بلومبرغ
شهدت فرنسا تشكيل برلمان يفتقر إلى الأغلبية المطلقة، وحملة انتخابية أثارت انقساماً شديداً، ما زرع قلقاً لدى عديد من المواطنين الأثرياء في البلاد إزاء عدم الاستقرار السياسي والمالي، لدرجة قد يقرر فيها بعضهم مغادرة البلاد، وفق شركات لإدارة الثروات.
تأتي تلك التحذيرات في ضوء المناورات التي تقوم بها الأحزاب السياسية الكبرى للسيطرة على الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، المُقسمة حالياً إلى 3 تكتلات تقريباً، وتشكيل حكومة جديدة. كما أن احتمال أن تتحول بعض مقترحات زيادة الضرائب، التي طُرحت خلال الحملة الانتخابية لتمويل برامج الإنفاق باهظة التكلفة، إلى قانون في وقت قريب، دفع عدداً من الأفراد إلى دراسة خيارات لحماية أنفسهم.
إيمانويل أنجلييه، الرئيس والشريك المؤسس لشركة إدارة الثروات "لا فينانسير دوأوريون" (La Financiere d’Orion)، قال: "سيغادر البلاد من يمكنهم ذلك في حالة تبني سياسات متطرفة. لن تعود فرنسا وجهة جذابة للمستثمرين بعد الآن، وقد يرحل الأثرياء".
الأثرياء يدرسون سبلاً لحماية أنفسهم
أنجلييه من بين مستشاري الثروات الذين تلقوا مكالمات من العملاء المذعورين خلال الحملة الانتخابية التي استمرت 4 أسابيع، وجولتي التصويت اللتين انتهيتا يوم الأحد الماضي، حيث نقل بعضهم رؤوس أموالهم إلى الخارج، وبدأوا دراسة احتمال الاغتراب.
وأشاروا إلى أن رغم أن النتيجة المبهمة للانتخابات بثت قدراً من الطمأنينة، إذ لم تفز الأحزاب من أقصى اليمين أو اليسار بسلطة مطلقة، يشكل الوضع علامة تحذير على احتمال وقوع اضطرابات قبيل إقامة الانتخابات الرئاسية في 2027.
قالت زينيا لوجندر، الشريكة المديرة في شركة "هوغان لوفلز" (Hogan Lovells) للمحاماة، والمقيمة في باريس، "لدينا عملاء جدد، من بينهم تنفيذيون رفيعو المستوى، يسألون ماذا بإمكانهم أن يفعلوا لحماية أنفسهم. بعد (بريكست)، تدفق المصرفيون على فرنسا، لكن أصحاب الدخل المرتفع هؤلاء سيغادرون البلاد، نظراً لرغبتهم في عدم دفع ضرائب أكبر".
جمود الوضع في البرلمان الفرنسي، وتشكيل الحكومة من قبل حزب العمال بعد الفوز بالانتخابات في المملكة المتحدة، زادا احتمال رفع الضرائب على أصحاب الدخل الأعلى في كلا البلدين، حيث تعهد رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، بإلغاء بعض التخفيضات على ضريبة التركات. أما في فرنسا، استهدف حزب "التجمع الوطني" من أقصى اليمين والذي تتزعمه ماري لوبان، وكذلك ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري، الأثرياء مباشرة خلال الحملة الانتخابية.
دبي وسنغافورة ضمن البدائل المحتملة
موقف الحزب الذي تقوده لوبان لا يسمح له بتشكيل حكومة، وبالتالي أصبح السؤال عن قدر النفوذ الذي سيملكه الائتلاف اليساري، الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد على نحو غير متوقع، في الإدارة القادمة. فقد لا يكتفي المشرعون بإلغاء إجراءات أقرها الرئيس إيمانويل ماكرون، والتي تعد أكثر مراعاةً للأثرياء، بل بمقدورهم أن يمارسوا ضغوطاً لتنفيذ سياسات مثل توسيع نطاق ضريبة الثروة.
تعهد ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة- الذي يضم الحزب الاشتراكي، وحزب الخضر، وحزب فرنسا الأبيّة- بإصدار قانون "يلغي امتيازات المليارديرات"، فضلاً عن إعادة تطبيق ضريبة ثروة أوسع نطاقاً، كما طالبت حملة الائتلاف الانتخابية بإلغاء الضريبة الموحدة في فرنسا، وتجديد ضريبة الخروج، وكذلك رفع المعدل الحدي لضريبة الدخل لأعلى عند 90%، والتجديد الشامل لقواعد التوريث، لتشمل فرض حداً أعلى على الميراث.
أشارت لوجندر إلى أن "بعض الأشخاص يدرسون إذا ما كان يجب عليهم البقاء في فرنسا. هناك زيادة في التنقل الدولي حالياً، ينتقل الأشخاص من مكان لآخر، لذلك أصبح السؤال هو ما إذا كان يمكن للانتقال أن يساعدهم على تحقيق أقصى استفادة ممكنة من وضعهم المالي".
تشمل البدائل أماكن مثل إيطاليا، ودبي، وسنغافورة، بحسب لوجندر وآخرين، إلا أن عملية الانتقال تستغرق وقتاً، والخيارات صعبة أحياناً، إذ تتوقف على عائلة الشخص وأحواله المهنية.
إجراءات ماكرون دعمت الاستثمار في فرنسا
في فرنسا، أمضى ماكرون السنوات السبع الماضية في التودد إلى المواطنين الأثرياء في البلاد، سعياً لمواصلة استثماراتهم وخلق فرص عمل.
وفي 2018، بعد توليه الرئاسة لأول مرة، خفضت حكومته ضريبة الثروة المعمول بها لتقتصر على العقارات فقط، وفرضت ضريبة موحدة بمعدل 30% على الدخل من المدخرات، كما طبق اتفاق "دوتراي" (Dutreil)، الذي يمكن بموجبه إجراء خفض كبير على ضريبة التركة المفروضة على الشركات العائلية.
تلك الإجراءات، التي تزامنت مع إصلاحات أخرى أقرها ماكرون لدعم الأعمال، ساعدت في زيادة الاستثمار، وفق الحكومة، وعززت مكانة فرنسا باعتبارها وجهة جذابة للشركات، كما بدا أنها تحُد من صافي خروج الأثرياء إلى دول أخرى.
دعا ماكرون، في خطاب نشرته وسائل الإعلام المحلية في فرنسا الأربعاء، الأحزاب السياسية التي تمثل "القوى الجمهورية" إلى تشكيل أغلبية واسعة من تيار الوسط السياسي، للتصدي لأقصى اليمين واليسار على حد سواء.
فرنسا موطن عدد من أثرياء العالم
فرنسا هي موطن عدد من أكثر الأشخاص ثراءً في العالم، ومن بينهم برنارد أرنو، قطب السلع الفاخرة ومالك شركة "إل في إم إتش" (LVMH)، ووريثة إمبراطورية "لوريال" (L’Oreal) لمستحضرات التجميل، فرانسوا بيتنكور مايرز، وفق مؤشر "بلومبرغ" للمليارديرات.
يُتوقع أن يرتفع عدد المليونيرات- من حيث قيمة ثرواتهم بالدولار- في البلاد بنسبة 16% خلال السنوات الخمس المقبلة، وفق ما ورد في تقرير "يو بي إس" للثروات العالمية في عام 2024، الذي صدر الأربعاء.
رغم ذلك، تشعر تلك الفئة حالياً بالقلق الشديد. ففي ضوء تكثيف المفاوضات بين الزعماء السياسية بهدف تشكيل حكومة، تم إرجاء قرارات الاستثمار، والتوظيف، والصفقات العقارية، وتوقف جمع التمويل في شركات رأس المال الجريء، بحسب تصريحات باتريك مارتان، رئيس مجموعة "ميديف" (Medef)، وهي تكتل يضم الشركات الرئيسية في فرنسا، في حوار الأسبوع الجاري نشرته صحيفة "لي إيكو" (Les Echo). فيما أشارت لوجندر إلى أن عدداً من عمليات التمويل أوقفت مؤقتاً.
الغموض يكتنف الفترة المقبلة في فرنسا
لفتت لوجندر وغيرها من مستشاري الأثرياء إلى تزايد المخاوف من احتمال وقوع اضطرابات اجتماعية مرتبطة بالأوضاع السياسية في فرنسا، في ضوء الاحتجاجات الشعبية، التي اتسمت أحياناً بطابع عنيف، واندلعت في السنوات الماضية، مثل حركة السترات الصفراء (Yellow Vest movement)، والمظاهرات والإضرابات ضد إصلاح نظام التقاعد، وأعمال الشغب المرتبطة بحادث إطلاق النار من الشرطة في العام الماضي.
من جانبه، قال جوليان ماجيتري، مستشار الثروة الخاص والشريك المؤسس لشركة "بارنز فاميلي أوفيس باي كوم" (Barnes Family Office by Come)، إن بعض عملائه لم ينتظروا حتى الجولة الثانية من التصويت في الانتخابات، فنقلوا رؤوس أموالهم إلى دول أخرى أكثر استقراراً، مثل سويسرا ولوكسمبورغ.
وأضاف أن "المستثمرين الأجانب يستغرقون وقتاً أطول بكثير لإنجاز العمليات. كان لدينا مناخ من الثقة والاستقرار، وقد ضاع كل هذا في غضون أيام قليلة، وهناك قليل من الوضوح بشأن ما سيحدث في الفترة المقبلة".