لا تزال أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا، أقل بكثير من أعلى مستوى سجّلته في مارس على الإطلاق. ومع ذلك، فهي آخذة في التعمق، حيث تنذر باضطراب أطول أمداً ممّا توقعته الأسواق في أعقاب غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا مباشرةً.
بينما رجّحت سوق الغاز حدوث أزمة قصيرة الأمد لبضعة أشهر، إلا أنها الآن تنذر بخطر شديد قد يشهده فصل الشتاء المقبل حتى عام 2023، وبشكل متزايد في عام 2024. فقد أُعيد تسعير منحنى أسعار الغاز في أوروبا بالكامل خلال الأيام القليلة الماضية، ليتجاوز بذلك المستوى الذي حُدّد سابقاً.
كان التحول في المنحنى التصاعدي هو التطور الأبرز الذي شهدته سوق الغاز خلال الشهر الماضي، وهو تطور لا يحظى بالاهتمام الكافي في العواصم الأوروبية. لكن صناعة الغاز تدرك مدى أهمية هذا التحول لأنّها هي من تتحمل التكلفة. تمكّنت شركة ألمانية في مارس، من تخفيض أسعار الغاز لعام 2023 بنحو 80 يورو لكل ميغاوات/ساعة. أما اليوم، يتعيّن عليها دفع مستوى قياسي مرتفع يبلغ 145 يورو للتحوط من مخاطر السعر نفسه.
ليست الشركات وحدها من يدفع الثمن. تتوقع شركة "كورنوال إنسايتس" ( Cornwall Insights) المتخصصة في تحليل بيانات سوق الطاقة، أن تدفع الأسر البريطانية ما يصل إلى 3244 جنيهاً إسترلينياً (3886 دولاراً) سنوياً مقابل فواتير الغاز والكهرباء، بدءاً من أكتوبر، أي بزيادة تقارب 65%. قبل أن يعاود المنحنى التسعير بشكل أعلى خلال الأسابيع القليلة الماضية، توقّع مستشارو الطاقة في المملكة المتحدة زيادة أصغر.
خلال الأسبوع الماضي، ارتفعت عقود الغاز في مركز تداول الغاز الهولندي (TTF)، المراقب عن كثب، وهو معيار أوروبي فوري، إلى نحو 175 يورو، متضاعفاً في غضون شهر بعد أن قطعت روسيا الإمدادات عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1" المتجه نحو ألمانيا. ومع ذلك، لا تزال أسعار الغاز الفورية أقل بنسبة 30% من سعر التسوية القياسي المرتفع البالغ 227 يورو، خلال الأيام الأولى من شنّ الحرب الروسية وهو أمر مثير للقلق، لكنه ليس خطيراً في الوقت نفسه.
صحيح أن الأسعار آخذة في الارتفاع، لكنها ليست شديدة الارتفاع. فبعد صمود سوق النفط بوجه ما مرّ به خلال شهر مارس، يمكننا اليوم فهم السبب الكامن وراء عدم خوف صانعي السياسات.
كندا توافق على إعادة توربين "نورد ستريم" لتأمين غاز ألمانيا
تداعيات إغلاق "نورد ستريم 1"
لكن ذلك يكون إذا تجاهلت الإجراء الموجود على خلفية هذا المنحنى. عندما ارتفعت أسعار الغاز الفورية إلى نحو 185 يورو في 5 مارس، ارتفع عقد تسليم ديسمبر 2022 إلى نحو 155 يورو. بينما تمّ تداول عقد ديسمبر عند ما يقرب من 195 يورو خلال الأسبوع الماضي، عندما كان السعر الفوري أقل قليلاً مما كان عليه.
وبعد مرور عام على تلاعب روسيا بإمدادات الغاز في أوروبا، أصبحت السوق مقتنعة أخيراً بأن موسكو ستواصل ممارسة ضغطها على السوق وربما بكثافة أكبر.
يأتي الاختبار الأول خلال الأسبوعين المقبلين. يخضع خط أنابيب "نورد ستريم1"، رابط الغاز الأهم بين روسيا والاتحاد الأوروبي، للصيانة السنوية من 11 يوليو إلى 21 يوليو. تخشى برلين من أن تجد موسكو ذريعة لإبقائه مغلقاً إلى الأبد، ما يقطع إمدادات الغاز إلى ألمانيا تماماً. تُعتبر الحكومة الألمانية محقّة في قلقها بعد كل ما فعلته موسكو منذ بداية الحرب.
مع ذلك، قد ترغب روسيا في الحفاظ على تدفق كميات من الغاز سعياً إلى الحفاظ على نفوذها على المدى الطويل. وقد يبدو ذلك منطقياً من ناحية نظرية اللعبة التي تلعبها روسيا. وبمجرد أن توقف موسكو الشحنات تماماً، لن تتمكن بعد الآن من ممارسة ضغطها على الدول الأوروبية. أما من الناحية التكتيكية، يُرجّح أن تسمح موسكو بتدفق كميات من الغاز، محتفظة بخيار خفض أو إبطاء التدفقات وقتما تشاء.
علاوةً على ذلك، فإن "نورد ستريم 1"، هو خط أنابيب الغاز الطبيعي الرئيسي الرابط بين روسيا وأوروبا، المرتبط بعقود مركز تسهيل التداولات الهولندية، وفقاً لـ"غولدمان ساكس". إن عدم إعادة فتحه بعد الانتهاء من صيانته سيحدّ من الأرباح التي تحققها الشركة العملاقة المملوكة للدولة "غازبروم" من الأسعار المرتفعة.
من الواضح أن روسيا شطبت علاقتها بالغاز مع أوروبا. ولكن في الوقت الراهن، سيستمر الكرملين في التمتع بأفضل ما في العالمين: عائدات عالية ونفوذ مقنع. وتحتاج روسيا إلى مواصلة بيع بعض الغاز إلى ألمانيا لتحقيق أهدافها، لكن بأسعار مخفضة، كما تفعل حالياً.
السوق محقّة في إعادة تسعير منحنى الغاز. لكن السؤال الوحيد المطروح هو لماذا استغرق الأمر وقتاً طويلاً. تنتظرنا المزيد من المخاطر. ففي مرحلةٍ ما، ستغلق موسكو صنابير غازها تماماً، ربما قبل فصل الشتاء مباشرةً، في محاولة لتركيع الاقتصاد الألماني. وهي نتيجة لم تقم السوق بتسعير كلفتها بعد.