الشرق
وصلت الخلافات بين طرفي النزاع في السودان إلى طريق مسدود مع اندلاع اشتباكات مسلحة بين قوات الجيش وقوات "الدعم السريع" في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، يوم السبت، وسط اتهامات متبادلة تعكس عمق الخلاف.
هذا التصعيد الذي استُخدمت فيه مختلف الأسلحة، سبقته في الأيام الأخيرة حرب بيانات واتهامات بين الجيش السوداني، الذي يقوده الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، وقوات "الدعم السريع" التي يترأسها محمد حمدان دقلو "حميدتي"، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس مجلس السيادة.
وتتركز الخلافات بين الجانبين حول ملفات داخلية وخارجية، منها الإصلاح الأمني والعسكري، الذي ما يزال أحد أبرز أسباب تعطيل الاتفاق السياسي النهائي في السودان.
حرب بيانات استباقية
الخلافات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بدأت بالظهور إلى العلن العام الماضي، لكنَّ الأسابيع الأخيرة شهدت تسارعاً في مسار التصعيد بين الطرفين، بما في ذلك إصدار البيانات والبيانات المضادة، التي شملت اتهامات بتحركات مشبوهة، وتحميل مسؤولية تفجر الخلاف إلى مستوى النزاع المسلح.
وحذر الجيش السوداني في مناسبات عدة من مخاطر الوصول إلى طريق مسدود، وقبل يومين، قال في بيان إنَّ البلاد تمر بـ"منعطف خطير"، بعد انتشار قوات الدعم السريع المسلحة في الخرطوم ومدن رئيسية.
ولكنَّ قوات الدعم السريع نفت ما وصفته بـ"مزاعم" قيامها بأعمال حربية، ووصفتها بـ"الكاذبة والمضللة"، ولفتت إلى أنَّ وجودها "يأتي في إطار تأدية مهامها وواجباتها.. التي تمتد حتى الصحراء".
وقالت في بيان إنَّ "(الدعم السريع) قوات قومية تضطلع بعدد من المهام والواجبات الوطنية التي كفلها لها القانون"، ولفتت إلى أنَّها "تنتشر وتتنقل في كل أرجاء الوطن، من أجل تحقيق الأمن والاستقرار، ومحاربة ظواهر الاتجار بالبشر، والهجرة غير الشرعية، ومكافحة التهريب والمخدرات، والجريمة العابرة والتصدي لعصابات النهب المسلح أينما وجدت".
وساطات لحل الخلاف
وسط ارتفاع التوتر في الأيام الأخيرة؛ عُقد اجتماع بين رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والمجموعة الموقِّعة على "الاتفاق الإطاري"، الجمعة، لبحث الأزمة بين الجيش وقوات الدعم السريع وسط محاولات للتوسط بين الجانبين، وفق ما كشفت مصادر لـ"الشرق".
ونقل وسطاء عن قائد قوات "الدعم السريع" الفريق أول محمد حمدان دقلو قوله إنَّه مستعد للقاء البرهان لتهدئة الخلافات، علماً أنَّ دقلو، يشغل منصب نائب رئيس مجلس السيادة الذي يرأسه البرهان.
ولكنَّ مساعي بعض الأطراف لعقد لقاء مباشر بين البرهان وحميدتي لم تنجح، برغم سعيهم لأن يكون هذا اللقاء فرصة لعقد تسوية تحول دون انزلاق السودان إلى دوامة العنف، فيما اعتبره مراقبون "إشارة علنية إلى خلافات طويلة الأمد ستُعرقل على الأرجح جهود عودة الحكم المدني".
وبعد التحذير الذي أطلقه الجيش السوادني، الخميس، تقدّم عدد من الأطراف على الصعيدين المحلي والدولي بعروض للوساطة، منهم وزير المالية جبريل إبراهيم، وحاكم إقليم دارفور مني مناوي، وعضو مجلس السيادة مالك عقار، وهم ثلاثة من قادة المعارضة السابقين الذين تقلدوا مناصب بعد اتفاق السلام في عام 2020.
وقال الثلاثة في بيان: "بعد حوار صريح وجاد، أكد لنا الأخ القائد (دقلو) التزامه التام بعدم التصعيد واستعداده للجلوس مع أخيه رئيس مجلس السيادة، وإخوته في قيادة القوات المسلحة السودانية في أي وقت، ومن غير قيد أو شرط، بغية الوصول إلى حل جذري للأزمة يحقن الدماء، ويحقق الأمن والطمأنينة للعباد والبلاد".
ولكن هذه الجهود لم تكلل بنجاح، لتنفجر دوامة عنف كبيرة في السودان يوم السبت، استخدمت فيها الطائرات الحربية والمدفعية الثقيلة.
جذور الخلاف
بدأت محادثات في مارس الماضي لدمج قوات الدعم السريع شبه العسكرية في الجيش، بموجب خطة انتقالية تفضي إلى انتخابات جديدة.
ويُعتبر دمج قوات "الدعم السريع" في القوات المسلحة إحدى نقاط الخلاف الأساسية التي أدت إلى حدوث صدام عسكري بسبب وجهات النظر المتباينة بين الطرفين.
وذكرت مصادر متطابقة من الجيش لـ"الشرق" أنَّ إحدى القضايا الخلافية تتمثل في تردد قيادة قوات "الدعم السريع" في دمجها داخل الجيش.
وقالت المصادر إنَّ اجتماع هيئة قيادة الجيش الذي عقد في يناير، انتهى إلى ضرورة دمج قوات الدعم السريع، وإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، وكلّف الاجتماع كلاً من الجيش والمخابرات العامة والشرطة بإعداد وتقديم رؤيتهم بشأن إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية.
وأضافت المصادر أنَّ الاجتماع أوصى بتشكيل لجان من ضباط برتبتي فريق ولواء لإعداد دراسة إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية.
ولم تتلق "الشرق" رداً من قوات الدعم السريع على طلب للتعليق بشأن الخلافات بين الجانبين.
كما أشارت مصادر مقربة من البرهان ودقلو إلى أنَّ من بين خلافاتهما أيضاً هوية القائد العام للقوات المسلحة خلال فترة الاندماج التي ستمتد إلى عدة سنوات.
وتعتبر قوات الدعم السريع أنَّ قائد القوات المسلحة ينبغي أن يكون الرئيس المدني للدولة، وهو ما يرفضه الجيش، بحسب ما ذكرت وكالة "رويترز".
الاتفاق الإطاري
ثمة نقاط خلاف عديدة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ولعلّ أبرزها على المستوى الداخلي مسألة الاستقلالية، التي ذكرت مصادر سودانية لـ"الشرق"، أنَّ الاتفاق الإطاري منحها للدعم السريع، على أن يكون البرهان قائداً للجيش، وحميدتي قائداً للدعم السريع.
وأشارت المصادر إلى أنَّ هناك اقتراحاً أيضاً بأن يخضع البرهان وحميدتي للرئيس المدني الذي سيُعيّن بمقتضى الاتفاق الإطاري، وهو ما يرفضه الجيش وعضوا المكون العسكري في مجلس السيادة الفريق أول شمس الدين كباشي، والفريق أول ياسر العطا، بالإضافة إلى رئيس هيئة الأركان الفريق أول محمد عثمان الحسين.
وأشارت المصادر إلى سبب آخر للخلاف في سياق الاتفاق الإطاري؛ إذ يتمسك قائد قوات الدعم السريع بتشكيل حكومة مدنية بمشاركة قوى مدنية محدودة، فيما يتمسك الجيش بتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة وتوافق وطني كبير.
السياسة الخارجية
شكّلت إدارة الملفات الخارجية، وما تزال، تحدياً كبيراً للجانبين، بحسب المصادر العسكرية التي أوضحت لـ"الشرق" أنَّ أبرز القضايا الخلافية في هذا الملف تتمثل في العلاقات بين السودان وإسرائيل وروسيا إلى جانب العلاقات مع الدول المجاورة.
ويتهم الجيش، حميدتي، بالسعي لخلق علاقات دبلوماسية موازية للدولة، مشيراً بذلك إلى زياراته لدول عدة سبق أن زارها البرهان، مما يعطي إيحاءً بأنَّ هناك قائدين للبلاد.
وبشأن العلاقة بين الخرطوم وتل أبيب؛ ذكرت مصادر دبلوماسية لـ"الشرق" أن هناك تنافساً بين الرجلين من أجل فتح قنوات اتصال بين البلدين، إذ يسعى حميدتي لتأسيس علاقة مع جهاز "الموساد"، وهو ما دفع البرهان وحمدوك للاحتجاج لدى الجانب الإسرائيلي في وقت سابق.
ولاحقاً قرر البرهان تسليم ملف العلاقات مع إسرائيل إلى اللواء المتقاعد مبارك عبد الله بابكر في أبريل 2022، لتوحيد قنوات الاتصال بين البلدين، وهي خطوة كانت تهدف لوضع العلاقة في إطارها الصحيح، بحسب عسكريين تحدثوا لـ"الشرق". ونجح الأخير في ذلك، إذ أعلن حميدتي عدم علمه بزيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين إلى الخرطوم، مطلع فبراير الماضي، وأنَّه لم يلتقِ به أو بالوفد المرافق له.
العلاقة مع روسيا
في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير العام الماضي، نشب خلافٌ بين البرهان وحميدتي بشأن العلاقة مع روسيا، باعتبار أنَّها تؤثر بشكل مباشر على علاقة الخرطوم مع واشنطن.
وقبل بدء الحرب الروسية بأسابيع قليلة، زار حميدتي العاصمة الروسية موسكو، والتقى خلالها الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف، مما أثار آنذاك تساؤلات بشأن الهدف من الزيارة.
وأثارت رحلة حميدتي حفيظة الجانب الأميركي، إذ كشفت مصادر حينها أنَّ القائمة بأعمال السفارة الأميركية في الخرطوم لوسي تاملين، عقدت اجتماعاً مع البرهان بالإضافة إلى عدد من أعضاء المكون العسكري، استفسرت خلاله عن سبب زيارة حميدتي إلى روسيا.
وتلقت الدبلوماسية الأميركية رداً من البرهان بأنَّ حميدتي زار موسكو بصفته قائداً لقوات الدعم السريع، وليس بصفته نائباً لرئيس مجلس السيادة.
العلاقات مع الجوار
أحد أكثر الخلافات تعقيداً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تتمثّل في علاقة حميدتي بعدد من الدول المجاورة، أبرزها إثيوبيا وأفريقيا الوسطى.
وأشارت المصادر إلى الخلاف بين الرجلين بشأن العلاقة مع إثيوبيا، إذ رفض حميدتي مشاركة قواته في العمليات العسكرية التي شنّها الجيش السوداني على مجموعات إثيوبية مسلحة، كانت متمركزة في أراضٍ سودانية محاذية للحدود المعترف بها دولياً منتصف عام 2021.
وقالت مصادر عسكرية لـ"الشرق" إنَّ البرهان وحميدتي لديهما وجهات نظر متباينة بشأن التعاطي مع الدول المجاورة لغرب السودان، خصوصاً تشاد وأفريقيا الوسطى.
وصدرت عن الجنرالين خلال الفترة الماضية تصريحات متباينة بشأن هذا الأمر، إذ أشار حميدتي إلى وجود قوات سودانية تحاول تغيير النظام في أفريقيا الوسطى، فسارع البرهان إلى نفي التهمة، وقال إنَّ الخرطوم لا ترسل ميليشيات لزعزعة الأمن والاستقرار في دول الجوار.
ووصل الخلاف بين البرهان وحميدتي إلى رفض الأول نشر قوات الدعم السريع على الحدود مع أفريقيا الوسطى، وهو الموقف الذي دعمه رئيس المجلس الانتقالي في تشاد محمد ديبي، وأبدى عدم ارتياحه لنشاط قوات الدعم السريع على حدود البلدين، وفي هذه المنطقة الحساسة أمنياً.
ويقدر محلّلون عدد قوات الدعم السريع بنحو 100 ألف جندي، ولهم قواعد وينتشرون في أنحاء البلاد.
وانبثقت هذه القوات غير النظامية عمّا يُسمى "ميليشيا الجنجويد" المسلحة، التي شاركت مطلع الألفية في الصراع بدارفور، واستخدمها نظام الرئيس السابق عمر البشير آنذاك في مساعدة الجيش لإخماد التمرد.