينز أنه حتى لو أسُقطت الطائرات المُسيرة، فإن ذلك سيظل يشكل انتصاراً اقتصادياً. في الوقت نفسه، تحدث مُصنع آخر للطائرات المُسيرة شريطة عدم الكشف عن هويته، قائلاً إن الهجمات لها أيضاً هدف نفسي. وأوضح أن الدعاية التي تجريها موسكو تحاول جعل مواطنيها ينسون أن الدولة في حالة حرب، لكن الطوابير الطويلة في محطات الوقود ستجعل الصراع في قلب حياتهم اليومية.
حظر فيديوهات الهجمات
بالرغم من أن الحكام الروس غالباً ما يكونون أول من يعلقون على هجمات الطائرات المُسيرة على مصافي النفط في حساباتهم الرسمية على "تلغرام"، فقد بذلت السلطات جهوداً كبيرة لمنع تأثر السكان بالأمر. فقد طلبت عدة مناطق من المواطنين عدم تصوير تلك الهجمات أو التقاط صور للأضرار التي تسببها. ووصل الأمر إلى حد حظر حكومة منطقة لينينغراد لمثل هذه الفيديوهات والصور، لكن عقوبة انتهاك تلك الأوامر لم تُحدد بعد.
قال أليكسي موخين، رئيس مركز المعلومات السياسية ومقره موسكو، والذي يقدم خدمات استشارية للإدارة الرئاسية، إن "هذا الأمر يُؤخذ بجدية كبيرة. السكان يريدون معرفة متى سترد روسيا على تلك الهجمات".
كانت موسكو تدرس خطة لتسهيل نشر الدفاعات العسكرية في مصافيها النفطية، وفقاً لأشخاص ملمين بالمناقشات الشهر الماضي. كما ذكرت وكالة الأنباء الروسية "إنترفاكس" يوم الثلاثاء، أن هذا قد يشمل أنظمة صواريخ "بانتسير".
التأثير الاستراتيجي
أصبحت الطائرات المُسيرة عنصراً متزايد الأهمية في الاستراتيجية العسكرية لأوكرانيا، لكنها ليست بديلاً للأسلحة المتطورة القادمة من منظمة حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وفقاً لعدد من رجال الأعمال البارزين الذين يساعدون في تمويل شرائها.
يتعين على كييف الاعتماد على هذه الأنظمة لأن حلفاءها يترددون في توفير صواريخ عابرة للقارات قادرة على تدمير أهداف عميقة داخل روسيا، خشية التصعيد. علاوة على ذلك، أدى تأخير الكونغرس الأميركي في تقديم مساعدات عسكرية بقيمة 60 مليار دولار لعدة أشهر، إلى معاناة أوكرانيا من نقص متزايد حتى في الذخائر الأساسية، مثل قذائف المدفعية، اللازمة لمواجهة التقدم الروسي الأخير.
اقرأ أيضاً: الاقتصاد الروسي يتعافى متحدياً العقوبات
قال شرودر، المحلل السابق في وكالة المخابرات المركزية والذي يشغل حالياً منصب زميل مساعد في مركز الأمن الأميركي الجديد في واشنطن، إن "الحملة ضد البنية التحتية للطاقة في روسيا تُظهر أن كييف يمكنها مواصلة إلحاق بعض الضرر، لكن من غير المرجح أن يكون لها تأثير استراتيجي على مسار الحرب".
البنية التحتية في أوكرانيا
تنتج روسيا أيضاً صواريخ كروز وطائرات مُسيرة بعيدة المدى، بما فيها طائرة ذات تصميم إيراني مشابه لـ"شاهد"، والتي تستخدمها لضرب البنية التحتية المدنية والعسكرية في أوكرانيا. وقال زيلينسكي هذا الأسبوع إن أكثر من 320 طائرة من نوع "شاهد" أُطلقت في مارس وحده.
بعد مرور أكثر من عامين على غزو روسيا لأوكرانيا، ومع الانتكاسات العسكرية على الجبهات الأمامية وتراجع دعم الحلفاء الغربيين، يشير نجاح الهجمات الأوكرانية على مصفاة النفط إلى استمرار حملة الطائرات المُسيرة.
قال زيلينسكي في 16 مارس، إن "هذه الأسابيع أظهرت للكثيرين أن آلة الحرب الروسية لديها ثغرات يمكننا الوصول إليها بأسلحتنا.. ما تستطيع طائراتنا المُسيرة تحقيقه هو قدرة أوكرانية حقيقية بعيدة المدى، وسيكون لأوكرانيا الآن دائماً قوة هجوم في السماء".
قال ميخايلو فيدوروف، وزير التحول الرقمي في البلاد، الذي تشمل مسؤولياته أيضاً الإشراف على تصنيع الطائرات، إن القوات المسلحة في كييف سيكون لديها المزيد من الأنظمة غير المأهولة العاملة فوق الأراضي الروسية مع كل شهر يمر هذا العام، و"سيكون هناك كمية غير مسبوقة من الطائرات المُسيرة بعيدة المدى".