بعدما أضفت الجائحة الكآبة على استشرافنا للمستقبل، برز قلق جديد حيال ربيع ما يسمى بالعصر الثاني للطائرات المُسيّرة.
هكذا يرى الخبراء سوق الطائرات الموجّهة عن بُعد عالمياً، الذي يبدأ بشركات ناشئة صغيرة تبيع هذه التقنية المتطورة، التي يمكن للجماعات الإرهابية مثل طالبان استخدامها كسلاح، بما يتراوح بين 1000 و 2000 دولار ليصل إلى مسيرات فائقة التقنية، إذ يمكنها حمل الذخائر، وصواريخ "هيلفاير" الموجّهة بالليزر. يشكل الأمر انتشاراً أشد استقلالية للعصر الأول للطائرات المُسيّرة، الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة منذ أول هجوم شنّته باستخدام طائرة موجّهة عن بُعد في 2001. أصبحت الساحة الآن غير خاضعة لأي هيمنة، بل تفتقر لأي قواعد تنظيمية، وتتيح هذه الصناعة جني مليارات الدولارات، فيما تهدد آلاف الأرواح بالخطر.
تجلّت عيوب هذا العنف العالي بتقنيته القاتلة للرأي العام عبر ضربة أمريكية من خلال طائرة موجّهة عن بُعد في كابول في 29 أغسطس كانت تستهدف عناصر إرهابية بالأساس، لكنَّها قتلت 10 مدنيين أفغان بينهم سبعة أطفال. يعبر هذا عن فشل استخباراتي عسكري، شأنه شأن حوادث أودت بحياة العديد من المدنيين الآخرين في الحروب الأمريكية باستخدام الطائرات التقليدية، بما فيها تلك التي نُشرت عنها في تحقيق لصحيفة "نيويورك تايمز" في ديسمبر. إذ لم تتم إدانة الضالعين فيها بأي مخالفة.
كان التحوّل في العمليات الدفاعية واسعاً، إذ تدير 102 دولة حالياً برامج عسكرية نشطة تعتمد على الطائرات الموجّهة عن بُعد، فقد استبدلت آلاف الجنود من قواتها البرية بأشخاص يتحكمون بالمسيّرات عبر أجهزة حاسب آلي من قواعد بعيدة عن الضربات الجوية التي تشنّها. بالنسبة للولايات المتحدة؛ فإنَّ عدد وفيات أقل بين قواتها يعني الضغط الأقل على صناديق الاقتراع، و يمثل إشرافاً أقلّ من الكونغرس. تتيح هذه التقنية المجال لقادة العديد من الدول ووكلائهم الذين يدعمونهم الإفلات من اتهامات بالقتل، وغالباً ما تستهدف مواطنيهم، وهو ما رأيناه في النزاعات بكل من سوريا واليمن.
حماية المدنيين
تجري جميع هذه العمليات دون أي قواعد منظمة شاملة تضمن حماية المدنيين، وتدعم القوانين الإنسانية، أو تختبر التداعيات العملياتية والتكتيكية لهذه الحرب التي تُشن عن بُعد.
يثير هذا الوضع قلق خبراء مثل بول لوشنكو، الضابط برتبة مقدم بالجيش الأمريكي الذي يُعد لرسالة دكتوراه في جامعة كورنيل. بحسب وجهة النظر التي شرحها لي لوشنكو؛ فإنَّ الطائرات الموجّهة عن بُعد تعدو أن تكون ضرباً من ضروب الحرب، إذ إنَّها تشكل أداة للعنف السياسي غير المنظم داخل الدولة، وتعتبر "مشهداً بائساً لما يتنامى حالياً."
شارك لوشنكو بتأليف كتاب: "الطائرات الموجّهة عن بُعد والنظام العالمي: آثار الحرب عن بُعد على المجتمع الدولي" مع كلٍّ من سرينجوي بوز، المحاضر الأول في العلاقات الدولية بجامعة نيو ساوث ويلز، وويليام مالي، الأستاذ الفخري في الجامعة الوطنية الأسترالية.
لوشنكو، هو واحد من عدة دعاة لتنظيم أفضل للعمليات بالطائرات الموجّهة عن بُعد، وفرض المزيد من التدقيق عليها. يشار إلى أنَّ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس يتيح فترة مثالية لإعادة النظر في هذا الأمر.
لقد ظهرت بعض المحاولات للرقابة على هذه التقنية. تسعى "منظومة التحكم في تقنية الصواريخ"، وهو إطار تفاهم سياسي غير رسمي يضم 35 عضواً، للحد من انتشار وتجارة الصواريخ والتقنية المرتبطة بها، والتي يمكن القول، إنَّها تشمل الطائرات الموجّهة عن بُعد في العمليات الهجومية. لكن لا توجد آلية للتنفيذ، بحسب ما يقول لوشنكو. فمن المؤكد أنَّ المنظومة ليست مصممة لتنظيم عمليات الطائرات الموجّهة عن بُعد المسلحة والمتصلة بالشبكات، والتي يمكن أن تتطلب ما يصل إلى 200 شخص لتشغيلها، بما في ذلك أولئك الذين يتحكمون بها من الولايات المتحدة، فضلاً عن إطلاقها من قواعد في الخارج.
تقنية استفتاحية
تعد الطائرات الموجّهة عن بُعد تقنيةً استفتاحيةً، بحسب ما أفصحت أنييس كالامار في يونيو حين احتفلت بنهاية عملها لخمس سنوات كمقررة خاصة للأمم المتحدة معنية بحالات القتل خارج القانون، أو بعد محاكمات مختصرة، أو الإعدام التعسفي. إذ ترى أنَّ هذه التقنية فتحت الباب أمام الذكاء الاصطناعي المُسلح، والحرب باستخدام تقنيات خوارزمية وروبوتية، وقلّصت سيطرة البشر على مسألة نشر الأسلحة المميتة. ترى كالامار أنَّ الطائرات المسلحة الموجّهة عن بُعد تعد اليوم بمثابة روبوتات المستقبل القاتلة، فيما تشير إلى أنَّ غياب آلية تحكم لهذا الجيل الجديد من أسلحة الدمار الشامل يمثل تهديداً كبيراً.
دعت كالامار، التي تشغل حالياً منصب الأمين العام لمنظمة العفو الدولية، لإرساء "نظام مراقبة تقنية الطائرات الموجّهة عن بُعد"، مشيرة إلى أنَّه يجب على الدول إقامة آلية متعددة الأطراف لتطوير معايير لتصميم وتصدير واستخدام هذه الطائرات، بالإضافة إلى وضع ضوابط أكثر صرامة على نقل التقنيات العسكرية. كما تقول، إنَّ اتفاقيات البيع يجب أن تشمل حماية المدنيين، والالتزام بحقوق الإنسان الدولية، والقانون الإنساني.
تسبّبت هذه الفجوة الرقابية من جانب القوى الكبرى عالمياً، مثل الولايات المتحدة، بتخطي المعايير العالمية. قتلت ضربة أمريكية بطائرة مسيّرة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق في يناير 2020. يتفاوض المصنّعون على نطاق واسع حالياً بشأن المبيعات مباشرة مع المشترين المحتملين الذين لديهم الخطط لاستخدامات عسكرية وأمنية واضحة في المستقبل. تبرز تركيا كقوة عظمى في قطاع الطائرات الموجّهة عن بُعد، إذ تشير تقديرات شركة معلومات السوق (BIS Research) إلى أنَّ قيمته بلغت 28.5 مليار دولار في 2021.
تحديات لوجستية
كانت الولايات المتحدة قد أعربت بالفعل عن قلقها إزاء بيع تركيا لطائرات مسيّرة مسلحة إلى إثيوبيا، إذ يُشتبه أنَّ حكومة رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد استخدمتها ضد قوات المتمردين في منطقة تيغراي في حرب أهلية أسفرت عن مقتل آلاف المدنيين، وأجبرت أكثر من مليوني شخص على الفرار من ديارهم. شهد الصراع بين أرمينيا وأذربيجان حول منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها انتصار أذربيجان باستخدام الطائرات الموجّهة عن بُعد التي حصلت عليها من روسيا، وتركيا، وإسرائيل، بالإضافة إلى الطائرات محلية الصنع للتغلب على قوات جارتها الأقل تطوراً من ناحية التسليح.
يلقي كل ذلك بالضوء على حجم التحديات اللوجستية التي تواجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وخططها لاستراتيجية "ما وراء الأفق" في أفغانستان. تعتمد هذه السياسة على موافقة دول أخرى على إيواء قواعد أمريكية لتمكين واشنطن من مواصلة جهودها لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك استخدام الطائرات المسلحة الموجّهة عن بُعد. لكن دون إخضاع هذه التقنية للتنظيم والرقابة؛ فإنَّ الشيء المؤكّد الوحيد هنا هو أنَّها ستواصل الانتشار في كل مكان، مما يعني أنَّه سيكون هناك المزيد من الضحايا المدنيين، ولن يُحاسب أحد.