إنه هدوء الصيف الذي يسبق عاصفة الشتاء في أوروبا.
عاد السياح إلى باريس ومدريد وروما، لكنهم لا يستطيعون إنقاذ القارة القديمة من خطر الركود. تشي الإضرابات ونقص الموظفين بأن التضخم المرتفع يأكل جيوب الناس ويكدّر صفو عيشهم. أما علامات التباطؤ، فتظهر واضحة في فرنسا وألمانيا اللتين تقودان صناعة القرار السياسي في الاتحاد الأوروبي.
الأسوأ أنه ما من إشارة حتى الآن على وجود حل للمشكلة الرئيسية التي تسبّب هذه الصعوبات، والمتمثلة في ارتفاع أسعار الطاقة بعد غزو فلاديمير بوتين أوكرانيا. أضرّت العقوبات كثيراً باقتصاد روسيا، لكنها لم تضع حداً للحرب. لا بل إن بوتين يستغل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، والتي تدعم بدورها -من خلال مدفوعات دولها- آلته الحربية.
اقرأ أيضاً: شولتس يتهم فلاديمير بوتين باستخدام إمدادات الغاز كسلاح
تكمن المخاطرة الأخرى في تزايد الانقسامات الداخلية والصراعات بين دول الاتحاد الأوروبي في ظل الظروف الصعبة التي تطغى على قطاع الطاقة والاقتصاد ككك مع اقتراب الشتاء. فوق ذلك، يأتي رفع أسعار الفائدة، فيما تضع ألمانيا خططاً طارئة لخفض الطلب على الغاز نظراً لأن مخزوناتها منه لا تزال دون المستوى المستهدف. كذلك، تتعرض النرويج لضغوط للحد من صادرات الكهرباء مع ارتفاع الأسعار في الداخل.
اقرأ المزيد: أسعار الغاز في أوروبا تسجل مستويات قياسية.. والحكومات تتحرك
أخبرني إنريكو ليتا، رئيس الوزراء الإيطالي السابق ورئيس تحالف يسار الوسط في حكومة الوحدة التي يقودها ماريو دراغي، بأن مخاطر استجابة الاتحاد الأوروبي اليوم، تبدو مثل الأزمة المالية قبل عقد من الزمن. فهي متأخرة وغير كافية، على عكس الخطط الجريئة التي أُطلقت في الوقت المناسب خلال الجائحة.
استجابة ناقصة
قال ليتا في حديث على هامش مؤتمر معهد جاك ديلور في باريس: "كان أداء أوروبا جيداً للغاية في الاستجابة لهذه الأزمة على المستوى الجيوسياسي. لكن الاستجابة الاجتماعية والاقتصادية كانت مفقودة".
قدّم ليتا توصيتين رئيسيتين، الأولى هي التركيز بشكل خاص على وضع سقف لأسعار الغاز أو خفضها، إذ أصبح التأثير المباشر وغير المباشر للغاز الباهظ الثمن واضحاً الآن على المصانع والشركات الصغيرة والأسر، وأصبحت ألمانيا بين الدول التي تفكر في تطبيق تقنين الطوارئ.
أما التوصية الثانية، فهي دعم مالي أكثر للأسر والمستهلكين. لم يكن الشعور بعبء هذه الأزمة موزعاً بالتساوي، حيث كان لتضخم أسعار الطاقة التأثير الأكبر على الأقل قدرة على تحمّله. وقد يؤثر ذلك على الدعم الشعبي لأوكرانيا، التي أصبحت مؤخراً مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي.
ليتا محقٌّ في وجهة نظره. يتوقع اقتصاديو "باركليز" نمو اقتصاد منطقة اليورو بمعدل 0.5% فقط في العام المقبل، لكن قد يتحوّل هذا النمو إلى ركود في حال نضوب تدفقات الغاز الروسي. ويُظهر التوسع الأخير في هوامش السندات الإيطالية، خطر تكرار ما يُسمّى بحلقة جحيم الديون السيادية، التي تمتد من الحكومات إلى الإقراض المصرفي.
غياب التضامن
رغم اتخاذ الحكومات الأوروبية بعض الخطوات، إلا أنها كانت مترددة وكانت خطواتها ذات طابع وطني. لم تؤرق كل تلك الإجراءات المجزأة -مثل إعانات الأسر وتخفيف الضرائب وإعفاءات السوق- بوتين، ولم تمنعه من أن ينام هانئاً. تعثرت محاولات إعادة إطلاق مبادرات التحفيز في عصر "كوفيد"، التي تضمنت اقتراضاً مشتركاً من الاتحاد الأوروبي، مع عودة الخلافات المألوفة بين الشمال والجنوب.
ما ينقصنا هو التضامن والقيادة، اللذان يمكن معهما تقاسم التكلفة. يقول ليتا: "يجب أن تكون الاستجابة عامة. يبقى الخطر في أن يغضّ القادة الطرف حتى فوات الأوان".
يمكن أن تكون أسواق الطاقة نقطة انطلاق جيدة لهذه الوحدة. فبدلاً من انتظار المزيد من الدول لبدء العملية التقنية إلى حد ما في تنفيذ خطط طوارئ الغاز الكاملة مع صيغتها الجبرية، يجب على الاتحاد الأوروبي إعلان حالة الطوارئ في المنطقة ككل. يجب الضغط على الدول لمشاركة ما لديها من الغاز، بدلاً من تخزينه. قد يعني هذا أيضاً، حث ألمانيا وهولندا على الإبقاء على تشغيل المحطات النووية وحقول الغاز المقرر إغلاقها خلال هذه الفترة.
يجب أن يقترن تضامن الطاقة بتضامن مالي. دعا كل من سيمون تاغليابيترا وغونترام وولف من "بروغيل" (Bruegel)، إلى إنشاء صندوق تعويضات بقيمة 20 مليار يورو (21 مليار دولار) سنوياً يمول من خلال الاقتراض المشترك، للمساعدة في دفع تكاليف الأزمة، وتقليل فرصة التشرذم مع اشتداد العقوبات.
ضغوط مستمرة
لن يقلّل أي من هذه الأمور، الضغط طويل الأجل للابتعاد عن الوقود الأحفوري وإدارة القدرة على تحمّل الديون في عالم ما بعد الجائحة وما بعد الحرب. تُعدّ إيطاليا نفسها مثالاً جيداً لما يمكن القيام به على المستوى الوطني، حيث خفّضت حكومة ماريو دراغي اعتمادها على الغاز الروسي إلى 25% من 40% في العام الماضي.
لكن الضغط هائل على المدى القصير، وتحذير ليتا يستحق الاهتمام. المرة الأخيرة التي طاردت فيها صدمة الطاقة أوروبا، كانت قبل 40 عاماً، أي قبل وجود اليورو أو الاتحاد الأوروبي نفسه. إن أخطأت الكتلة في التعامل مع هذا الأمر، فسيكون نذيراً سيئاً للأعوام الأربعين المقبلة.