بلومبرغ
تدأب المناطق التي انضوت في معسكر الاتحاد السوفييتي السابق على إزالة نصب تذكارية تمجد تلك القوة البائدة، كضرب من الاحتجاج على غزو روسيا لأوكرانيا، لكن برلين تبرز كاستثناء بيّن.
تضم العاصمة الألمانية عشرات النصب التذكارية السوفييتية، بما فيها ضريح مهيب لجنود سقطوا في تريبتوف قرب نهر شبري. رغم وجود معظم هذه النصب في الشرق الشيوعي سابقاً، إلا أن بعضها قائم في مناطق كانت تحت سيطرة أميركية وبريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها نُصب يضم دبابات سوفيتية قرب بوابة براندينبرغ.
ما يزال أكثر من 1000 نصب سوفييتي قائماً في ألمانيا، رغم مناهضتها للحرب في أوكرانيا ورغم التأييد الشعبي الواسع للعقوبات ضد موسكو. هذا تناقض صارخ مع حركات هدم النصب التذكارية في جمهوريات سوفييتية سابقة في البلطيق وبين أعضاء حلف وارسو السابقين مثل بولندا.
ينبع الاختلاف من دور الجيش الأحمر في هزيمة النازيين، الذي يحييه عدد من النصب التذكارية وكتابات الجنود الروس العشوائية على جدران مبنى البرلمان الألماني رايخستاغ. ترك التوتر الحالي مع موسكو بصماته في برلين، حيث غيّرت اسم المتحف الألماني الروسي، الذي استسلم فيه النظام النازي، ليصبح متحف برلين كارلسهورست متبنياً اسم المنطقة التي يقع فيها.
يقع المتحف في ما كان مقراً للاتحاد السوفييتي السابق خلال الحرب العالمية الثانية، وترعاه روسيا وحليفتها بيلاروسيا وكذلك ألمانيا وأوكرانيا التي يرفرف علمها أمام المبنى. جعلت هذه المفارقة مدير المتحف يورغ موري يبحث عن طريق للمضي قدماً.
قال موري: "برزت لدينا مشكلة بالتوفيق بين ثقافات إحياء الذكرى في البلدان الشريكة لنا". أصبح تمثيل وجهات النظر حول الحرب العالمية الثانية من وسط وشرق أوروبا، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، "غير ممكن". تبدو العلاقة أوضح في دول البلطيق، وهي موطن بعض أشد معارضي الغزو الروسي. احتل السوفييت دول البلطيق في 1940 نتيجة لاتفاق هتلر وستالين ثم ضموها لاحقاً، وهي خطوة رافقها ترحيل وحشي.
أسقطت السلطات في لاتفيا في نهاية أغسطس مسلة يبلغ ارتفاعها 80 متراً أحيت ذكرى الانتصار السوفييتي على النازية في حديقة في ريغا، حيث احتشدت جموع لتشاهدها تسقط في بركة كانت تعكس صورتها. جاء ذلك بعدما أزالت إستونيا دبابة سوفييتية من طراز T-34 تحيي ذكرى الانتصار من مدينة نارفا المتاخمة لروسيا.
قال موري: "ما تزال الصدمة محسوسة في تلك البلدان اليوم، وشرح أن هزيمة الجيش الأحمر للنازيين تبعتها "عودة اضطهاد عام 1940 بكل بساطة" ما أحدث "فارقاً تاريخياً كبيراً بينها وبين ألمانيا".
أصبحت النصب التذكارية في أماكن أخرى معياراً فيما يُعاد تقييم التاريخ. أُطيح بتماثيل جنرالات كونفدراليين في الولايات المتحدة، وتعرضت نُصُب من خططوا للاستعمار للهجوم في أوروبا.
قال باتريك شوستاك، المتحدث باسم "معهد بيليكي" (Pilecki Institute) في برلين الذي تموله بولندا ويدعم البحوث حول الأنظمة الاستبدادية النازية والسوفييتية: "ترسم النصب التذكارية ملامحَ للحوار الشعبي".
ساعد المعهد بإنتاج مقطع فيديو يُظهر سحب الدبابات السوفييتية المحيطة بالنصب التذكاري قرب بوابة براندنبورغ من على قواعدها إلى كييف بواسطة جرارات أوكرانية، دعماً لجهود حثّت حكومة المستشار الألماني أولاف شولتس على إرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا. كان ذلك أحد الجهود العامة القليلة التي عارضت النصب التذكارية في ألمانيا.
فيديو مذهل من "معهد بيليكي" لدعم أوكرانيا، رسالة قوية إلى ألمانيا
قال شوستاك: "نؤيد تطوير مقاربة واعية نقدية ومتبحرة في التاريخ" للماضي السوفييتي، مضيفاً أن وضع لوحات تعريفية سياقية عند النصب التذكارية قد تكون خياراً بديلاً لإزالتها.
بغض النظر عن أي انتفاضة عامة ضد روسيا، فإن النصب التذكارية السوفييتية في ألمانيا محمية، فقد وقعت كل من الألمانيتين الشرقية والغربية، قبل إعادة توحيد البلاد في 1990، معاهدة مع القوى الأربع المتحالفة بما فيها الاتحاد السوفييتي ووافقتا على الإبقاء على النصب التذكارية والعناية بها.
قال المؤرخ إلكو ساشا كوفالتشوك، الذي نشأ في ألمانيا الشرقية: "يجب أن نظهر بوضوح أننا نحترم المعاهدات في مجال الحرية والديمقراطية، حتى مع الاتحاد الروسي. تكمن قوتنا في تحمل ذلك".
توجد عقبة أخرى أمام إزالة النصب التذكارية وهي أن كثيراً منها مقابر. قُتل حوالي 80000 جندي من الجيش الأحمر أثناء اجتياحه لبرلين، ودُفن حوالي 13000 منهم في منشأة مترامية الأطراف في حديقة "شونهولزر هايده" في شمال برلين. يضم النصب التذكاري لـ"الحرب الوطنية العظمى"، كما كان الاتحاد السوفييتي يسمي الحرب العالمية الثانية، تمثالاً لأم ثكلى تندب ابنها الفقيد. كُتب في نقش على قاعدة التمثال: "لم يذهب الجنود السوفييت هباءً. لم تذهب دموع الأمهات والأرامل والأيتام وأحزانهم سدى. إنهم ينادون للنضال من أجل سلام دائم بين الشعوب".
لهذه الرسالة وقع في ألمانيا، لا سيما منذ أن أعلن رئيس ألمانيا الغربية ريخارد فون فايزسيكر في خطاب تاريخي في 1985 أن هزيمة الأمة كانت بمثابة "تحرير"، وأتى ذلك حسماً لأي غموض اكتنف السنين اللاحقة للحرب.
أظهرت وفاة ميخائيل غورباتشوف، آخر زعماء الاتحاد السوفييتي، كيف أن ذكرى سقوط الشيوعية شديدة التباين بين أوروبا الشرقية والغربية.
قال كوفالتشوك: "إنها منقسمة لدرجة أنه لا تكاد تكون هناك نقطة التقاء تذكر"، فقد كان الغرب يعتبر غورباتشوف بطلاً، بيد أن إرثه موصوم بالدموية في عالم الاتحاد السوفييتي السابق.
ظهرت صراعات مماثلة في ألمانيا الحديثة، فشرقها الذي كان شيوعياً أقل عداءً تجاه روسيا بسبب العلاقات التاريخية. عانى كثير من الألمان الشرقيين صعوبات اجتماعية واقتصادية بسبب إعادة التوحيد، ما أدى لظهور ما يسمى "أوستالغي"، وهو لفظ ألماني منحوت يجمع بين كلمتي "الشرق" و"الحنين إلى الماضي" ويدل على التعاطف مع جوانب من النظام السوفييتي.
فكر موري، مدير متحف كارلسهورست، بأن يدعو دول البلطيق لأن تشارك وجهات نظرها حول الحرب العالمية الثانية، لكنه لا يرى إغلاق المتحف أو هدم النصب إجابة على التوترات الحالية مع روسيا.
قال كوفالتشوك: "ينبغي في النهاية أن تقول، سواء أعجب ذلك الناس أم لا، أن الاتحاد السوفييتي حرر ألمانيا من النازية. هذه الأشياء هي تذكير بذلك".