في الدبلوماسية، غالباً ما يكون المسكوت عنه، أهم مما يُقال. فبعد أن التقى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الرئيس الصيني شي جين بينغ في ديسمبر، أصدر البلدان بيانات رسمية مطولة تشيد بالعلاقات السعودية الصينية المزدهرة في "جميع المجالات". لكن في أكثر من 5000 كلمة، لم تذكر البيانات معلومة رُوّج لها كثيراً، ألا وهي استخدام اليوان الصيني في تسعير النفط.
لم تأتِ البيانات الرسمية على أي ذكر في هذا الشأن. لا شيء على الإطلاق.
قطعة "الدومينو" الأولى
أصبحت حتمية وجود "البترو يوان"، فكرة شائعة ومنتشرة في عالم المدوّنات المالية والتي ترى أن الصين تستعرض سطوتها كقوة ناشئة، باستهدافها واحدة من أكثر الخصائص وضوحاً ورسوخاً للهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط المستمرة منذ 75 عاماً.
إذا كنتم تؤمنون بنظرية المؤامرة، فإن اعتماد "البترو يوان"، والانهيار اللاحق لـ"البترو دولار"، سيكونان أول أحجار "الدومينو"، ما قد يؤدي إلى إضعاف النظام المالي الأميركي بأكمله. أي: أمور خطيرة جداً، وإعادة رسم للخريطة الاقتصادية العالمية، وأرضية ملائمة للأزمات والحروب.
لكن بقدر ما هي مذهلة، فإن هذه الفكرة مُجرد وهم.
عبثية التحوّل إلى اليوان
اسألوا بهدوء عن "البترو يوان"في الدوائر الحكومية، في الرياض، وأبوظبي، والكويت، والدوحة، وستكون الإجابة بالإجماع (حتى في الأسابيع التي تلت زيارة "شي" إلى الرياض): "البترو دولار" وُجد ليبقى.
في رحلتي الأخيرة إلى المنطقة، لم أسمع أي مسؤول يتحدث بجدية عن الاستعدادات لإدخال عملة جديدة إلى هذا المزيج. وتبدو الإجابات كثيراً على النحو التالي: ماذا سنجني من ذلك؟ الدولار قابل للتحويل بحرية، أما اليوان فليس كذلك؛ والدولار يتمتع بسيولة، أما اليوان، فلا.
هذه عيّنة من التعليقات المهذبة. أما الإجابات الأكثر صراحة ومباشرة، فتؤكد بشدة على عبثية التحوّل إلى عملة مُدارة حكومياً، تنتجها آلية مالية غير شفافة ويصعب التنبؤ بها.
انفتاح على النقاش.. ليس أكثر
كما هي الحال في كل مؤامرة، هناك بذرة من الحقيقة في قصة "البترو يوان". فقد شجع الرئيس شي المنطقة على تبنّي اليوان في تجارة النفط. لكن، بدلاً من تسعير النفط باليوان، كما توقّع الكثيرون، طلب شي ببساطة من منتجي الشرق الأوسط قبول سداد قيمته باليوان.
في أحسن الأحوال، استقبل مسؤولو الشرق الأوسط ذلك الطلب بفتور. في العلن، هم منفتحون على مناقشة مزايا هذه الخطوة، لكن ليس أكثر من ذلك بكثير. قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان في تصريحات الشهر الماضي: لا توجد مشكلات في مناقشة كيفية تسوية اتفاقياتنا التجارية، سواء كانت بالدولار الأميركي، أو اليورو، أو الريال السعودي. بينما قال ثاني الزيودي، وزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية، إن بلاده مستعدة لمناقشة تسوية التجارة بعملات مختلفة، لكن فقط للصفقات "غير النفطية".
باب قد يدخل منه الجميع
يُنظر إلى "البترو يوان" في المنطقة أيضاً على أنه باب، يعني فتحه دعوة آخرين إلى الدخول. إذ يقول مسؤولون إن الهند قد ترغب في "البترو روبية"؛ ويمكن لليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان السعي إلى ترتيبات مماثلة. فعلى الرغم من أن الصين هي أكبر مشتري النفط من المملكة العربية السعودية، حيث تستحوذ على 26% من صادراتها النفطية، إلا أن مجموع ما تشتريه اليابان وكوريا الجنوبية يتجاوز هذه الحصة، ويصل إلى 28%. وإذا أضيفت تايوان إلى هاتين الدولتين، سيكون هناك ثلاثي يستحوذ على ما يقرب من ثلث صادرات البترول السعودية. وبالتالي، إذا قلت "نعم" لـ"البترو يوان"، كيف يمكنك أن ترفض، على سبيل المثال، "البيترو ين" و"البترو ون"؟
التنازل عن سلطة التسعير
إن الذهاب إلى ما هو أبعد من تسوية فواتير تجارة النفط باليوان، يُعد أمراً أكثر صعوبة. فرغبة منتجي "أوبك" في تسعير النفط باليوان باستخدام نظام صرف صيني، تكاد تكون معدومة. تراقب شركات النفط الوطنية في الشرق الأوسط عن كثب كيف تحاول بكين التحكم بأسعار السلع المحلية، مثل خام الحديد، أو القطن، أو الفحم، أو الحبوب، في كل مرة ترتفع فيها الأسعار فوق العتبة التي تسبب مصاعب لها.
وبعدما أمضت 60 عاماً في بناء تكتل (نفطي) كبير، لماذا تتنازل دول الشرق الأوسط للصين عن سلطة التسعير؟
وبعيداً عن الضوابط التي تفرضها الصين على رأس المال، فإن الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط لديها أسباب أخرى للتمسك بالدولار. أحد العوامل الحاسمة هو أن معظم عملاتها مربوطة بالدولار، ما يتطلب تدفقاً مستمراً للدولار لدعم هذا النظام. وتحتفظ دول الشرق الأوسط بهذه المدخرات في حسابات بالدولار، ولذلك فإن لديها مصلحة في المحافظة على قوة الدولار.
"البترو دولار" وجد ليبقى
يقلل أنصار "البترو يوان" من أهمية ربط العملات، وفي ذلك وجهة نظر إلى حدّ ما، حيث يمكن التخلّي عن ذلك الربط، أو على الأقل تعديله. لكنني لم أرَ أي إشارات على أن ذلك على وشك الحدوث. الحجة الأخرى لدى مؤيدي "البترو يوان"، هي أن الولايات المتحدة حوّلت الدولار إلى سلاح من خلال عقوبات نفطية على فنزويلا، وروسيا، وإيران، ما يجعل الدفع بعملات بديلة ليس أمراً محتملاً بل ضرورياً.
ربما الأمر كذلك، لكن هذه ليست المرة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على النفط، ومع ذلك، لم يتأثر الدولار. ففي التسعينيات، طالبت ليبيا بالحصول على مدفوعات بالعملات الأوروبية، وكان لها ما أرادت، وكذلك فعل العراق.
من المفارقات أن العملة البترولية الجديدة الوحيدة التي ظهرت في الآونة الأخيرة، كانت الدرهم الإماراتي، والذي تستخدمه الهند لتسوية بعض صفقات النفط مع روسيا، متفادية العقوبات الأميركية. لكن على مدى الأعوام الـ25 الماضية، كان الدرهم مربوطاً بالدولار الأميركي، وهو مؤشر آخر على أن "البترو دولار" ما يزال العملة البترولية الوحيدة ذات الأهمية.