بلومبرغ
تشهد أسعار الغاز الطبيعي ارتفاعاً تاريخياً، وهو ما يُعتبر أخباراً سلبية للجميع، بدءاً من صانعي السيراميك في الصين إلى عملاء المعجنات في باريس.
تصل تكلفة الوقود حالياً إلى مستويات قياسية موسمية في معظم الأسواق الرئيسية، ويبدو أنها مؤهلة للارتفاع أكثر، وهو ما يهدد بعرقلة التعافي من جائحة "كوفيد-19".
قد يعطي الشتاء القادم العالم درساً قاسياً يبرز الأهمية الاقتصادية الحيوية للغاز، إذ من الممكن أن تؤدي الأسعار الباهظة إلى إعاقة إنفاق الأُسَر وتقويض أجورهم بسبب التضخم، مما يمنح محافظي البنوك المركزية بعض الخيارات السياسية الصعبة.
الأسوأ من ذلك أن النقص الفعلي في العرض قد يؤدي إلى توقف قطاعات صناعية، أو حتى حدوث انقطاع في التيار الكهربائي في البلدان النامية، مما قد يتسبب في اضطرابات اجتماعية.
قال بروس روبرتسون، المحلل في معهد اقتصادات الطاقة والتحليل المالي: "الطاقة تكمن في أساس الاقتصاد". وأضاف: "ارتفاع أسعار الطاقة يتردد صداه عبر سلسلة التوريد"، ويمكن أن يضعف الانتعاش الناشئ.
ترتفع تكاليف الطاقة في جميع أنحاء العالم، إذ يتعارض تعافي الطلب من أسوأ عمليات الإغلاق بسبب الجائحة مع قيود العرض. شهد النفط بالفعل ارتفاعاً طويلاً بدأ في أواخر عام 2020 وانتهى عند أعلى مستوياته في عدة سنوات فوق 75 دولاراً للبرميل في يوليو. كذلك بدأ الغاز في الارتفاع بشكل جدي في بداية الصيف في نصف الكرة الشمالي، عندما أصبح من الواضح بشكل متزايد أنه لم يكن في أوروبا إمدادات كافية للسماح بإعادة الملء المعتاد لمواقع التخزين المستنفدة في الشتاء.
روسيا تحدّ من صادرات الغاز
كانت روسيا، أكبر مورد في القارة، تحدّ من صادرات الغاز عبر خطوط الأنابيب لعدد من الأسباب، منها ارتفاع الطلب المحلي، واضطراب الإنتاج، والاتفاق على نقل كمية أقل من الوقود عبر أوكرانيا.
قال ألفريد ستيرن، الرئيس التنفيذي لمنتج النفط والغاز النمساوي "أو إم في": "حدث تراجع نتيجة تأخير التخزين طوال الصيف".
الآن أصبح المستهلكون في أوروبا تحت رحمة الطقس، وسيعتمد مسار الأسعار على مدى برودة هذ الشتاء.
في أوروبا ومنذ ذلك الحين، تجاوز معدل ارتفاع أسعار الغاز والنفط، إذ إن المشكلة لم يجرِ احتواؤها داخل المنطقة. وفي حين أن قيود التوريد الروسية لا تؤثر بشكل مباشر في المستهلكين في آسيا، فلا يزال يتعين عليهم التنافس مع أوروبا على شحنات الغاز الطبيعي المسال المنقولة بحراً، مما يجبرهم على دفع أسعار أعلى لتأمين عمليات التسليم.
قال فرانشيسكو ستاراس، الرئيس التنفيذي لشركة المرافق الإيطالية "إينل إس بي إيه" (Enel SpA)، في مقابلة مع تليفزيون "بلومبرغ" يوم الجمعة: "ارتفاع أسعار الغاز اليوم يمثل مشكلة لأوروبا. قد تكون مشكلة بالنسبة إلى آسيا أيضاً".
ما يربط بين أوروبا وآسيا والولايات المتحدة هو سوق الغاز الطبيعي المسال، وتتغذى الأسعار المرتفعة على السوق الأمريكية المحلية في ظل تحفيز صادرات أكبر من الوقود عالي التبريد.
ارتفعت العقود الآجلة للغاز الطبيعي في نيويورك بنسبة 80% منذ بداية العام إلى أعلى مستوياتها منذ 2018، على الرغم من أنها لا تزال أقل بكثير مما كانت عليه في الأسواق العالمية الرئيسية الأخرى.
قالت نينا فاهي، محللة الغاز الطبيعي في "إنيرجي أسبكتس ليمتد" في نيويورك: "السوق الأوروبية والسوق الأمريكية في وضع مماثل مع اقتراب موسم التدفئة. من المحتمل أن يكون لدينا مخاوف بشأن كفاية التخزين إذا كان لدينا طقس أكثر برودة من المعتاد، بالنظر إلى الحجم المتوقع لصادرات الغاز الطبيعي المسال".
الصناعات المتضررة
أصبحت العواقب الاقتصادية لارتفاع أسعار الغاز الطبيعي واضحة في جميع أنحاء العالم .
حذرت شركة "تيروس"، أكبر منتج للسكر في فرنسا، الشهر الماضي من أن سعر الوقود يؤثر في معالجة السكر في أوروبا، مما يزيد من تكاليف الإنتاج "بشكل هائل"، وفقاً لنسخة من رسالة بريد إلكتروني أُرسلت إلى العملاء واطلعت عليها "بلومبرغ نيوز".
قال باسكال ليروي، نائب الرئيس الأول للمكونات الأساسية في شركة "روكوتي" (Roquette Freres SAS)، وهي شركة تصنيع أغذية مقرها شمال فرنسا، إن أسعار الطاقة المرتفعة تخلق "ضغطاً تضخمياً على كل التكاليف الأخرى"، وسينتهي الأمر إلى تضخم أسعار المستهلكين.
وفي الصين، أكبر مستورد للغاز في العالم، اضطرت مصانع السيراميك إلى خفض الإنتاج بسبب ارتفاع الأسعار في مقاطعتي غوانغدونغ وجيانغشي، وفقاً لتقارير محلية، فيما أدى ارتفاع فواتير الخدمات إلى "تخريب" أعمال شركة "موغال ستيلز" في باكستان، وفقاً لما قاله رئيس العمليات شكيل أحمد.
قال شكيل: "نحن نستهلك الغاز أولاً ثم نحصل على فاتورة عالية في ما بعد. كيف يمكنني أن أعود إلى العميل قائلاً: إنني بحاجة إلى إضافة تكلفة إضافية إلى الفولاذ الذي بعته لك؟".
قال "جيه بي مورغان تشيس" وشركاه هذا الأسبوع إن مؤشر مديري المشتريات التصنيعي انخفض عالمياً إلى أدنى مستوى خلال ستة أشهر في أغسطس، على الرغم من أنه لا يزال يشير إلى التوسع.
ووفقاً للأشخاص الذين استطلعت "بلومبرغ" آراءهم، فالبلدان الفقيرة، مثل بنغلاديش، لا تستطيع شراء إمدادات طاقة كافية للحفاظ على ازدهار اقتصاداتها. وقد يكون بعض أنظمة الري في البلاد قادراً على العمل ليلاً فقط بسبب التقنين المحتمل للطاقة.
قال ليونيد ميخلسون، الرئيس التنفيذي لشركة "نوفاتيك": "قد يكون الرفض من العملاء الذين لا يستطيعون تحمل الأسعار المرتفعة".
قالت فاهي من "إنيرجي أسبكتس" إن الشركات المصنعة في الولايات المتحدة لم تشهد بعدُ ضربة كبيرة من ارتفاع تكلفة الغاز، لأن عديداً من الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الصلب والبتروكيماويات شهد أيضاً ارتفاعاً في الأسعار التي يبيعون بها منتجاتهم.
موجة تضخمية
يمكن للأزمة التي تحدث بشكل كبير في الصناعات الثقيلة في أوروبا وآسيا اليوم أن تنتشر قريباً من الساحتين السياسية والاقتصادية، إذ إنه إذا لاحظت الأُسَر والشركات ارتفاع فواتير الخدمات فقد يسعون إلى رفع الأجور أو أسعار السلع التي يبيعونها، مما يؤدي إلى تفاقم الضغط التضخمي الناتج بالفعل عن سلاسل التوريد المتوترة.
ارتفع معدل التضخم الرئيسي في منطقة اليورو بالفعل إلى أعلى مستوى له منذ عقد من الزمن عند 3%، فيما يصر مسؤولو البنك المركزي الأوروبي على أن هذا الارتفاع في فترة ما بعد الوباء يجب أن يكون مؤقتاً، لكن الانتعاش الدائم سيعقد قدرتهم على الاستمرار في دعم الاقتصاد من خلال سياسة نقدية فائقة التيسير.
قال كارستن برزيسكي، الخبير الاقتصادي في شركة "آي إن جي غرويب" (ING Groep NV) في فرانكفورت: "إن احتمال تمرير المنتجين للتكاليف مرتفع للغاية. وهذا يعني أن التضخم قد لا يكون مؤقتاً إلى هذا الحد.".
عواقب اجتماعية
من الممكن أن يكون لارتفاع تكلفة السلع الأساسية عواقب اجتماعية لفترة طويلة.
قال محللو مجموعة "أوراسيا" في مذكرة بتاريخ 31 أغسطس: "في كثير من اقتصادات الأسواق الناشئة يمكن أن تؤدي الزيادات الطفيفة في أسعار التجزئة للوقود أو الطاقة إلى صعوبات اقتصادية واضطرابات عامة"، ففي باكستان تعرضت الحكومة لانتقادات بسبب شرائها أغلى شحنات الغاز الطبيعي المسال في البلاد منذ أن بدأت في استيراد الوقود في عام 2015.
وقال أولي هانسن، رئيس استراتيجية السلع الأساسية في "ساكسو بنك"، إن تكلفة الطاقة يمكن أن تصبح "بطاطا ساخنة" في الانتخابات الألمانية المقبلة.
وقال جوليان هواراو، رئيس “إنرجيسكان” (EnergyScan)، وحدة التحليلات في شركة “إنجي إس إيه” (Engie SA) الفرنسية، ومقرها باريس: "لم يركز الرأي العام بعدُ على ارتفاع أسعار الطاقة. لكن في مرحلة ما سيتفاعل الرأي العام وسيبدأ في التساؤل: ما الذي يحدث هنا؟".