هل يطارد شبح الشيوعية روسيا مرة أخرى؟ لم يمثل الحزب الشيوعي في البلاد تهديداً حقيقياً منذ انتخابات عام 1996، وهو السباق الرئاسي الوحيد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في روسيا الذي أدى إلى جولة إعادة. على مدى أكثر من عقدين من الزمن، ومنذ أن تولى فلاديمير بوتين زمام القيادة للمرة الأولى، لعب الحزب الشيوعي دور المعارضة المطيعة، وساعد الكرملين في المحافظة على واجهة الاختيار الديمقراطي. الآن، يبدو المستقبل أقل قابلية للتنبؤ.
اقرأ أيضاً: انتعاش أسواق روسيا رغم سياسة بوتين القمعية
لا يزال جينادي زيوغانوف، الأيديولوجي السوفييتي السابق البالغ من العمر 77 عاماً، الذي تحدى بوريس يلتسين مرة أخرى في عام 1996 دون جدوى، في موقع المسؤولية، وهو لا يرغب في الشروع في مغامرات جذرية. لكنّ أصواتاً أكثر حزماً ظهرت، تتحدث عن الفساد والعدالة الاجتماعية ومعاملة أليكسي نافالني ناقد الكرملين، وتزوير التصويت الإلكتروني على مدى الأسبوعين الماضيين.
في الوقت الذي لا تمتلك فيه الشعور بالسخط إلا منافذ قليلة في روسيا، توحّد الحزب، وجذب انتباه الناخبين إلى أشخاص مختلفين عن المتقاعدين الذين يلوّحون بالأعلام الحمراء. لقد حقق عودة مثيرة للإعجاب في الانتخابات البرلمانية في سبتمبر، إذ فاز بنحو 19% من أصوات القوائم الحزبية، مقارنة بنسبة ضئيلة بلغت 13% في عام 2016. حتى عند حساب الآثار الإيجابية لحملة التصويت التكتيكية التي قادها نافالني، تعدّ هذه خطوة للأمام. ورغم أن النظام الانتخابي يميل إلى الحزب الحاكم، فقد أضاف الحزب 15 مقعداً في مجلس الدوما، أكثر من أي كتلة منافسة، وسيقدم أصواتاً صريحة مثل أوليغ ميخائيلوف من صحيفة "كومي ريبابليك" (Komi Republic)، وهو من أشد المنتقدين للحاكم المحلي الذي عينته موسكو، الذي يطالب بصفقة مالية أفضل للمنطقة المنتجة للطاقة.
اقرأ المزيد: روسيا تستعد لزيادة الغرامات على "فيسبوك" و"ألفابت"
الحزب الشيوعي، الذي طالما كان معارضاً صعب المراس، يبدو أكثر إزعاجاً قليلاً. في واحدة من أكثر الإشارات دلالة خلال الأسبوعين الماضيين، دعا مسؤولو الحزب الغاضبون من التصويت الإلكتروني، الذي أزال بشكل ملائم تقدم الحزب الانتخابي في سباقات موسكو، إلى التجمع في العاصمة "من أجل انتخابات نزيهة". لم يكن زيوغانوف حاضراً، وبدلاً من الحضور كان في اجتماع مع بوتين وغيره من قادة مجلس الدوما. لا يبدو أن في القيادة تحولاً.
لكن حتى قبل الانتخابات التشريعية في سبتمبر بفترة طويلة، كانت الأصوات الأكثر انتقاداً تتصاعد في عالم الحزب الشيوعي غير المعاد تشكيله.
هناك قطب الفراولة الشهير بافيل غرودينين، الذي خاض الانتخابات ضد بوتين كمرشح شيوعي في عام 2018. وتحدث عن البنية التحتية الاجتماعية للعمال في مزرعته والحاجة إلى التعلم من الأخطاء السوفيتية. في مرحلة ما خلال الحملة الانتخابية، قارن حكم بوتين المطول بسنوات ليونيد بريجنيف الراكدة. لقد كان أداؤه أفضل مما توقع الكرملين، وكانت النتيجة أنه رغم كونه في المركز الثالث على قائمة الحزب الشيوعي فقد مُنع من الترشح في الانتخابات الأخيرة، بسبب الأصول الأجنبية ظاهرياً، التي يقول إنه لم يعُد يمتلكها.
اقرأ أيضاً: هل يغض "بوتين" الطرف عن الأسواق المظلمة للقراصنة على الإنترنت؟
هناك أيضاً نيكولاي بوندارينكو البالغ من العمر 36 عاماً في ساراتوف، جنوب غربي روسيا، مع أكثر من 1.6 مليون متابع على "يوتيوب"، وسجلّ من تحدي مسؤولي حزب روسيا الموحدة بشكل علني. حاول ذات مرة أن يعيش على 3500 روبل شهرياً (نحو 50 دولاراً) ليعرض الزيادات الضئيلة في المعاشات التقاعدية، ويوثق التجربة. في وقت سابق من هذا العام، اعتُقل لحضوره مظاهرة لدعم نافالني. وقد سعى بوندارينكو إلى مواجهة رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين في الانتخابات التشريعية، لكنه تحوّل إلى دائرة انتخابية أقل إثارة للجدل.
لا يبدو أن بوندارينكو أو أي مبتدئ آخر على وشك السيطرة على الحزب الشيوعي ذي الهرمية الشديدة، ناهيك بتحدي بوتين. في الوقت الحالي، لا تزال قيادة الحزب متماشية مع الكرملين تحت قيادة زيوغانوف، وهو متشدد دعا إلى إعادة الستالينية، لكنه وجد أيضاً مكاناً مريحاً معارضاً داخل النظام، ويسعد بإثارة الأحاديث عن المشكلات المحلية من حين إلى آخر لقاعدته والابتعاد عن قضايا أكثر إثارة للجدل، مثل السياسة الخارجية. ورغم تقدمه في السن وتلاشي شعبيته الشخصية، فإنه ليس على وشك التخلي عن السيطرة.
لكن صعود هذه الأصوات والاستياء من مستويات المعيشة التي تمكنوا من تسخيرها يمثلان تهديداً، وهو تهديد سيحتاج الكرملين إلى تعديله. وكما أشارت تاتيانا ستانوفايا من شركة الاستشارات السياسية "آر بوليتيك" (R.Politik)، فإن الهدف هنا لن يكون تدميراً كاملاً، كما كان مع نافالني، ولكن بدلاً من ذلك جعْل الحزب أكثر ضعفاً وترويضاً، وإعادته إلى دوره الخاضع. على سبيل المثال، همّش الكرملين أمثال غرودينين بشكل واضح، وهو الأمر الأكثر خطورة لأنهم ليسوا شباباً متطرفاً، وتجنب المواجهات الأخرى. عندما احتشد مسؤولو الحزب ضد تزوير الانتخابات في موسكو نهاية الأسبوع الماضي، استخدمت الشرطة الموسيقى الصاخبة لإخفاء أصوات مكبرات الصوت.
لا يزال من الصعب على الكرملين السير في هذا الطريق، فالحزب الشيوعي غير متجانس، ويمكن لبعض مجموعات المؤيدين المحتملين أن يلتهموا ناخبي الكرملين. إنه أيضاً حزب له جذوره الاجتماعية والتاريخية الراسخة، التي تجعل من المستحيل تشويه سمعته بأنه "متأثر بالخارج"، وهو حزب يشارك في إدارة أجزاء كبيرة من روسيا. إنه يحظى باعتراف فوري من الناخبين في بلد يتعمق فيه الحنين إلى الاتحاد السوفييتي. يمكن لحملة قمع قاسية أن تأتي بنتائج عكسية بسهولة.
وكما أوضح لي مارك غالوتي، الزميل الأول في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن، فإن الحزب يمتلك الآلة السياسية القوية الوحيدة في روسيا التي لا تعتمد على الكرملين. ولكن لا تزال إمكانية العثور على قائد يمكنه الاستفادة من هذا الوصول والقدرة التشغيلية أقل وضوحاً.
من غير المرجح أن يتخذ الكرملين أي مخاطرة. سيجد أعضاء الحزب الأكثر صراحة أنفسهم تحت ضغط كل من بوتين وزيوغانوف. ستراقب موسكو الفرص المتاحة لهندسة ما يحدث عندما يقرر زيوغانوف تسليم القيادة، ما سيدفع الحزب بشكل مثالي نحو معقله الأكثر فائدة وتشدداً وبعيداً عن منطقة الديمقراطية الاجتماعية. سيُرسَل المتمردون إلى المناطق. هذه هي الخطة على الأقل. لكن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2024، قد لا يعمل الحزب الشيوعي الروسي وفقاً للخطة.