قيل سابقاً إن أفضل دعاية يمكن أن تتبعها محطات الطاقة، تتمثل بقطع الطاقة لمدة ساعة يومياً، فهل توجد طريقة أفضل لإثبات ضرورية وجودها بشكل حتمي؟
قد لا يكون فلاديمير بوتين يدير محطة للطاقة (بشكل مباشر على أي حال)، إلا أن الرئيس الروسي دائماً ما عرف بأنه "مهووس بالطاقة". ويبدو أنه قد فهم طريقة "قطع الطاقة حتى يقدرونها" التسويقية هذه. حيث تبدو مخزونات "غاز بروم" المنخفضة في وسط أوروبا قد جاءت بالتوقيت الأمثل، وقد لوح بوتين بإمكانية زيادة إمدادات الغاز هذه في حال رأى الأوروبيون أهمية العمل على المسار الجديد لخط الأنابيب الروسي ووافقوا على تسريع العمل به.
عاد مفهوم "أمن الطاقة" من جديد ليتصدر جداول الأعمال في كل مكان، وخاصة في أوروبا، وذلك مع الارتفاعات الهائلة في أسعار الطاقة. وفي رواية معروفة، يتم إلقاء اللوم على الجهود المبذولة لتعزيز مصادر الطاقة المتجددة، وما تقود إليه من إهمال لمصادر الوقود الأحفوري الصديقة والموثوق بها، ويمكن تسمية هذا التوجه بالتأثيرات الجانبية لانتقال الطاقة. في الطرف المقابل، تلوم الرواية الأخرى بطء التحرك للتخلص من أنواع الوقود الأحفوري الأقل ثقة.
في الوقت الحالي، يخضع نظام الطاقة عالمياً إلى تغيرات جذرية، حيث يبتعد عن الاعتماد على المصادر الحرارية المُصدرة لانبعاثات الكربون، ويتحول ليعتمد بشكل أكبر على الكهرباء والتقنيات الخالية من انبعاثات الكربون. وقد نشأنا جميعاً ونحن نعرف نظام الطاقة الحراري (الذي يتضمن الطاقة النووية الخالية من الكربون هي الأخرى).
تاريخ من الأزمات
ببساطة، سيكون من الواضح بشكل كبير، عدم وجود ما يسمى بـ"أمن الطاقة" بالنسبة لأي شخص قد شهد أحداث السبعينيات، وحرب الخليج، وأزمة الطاقة في كاليفورنيا (اختر أياً منها)، والدورة الفائقة، وكارثة "فوكوشيما"، والأزمة الروسية الأوكرانية المستمرة، وانقطاع الطاقة عن تكساس في فبراير الماضي. حيث أثبتت هذه الأزمات أن هناك درجات أمان مختلفة فقط فيما يتعلق بأمن الطاقة، تكسبها الجهات المختلفة بصعوبة، بعد أي من الصدمات.
وفيما يعتبر الوقود الأحفوري آمناً إلى حد كبير؛ لأنه قابل للاستخدام على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، بينما تعتمد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح على التوقيت خلال اليوم وطبيعة الطقس، وهذه الفروق بالتحديد يتعين على مؤيدي كلا المعسكرين الاعتراف بها وعدم الانقسام حولها.
يمكن الاستغناء عن الوقود الأحفوري بشرط أن تحصل عليه بالأساس، وقد بذلنا قدراً هائلاً من الجهود الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية للحصول عليه.
فعلى سبيل المثال، فإن البنزين الذي تعبئ به سيارتك، يقف خلفه نظام ضخم من الشاحنات، وخطوط الأنابيب، والمصافي، ومستودعات التخزين، والناقلات، والحفارات البعيدة، وهذا يعكس الكم الهائل من الإنفاق والمعونات والبنية التحتية التي تم تقديمها على مدى قرن من الزمن، وفي أحيان كثيرة احتاج ذلك النظام أيضاً إلى حماية قوات البحرية الأمريكية حتى.
كذلك تم إنشاء نظام المخزونات الاحتياطية بعد أزمة النفط عام 1973. ولكن، بالرغم من كل ذلك، فلا تعتبر تلك المنظومة الضخمة في معزل عن الفشل. هل تذكر الاختراق الإلكتروني لخط "كولونيال بايبلاين" لأنابيب النفط في الولايات المتحدة؟
ولكن من المثير للانتباه أن يكون نظام بهذا التعقيد والانتشار يحقق ما يحققه من الأمان. ولكن النقطة الأهم هنا، هي أننا بذلنا الكثير من الجهود، واستثمرنا في جميع أنواع الحماية، للوصول إلى ما نحن عليه الآن.
العامل المناخي
ومع ذلك، فبالرغم من كونه مفيداً إلى حد كبير، إلا أن الوقود الأحفوري يحمل عيباً جوهرياً كبيراً، يتمثل في الانبعاثات التي يصدرها، والتي تعد أحد المساهمين الرئيسيين في أزمة المناخ المتصاعدة والتي تشكل تهديداً وجودياً للمجتمعات.
كذلك يوجد جانب المخاطر الذي يشكله الاعتماد على النفط على المعروض من الطاقة. فعلى سبيل المثال، فإن أكثر من 40% من طاقة التكرير في العالم، معرضة بشكل (مرتفع أو مرتفع للغاية) لمخاطر الأعاصير المدمرة.
ويعد التغلب على ما نشهده اليوم من ارتفاعات في الأسعار عن طريق إبطاء التحول نحو الطاقة المتجددة، وتعزيز الاستثمار في الوقود الأحفوري، بمثابة تجاهل واضح لإجماع علماء المناخ الساحق على أخطار ذلك، وإخضاع البشرية لتواجه الخطر بناء على الحظ.
في الوقت نفسه، فإن فكرة أن الطاقة المتجددة يمكنها حل كل تلك المشاكل، هي أمر لا يمكن الاعتماد عليه. فمسألة التقطع في الطاقة واضحة للغاية. فيما أن الأمر الأقل وضوحاً، هو تأثير تكلفة الطاقة المتجددة على أسواق الطاقة القائمة لدينا بالفعل، حيث تتمثل معظم التكلفة في هذه الأنواع من الطاقة في تكلفة التأسيس، وليس التكلفة التشغيلية. وكذلك فإن الطاقة المتجددة لديها تأثير آخر يطال مصادر الوقود الأحفوري، التي توفر الدعم عندما تنخفض قدرة الطاقة من المصادر المتجددة.
النظام الجديد
حقيقة أننا في مرحلة انتقالية لإيجاد نظام بديل، يعد أمراً يزيد من المخاطر التي نبقى عرضة لها، فيما يمثل هذا النظام معضلة مجتمعية حول الابتكار، لكنها حتى الآن لا تملك خيارات يمكن أن تجعلها تختفي وتصبح حالة للدراسة في كليات الأعمال فقط.
وعلى الرغم من المرونة التي يتمتع بها نظام الوقود الأحفوري (عادة تحتاج مضخات البنزين لأيام حتى تنضب)، إلا أن وجود نظام أكثر اعتماداً على الكهرباء، يعني أنه سيوفر التوازن من خلال توفير إمدادات الطاقة في الوقت الفعلي لإنتاجها (وهنا فإن استراتيجية الدعاية بقطع الطاقة لن تنفع محطات الطاقة في شيء).
ومع أن الطاقة المتجددة تنتج محلياً، إلا أنها لا تزال تعتمد على سلاسل التوريد الكبيرة لتوفير المواد الهامة. فإذا انتهينا إلى استخدام هيدروجين أكثر، فبالتأكيد فإن تجارة الطاقة سوف تتغير ولكنها لن تختفي. كذلك فإن الجغرافيا السياسية لن تذهب إلى أي مكان هي الأخرى، فمع انتقال الولايات المتحدة إلى مصادر الطاقة الجديدة بالتزامن مع تراجعها عن سياسة ضماناتها الأمنية بعد الحرب، قد يؤدي ذلك بها لمزيد من الصدمات.
إذا كنت تريد أن تفهم كيف تغير العالم بالفعل في هذا الإطار، فعليك الاطلاع على الرسم:
الإنفاق والابتكار
بالعودة للأزمة الحالية، يتعين على أوروبا التوصل إلى حل وسط مع بوتين بشأن الغاز لأن نظام الطاقة الحالي مهيأ لمنح نفوذ للرئيس الروسي، وهو لن يخجل أبداً من استخدام هذا النفوذ. في المقابل يعاني بوتين بسبب إصلاحات سوق الطاقة في أوروبا وما يحمله ذلك من تهديد متزايد بمرور الوقت للنفوذ الذي يمتلكه، حتى لو كانت أوروبا تعطيه اليد العليا في لحظات معينة.
التراجع يعني ببساطة الحصول على ضمان مشروط من مورد غير جدير بالثقة، وخسارة شكل آخر من أشكال الأمان.
ونؤكد هنا أن هذا الأمان سوف يأتي مع قيود خاصة به، ولكن كما فعلنا سابقاً يمكننا الابتكار والاستثمار للتخفيف من حدة تلك القيود.
قادة أوروبا يتجاهلون الدعوات من أجل مواجهة عاجلة لزيادة أسعار الطاقة
وكما لخص نيكوس تسافوس من "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في ندوة حديثة عبر الإنترنت:
"يجب علينا التخلي عن الفكرة بأن العالم القديم كان آمناً، لأنه لم يكن كذلك، لكننا عملنا وبذلنا جهوداً كبيرة لجعله آمناً بقدر ما استطعنا، كما يجب علينا أيضاً التخلي عن فكرة أننا متجهون لمكان رائع، حيث كل شيء يكون رائعاً وآمناً ولا توجد تقلبات".
انتقال الطاقة يمثل العلاج الشامل لتهديدات الأمان. والتخلي عن تلك الأولوية استجابة للاضطراب الحالي سيدفعنا إلى مستوى ضيق وغير مكتمل من الأمان. قد يكون مستوى مألوفاً، لكنه يشبه "خط ماجينو" للطاقة الذي فشل في الحرب العالمية الثانية.