تقود أساسيات العرض والطلب أسعار النفط. تؤثر أمور كخطط إنتاج تحالف "أوبك+" وأنماط التنقل بالسيارات في الولايات المتحدة بشدة، إلى أن يحيّدها سحر "وول ستريت" الذي يدفع الأسعار إلى الارتفاع أو الهبوط، متخطياً المقومات الأساسية المادية.
تشارف سوق النفط على هذا، إذ كدّس تجار النفط المتفائلون على مدى نحو 18 شهراً خلت أعداداً ضخمة من عقود تمنحهم حق شراء النفط الخام بسعر ووقت محدّدين، أو ما تسمى بالخيارات بلغة السوق. اشتروا آلاف العقود المربوطة بأسعار مثل 100 دولار وأكثر من ذلك، وصولاً إلى 150 دولاراً للبرميل. يشابه ذلك لعديد منهم شراء تذاكر يانصيب، إذ تتيح رهاناً على ارتفاع الأسعار مستقبلاً بتكلفة زهيدة.
بيعت العقود حين بلغ وباء كورونا ذروته مقابل لا شيء تقريباً، إذ كان توقع صعود أسعار النفط إلى مستويات 100 دولار فما فوق أمراً مستبعداً مع استمرار الإغلاقات وتراجع الطلب على الطاقة. كان متاحاً قبل عام شراء عقود خيارات مربوطة على قيمة 100 دولار للبرميل لديسمبر 2022 عند 24 سنتاً فقط للبرميل. بلغت في وقتنا الحاضر قيمة تذكرة اليانصيب 4.2 دولار لكل برميل. كانت توجد تذاكر أقل تكلفة، إذ بيعت عقود خيارات الشراء لديسمبر 2022 المربوطة بسعر 125 دولاراً للبرميل مقابل زيادة قليلة بلغت 9 سنتات قبل سنة. تصل حالياً العلاوة إلى ما يقرب من 15 ضعفاً لتسجل 1.35 دولار لكل برميل.
يبيع قلة فقط عقود خيارات الشراء حالياً رغم صعود الأسعار، إذ تنتظر صناديق تحوط كثيرة ومستثمرون كبار بصبر للحصول على جائزة أكبر بكثير، وهي صعود أسعار النفط إلى مستويات أعلى تمكنهم من تفعيل عقود خيارات الشراء بالكامل والتمتع بحق شراء النفط الخام بسعر منخفض عن سعره السوقي.
إدمان شديد
يأتي ذلك حين يدخل "وول ستريت" اللعبة بنوع من الهوس قد يصل إلى حد الإدمان الشديد أو الرعب يحدده مدى تحملك للدخول في مخاطرة وتقبلك للمضاربات وأسعار السلع. كما سيثير ذلك ذعر البيت الأبيض وكل حكومة أخرى يقلقها صعود التضخم، لأن ارتفاع أسعار النفط سيزيد سعر البنزين بشدة.
يركز "وول ستريت" إحصائياً على خام برنت، وهو المعيار العالمي لأسعار النفط، الذي بلغ مستواه الأعلى منذ 7 أعوام يوم الأربعاء عند 89.05 دولار للبرميل، بعد توقف وجيز لخط أنابيب نفط رئيسي من العراق إلى تركيا نتيجة انفجار وحريق.
جاءت تلك الزيادة بفعل ميزان العرض والطلب. لم يسفر فيروس "أوميكرون" المتحول من سلالة فيروس كورونا عن تراجع الاستهلاك بالقدر الذي كان يُخشى، فيما كان تحالف "أوبك+" من جهة ثانية يواجه صعوبة في زيادة الإمدادات مع إخفاق عدة دول، بما فيها عمالقة مثل روسيا، بزيادة الإنتاج في ديسمبر. بقيت مخزونات النفط منكمشة على امتداد نصف الشهر الحالي، لتتحدى بذلك توقعات بإغراق السوق.
حين كان برميل النفط منخفضاً عن 90 دولاراً، كانت تهيمن على سوق النفط عقود خيارات البيع الآجل، وهي نقيض عقود خيارات الشراء. تميل تلك الأولى إلى تشجيع البعض على البيع، لكن فور وصول السعر إلى مستوى 90 دولاراً أو أعلى من ذلك سيحدث تغير هائل في معدل عقود البيع الآجل نسبة لعقود الشراء، لأن كثيراً من عقود الشراء التي تكدست لدى التجار بسعر رخيص ستتهي صلاحيته في ظل التركيز على عقود شهرَي يونيو وديسمبر المقبلين.
حينئذ، يفرض سحر سوق عقود الخيارات سيطرته على الأمر.
تناقض الظروف
سيثبت لدى صعود الأسعار نحو قيمة عقود خيارات الشراء أن البنوك التي باعت تذاكر اليانصيب كانت على الجانب الخطأ من التعاملات، إذ إنها تعاني، نظرياً، من قصور الاستثمار في سوق صاعد،ة لذا تحتاج إلى حماية أنفسها، والطريقة الوحيدة لهذا هي زيادة الاستثمار عبر شراء العقود الآجلة. حين تفعل ذلك تخاطر بتوليد حال تتشكل فيها معضلة نتيجة تناقض ظروف حدوثها، إذ تصعد أسعار النفط وتشتري البنوك مزيداً من العقود الآجلة، وهو ما يؤدي إلى زيادات أكبر في الأسعار، ما يتطلب عمليات شراء أكثر. يطلق على هذه الحالة اسم "غاما" بلغة سوق الخيارات. تعرضت سوق النفط لظروف مشابهة من قبل في حال الصعود أو حال الهبوط.
قال تيبوت ريموندوس، مؤسس شركة "كومويديتس ترايدينغ" (Commodities Trading)، التي تقدم المشورة لمستهلكي النفط والمنتجين حول استراتيجيات عقود الخيارات: "في حال اخترقنا مستوى 90 دولاراً للبرميل تصبح الأمور حيوية... في ظل ارتفاعنا فوق مستوى 95 دولاراً وبلوغ أسعار أكثر ارتفاعاً، تصبح عقود الخيارات بمثابة قوة دافعة للمتفائلين".
على أكتاف السوق
قطعاً، ليس بإمكان "وول ستريت" وحده تحريك السوق دون مقومات أساسية متينة، إذ إن السوق الحقيقية هي التي رفعت الأسعار لتقارب 90 دولاراً للبرميل. قد يكون هناك بعض التوقف المؤقت خلال فبراير ومارس، وهو الوقت من العام الذي يُجري فيه بعض مصافي النفط صيانة سنوية، ما يخفض الطلب على النفط الخام.
قد يحدث ثبات في نطاق حركة السعر، لكنها ستنتقل إلى مستوى أعلى بعدئذ. تتموضع سوق النفط الحقيقية لتصبح أقوى بحلول أبريل، فيما تبقى المخزونات منخفضة تماماً، خصوصاً عندما تقاس وفقاً لعدد أيام الطلب المستقبلي. قالت وكالة الطاقة الدولية يوم الأربعاء إن مخزونات النفط في أغلب الدول الصناعية حول العالم هبطت إلى أدنى مستوياتها لسبعة أعوام. قالت الوكالة في تقريرها الشهري: "إن بقي الطلب في نمو قوي أو كان جانب العرض متراجعاً، فإن المستوى المنخفض للمخزونات والنقص في حجم فائض الطاقة سيؤدي إلى استمرار اضطراب سوق النفط لعام آخر في 2022". قد تصعد أسعار النفط في ظل هذا السيناريو إلى المستوى الذي ستكون عنده سوق الخيارات المكان الذي يشهد جني كثير من الأموال.
صعدت أعداد العقود القائمة الشهر الماضي، أو أعداد عقود الخيارات المفتوحة، لشراء خام برنت بقيمة 100 دولار للبرميل في يونيو 2022 بنحو 140%، إذ اشترى التجار كثيراً من تذاكر يانصيب. هذا يشمل منصة التداول البيّنة، أما في سوق التداول غير الظاهرة خارج منصة التداول، حيث يتبادل التجار العقود في ما بينهم بطريقة مباشرة، فقد تكون الأحجام أعلى من هذا المستوى بكثير. إذا توافرت الحظوظ فقد يفوز تجار النفط الذين تمسكوا بعقود الخيارات بصبر لشهور بالجائزة الكبرى في النهاية.