لم تكن المهزلة الانتخابية التي وقعت في روسيا الأسبوع الماضي مثيرة للاهتمام كحدث سياسي. فقد احتفظ حزب "روسيا الموحدة"، وهو الحزب الرئيسي المدعوم من الكرملين، بأغلبية دستورية في البرلمان مرة أخرى بموجب عملية انتخابية لم يكن من الممكن اعتبارها حرة أو عادلة سوى من قبل مؤيدي الرئيس فلاديمير بوتين. هذه المرة، لم تتمكن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا حتى من إرسال مراقبين بسبب القيود التي فرضتها الحكومة الروسية.
لكن ذلك لا يعنى أن بقية العالم ليس لديه ما يتعلمه مما حدث، إذ يجب على أي شخص مهتم بكيفية عمل الديمقراطية في عصر التكنولوجيا، سواء كانت حقيقية أو زائفة، أن يتنبّه.
إقرأ أيضاً: انتعاش أسواق روسيا رغم سياسة بوتين القمعية
ينقسم وعد التكنولوجيا السياسي الخالص للمجتمع، والذي تمت صياغته على أنه حلم وليس مجموعة من مقترحات السياسة، إلى شقين. الأول، إن التبادل الحر للمعلومات عبر منصات الإنترنت المحايدة التي يصعب حظرها، ينبغي أن يجعل الرقابة عليها أمراً مستحيلاً. والثاني، إنه ينبغي أن يكون الناس قادرين على الإدلاء بأصواتهم إلكترونياً بطريقة تجعل خدع جدولة البيانات والنتائج باطلة. لقد تم تخريب كلا شقي هذا الحلم في روسيا خلال الفترة بين 17 و19 سبتمبر بطرق تتجاوز تداعياتها حدود روسيا.
لقد كُتب الكثير من المقالات حول رضوخ شركتي "أبل"، و"غوغل"التابعة لشركة "ألفابيت" لمطالب الحكومة الروسية بإزالة تطبيق مرتبط بالانتخابات من متجريهما للتطبيقات. كان التطبيق قد تم تطويره من قبل فريق زعيم المعارضة المعتقل، أليكسي نافالني، حيث ساعد الناخبين المناهضين للكرملين في العثور على مرشحين لدعمهم استراتيجياً حتى يخسر "روسيا الموحدة" مقاعده، الأمر الذي جعل الحكومة الروسية تهدد بتوجيه اتهامات جنائية للموظفين المحليين لعمالقة التكنولوجيا، إذا فشلوا في الامتثال لمطالبها.
التدخل الخارجي في الانتخابات
لكن المنطق وراء مطلب الحكومة الروسية سيكون مألوفاً للأمريكيين، خصوصاً أولئك الذين صدقوا رواية "التدخل الروسي" بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2016. وفي استهزاء واضح بهذه الرواية، تم تفسير وجود تطبيق مناهض للكرملين على منصات أجنبية -مقرها الولايات المتحدة- على أنه تدخل في الانتخابات. ومثلما أجبرت السلطات الأمريكية "فيسبوك" على التصدي لمحاولات الدعاية الروسية للوصول إلى الأمريكيين بمحتوى سياسي مُروَّج له، تقدمت الخدمة الفيدرالية للإشراف على الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام المعنية بالرقابة على الإنترنت، "روسكومنادزور" (Roskomnadzor)، بمطالبها إلى "غوغل" و"أبل".
قد تعتقد بأن الدرس المستفاد هنا هو أن "أبل" و"غوغل" تتمتعان بالمرونة، وستواصلان بذل كل ما في وسعهما للمحافظة على أعمالهما في روسيا. على سبيل المثال، إذا كان بإمكان "أبل" النظر في مسح أجهزة "أيفون" بحثاً عن استغلال الأطفال في المواد الإباحية (وهي خطوة مثيرة للجدل قامت الشركة بتأجيلها في الوقت الحالي)، فلماذا لا تمسح الأجهزة ذاتها، بناءً على طلب الحكومة الروسية، بالبحث عن المحتوى "المتطرف" المحظور؟
مع ذلك، فإن مدى استعداد شركات التكنولوجيا للتضحية، ومدى استعدادها للانصياع لمتطلبات الحكومة، لإنقاذ أعمالها في بلد يخضع لنظام استبدادي، يكاد يكون غير ذي صلة. ذلك أن سلوك روسيا يُظهر أن مثل تلك الأنظمة، لن تتردد في طرد هذه الشركات. كما أن "غوغل" و"أبل" اللتين نعرفهما، نادراً ما تدفعان أي ضرائب محلية. وبالنسبة إلى الأنظمة الحاكمة، فإن الخدمات التي تقدمها تلك الشركات يمكن استبدالها. على سبيل المثال، في روسيا، تعتبر شركة "ياندكس" (Yandex) المحلية، وليس "غوغل"، رائدة البحث عبر الإنترنت بحصة سوقية تبلغ 60%. أما بالنسبة إلى أجهزة "أيفون"، فيمكن للروس الاستغناء عنها إذا اضطروا إلى ذلك، بالنظر إلى كون الحصة السوقية للأجهزة التي تعمل بنظام "أندرويد" تزيد على 80% (ونعم، يمكن للروس أيضاً الاستغناء عن خدمات "غوغل" على هواتفهم التي تعمل بنظام "أندرويد"، تماماً كنظرائهم الصينيين). ومن ثم، تعتقد الحكومة الروسية بأنه يمكن تقديم حل "سيادي" محلي في أي مجال من مجالات التكنولوجيا، حيث طرح رئيس الوزراء، ميخائيل ميشوستين، مؤخراً، فكرة إنشاء نسخة "غيت هاب" (GitHub) الروسية بدعم حكومي، ولما لا؟ فالكثير من المطورين الذين يعملون في الشركات الحكومية أو بناءً على أوامر الدولة، سيستعينون بها لاستضافة برامجهم.
التهديد بالانتقام
إذا قررت شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة اتخاذ موقف، ورفض الانصياع للأوامر الروسية، فيمكن للمرء أن يتخيل، بسهولة، المنظمين الروس يتنفسون الصعداء وهم يفرضون حظراً تاماً على خدماتها، ما سيحد بشدة من وصول الروس العاديين إليها دون حلول فوضوية.
وعليه، فإن الدرس الحقيقي هنا إن أي دولة، حيث لا تريد السلطات أن تقوم شركات التكنولوجيا الأمريكية بنشر محتوى سياسي محلي، لديها من الوسائل ما يمكنها من إرغام شركات وادي السليكون على الامتثال لمطالبها، أو طردها. الأمر بالنسبة إلى الأنظمة التقييدية يشبه في مجمله أمثولة "الملك لا يرتدي ملابس"، حيث سيفضي خوف ملوك التكنولوجيا من العواقب، إلى قبولهم علناً بأشياء لا يؤمنون بها لأسباب عدة، فضلاً عن أنه سيكون هناك دائماً بديل محلي أو صيني دون أي مقاومة داخلية للرقابة. كما أن المنتفعين من هذه الخدمات، لن يقوموا بأعمال شغب إذا فقدوا "غوغل" أو"تويتر" أو فيسبوك". فهم قد تعلموا العيش من دون الجبن الفرنسي أو التفاح البولندي المحظورين في روسيا منذ 2014، وسوف يتدبرون أمورهم بأي بدائل معروضة.
لكن هناك ملاحظة مقلقة، وهي أن خضوع "أبل" و"غوغل" أثر أيضاً على تطبيق المراسلة "تلغرام" (Telegram) المفترض كونه خارج الحدود الإقليمية، حيث يديره المهاجر الروسي، بافيل دوروف، من دبي. خوفاً من إزالة "تلغرام" من متاجر تطبيقات عمالقة التكنولوجيا، قام دوروف بإلغاء بوت نافالني الذي كان يعمل عبر منصته (روبوتات أو بوتات "تلغرام" هي في الأساس حسابات"تلغرام" آلية يمكنك الدردشة معها أو إضافتها كأصدقاء إلى الدردشات أو المجموعات أو القنوات). وفي هذا الإطار، يُعد اعتماد مطوري التطبيقات على الأنظمة الأساسية الكبيرة ثغرة أمنية من حيث حرية نشر المعلومات، فقد تمكن "تلغرام" من صد محاولات "روسكومنادزور" لحظره -لكنه لا يمكنه تحمّل طرده من متاجر التطبيقات.
لذلك، إذا أردنا الوفاء بوعد الإنترنت بمعلومات عابرة للحدود، فإن الأمر يتطلب حقاً منصات مستقلة وموزعة لا تعترف بالحدود لصالح حرية التعبير. ولبعض الوقت، بدت التكنولوجيا الأمريكية وكأنها أنشأت تلك المنصات، لكن ذلك كان وهماً.
تقنية البلوكتشين
أما الشق الآخر من الوعد التكنولوجي، والمتعلق بالتصويت الإلكتروني الآمن من خلال تطبيق تقنية "بلوكتشين"، فقد تمرّغ في الوحل هو الآخر. اختبرت روسيا نظامين للتصويت الإلكتروني، أوكلت أحدهما إلى وزارة تكنولوجيا المعلومات في حكومة موسكو ليتم استخدامه في المدينة حصراً، وكلفت مزود الاتصالات الوطني "روس للاتصالات" (Rostelecom) بالنظام الآخر المخصص لاستخدامه في باقي المناطق الروسية. يعد كلا النظامين حلّين دقيقين ومتطورين، إذ يستخدمان تقنية "بلوكتشين" لتسجيل النتائج. ومن الناحية النظرية، فهما يتيحان لكل ناخب التحقق من كيفية جدولة تصويته. لقد بذل المطورون جهوداً لإخفاء الهوية تتجاوز بكثير ما تم القيام به في إستونيا، وهي الدولة التي يمكن القول إنها تعتمد بشكل كبير على التصويت الإلكتروني. لقد أتيحت أجزاء من الأكواد البرمجية الخاصة بتلك الأنظمة على "غيت هاب" التابعة لشركة "مايكروسوفت" (وليس استنساخها الروسي المفترض بعد). كما عُقدت فعاليات الهاكاثون (حدث يجتمع فيه مبرمجو الكمبيوتر وغيرهم لتطوير البرمجيات)، ودُعي الأجانب إلى البحث عن نقاط الضعف. وفي موسكو، وضع أليكسي فينيديكتوف، محرر إذاعة "صدى موسكو"، والمعروف بتوفير منصة لشخصيات المعارضة، سمعته على المحك ليصبح الوجه العام لنظام التصويت الإلكتروني. بعبارة أخرى، يجري العمل على مشروعين تقنيين رائدين ضخمين وممولين جيداً وواضحين للغاية، واللذين تمت مناقشتهما على نطاق واسع من قبل مجتمع التكنولوجيا الروسي.
لا ينبغي رفض هذه المبادرة. فالديمقراطيات الحقيقية إما تخلت بسرعة كبيرة وبسهولة عن التصويت باستخدام أنظمة تعتمد على تقنية "بلوكتشين"، أو لم تأخذ الأمر على محمل الجد. غير أن روسيا، بمساعدة بعض من أفضل العقول الهندسية في العالم، كانت تحاول على الأقل.
ماذا كانت النتيجة؟ في موسكو، تم الإعلان عن فرز الأصوات من النظام الإلكتروني بعد ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع. كان التفسير الرسمي لذلك أن نظام التصويت الخاص بموسكو يسمح للناخبين بتغيير قرارهم حتى سبع مرات، وكان الوقت الإضافي ضرورياً للتأكد من تسجيل الخيار الأخير فقط، الأمر الذي قوبل بالارتياب من جانب مراقبي الانتخابات. أيضاً، لم يكن خيار إعادة التصويت واضحاً بالنسبة إلى العديد من المستخدمين، وغالباً ما كان النظام مثقلاً، ما جعل الناخبين ينتظرون قبل أن يتمكنوا من إرسال بطاقات اقتراعهم. وفي مرحلة ما، توقفت الخاصية التي تسمح للمراقبين بتتبع المصادقة على صحة الأصوات. ومن ثم، قلبت النتائج المعلنة النتائج النهائية في جميع أنحاء موسكو، حيث بدا أن المرشحين الذين أوصى بهم نافالني يفوزون أثناء حصر الأصوات التي تم الإدلاء بها عيناً، فيما ذهبت الأصوات الإلكترونية بقوة لصالح المرشحين الموالين للكرملين، وانتهى بهم الأمر بالحصول على كل مقعد في موسكو. وفي مدينة عادة ما تصوت لصالح الكرملين بشكل أقل تفضيلاً من معظم الأماكن الأخرى في روسيا، انتهى الأمر بالمصوتين الأكثر ذكاءً من الناحية التقنية إلى تسليم النصر لكل مرشح مدعوم من الرئيس فلاديمير بوتين وحليفه، العمدة سيرغي سوبيانين.
تجرية ترمب
رغم ذلك، عندما اعترض بعض المرشحين المدعومين من المعارضة، لم يسعهم إلا أن يبدوا مثل دونالد ترمب ومعجبيه وهم يصرخون بإحباطهم، لأن الأصوات الواردة عبر البريد كانت تقلب النتيجة تلو الأخرى لصالح جو بايدن في نوفمبر الماضي. ولصياغة الأمر بحذر، إذا حدث شيء غير مرغوب فيه في نظام التصويت الإلكتروني في الساعات الأولى من يوم 20 سبتمبر، فسيبدو الأمر بشكل غير مريح وكأنه محاكاة ساخرة لما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. هل تتصيد روسيا بوتين الولايات المتحدة مرة أخرى؟ لن نعرف أبداً، إذ لا توجد طريقة لإعادة بناء العملية التي أدت إلى النتائج المعلنة.
من هنا، حينما يتم التشكيك في نتائج التصويت في الديمقراطيات التي تعتبر مستقرة منذ فترة طويلة، وليس فقط في الأنظمة الاستبدادية مثل روسيا اليوم، فإن تأسيس نظام تصويت جيد لهذه الأوقات المضطربة يتطلب أكثر من عقول هندسية من الدرجة الأولى. ولكي يقبل الناخبون بهذا النظام، ينبغي أن يتمتع أي حل تقني للاقتراع بالشفافية في كل مرحلة من مراحله. وهذا يعني على الأرجح أنظمة فعلية وموزعة تعتمد على تقنية "بلوكتشين" لتسجيل البيانات، بدلاً من تلك التي يتحكم فيها مسؤولو الانتخابات. أيضاً، يجب أن يكون من السهل على الناخبين رؤية كيف يتم احتساب اختياراتهم، وأن يقوم المراقبون بفحص المعاملات بشكل عشوائي ودون الكشف عن هويتهم. لكنه من غير الواضح ما إذا كانت أي دولة في العالم تستطيع أن تأخذ على عاتقها مهمة بناء نظام من شأنه إخراج الثقة تماماً من المعادلة، لكن التجربة الروسية تسلط الضوء على الروابط الضعيفة في أي جهد تنموي من هذا القبيل. وبينما تركز غالبية نقاشات التصويت الإلكتروني على الأمن، ربما تكون الشفافية أكثر أهمية في هذا الشأن.
في هذا الإطار، تشكل روسيا مفارقة كونها دولة عصرية ومتقدمة تقنياً في قبضة نظام رجعي صعب المراس. كما أنها لا تزال تتمتع بحرية أكثر من الصين إلى حد ما، ولذا فإن التأثيرات المتبادلة بين طرفي القرنين العشرين والحادي والعشرين تعتبر علنية نسبياً. لكن بقية العالم ليس محصّناً ضد انتكاسات القرن العشرين. ومن ثم، يتعين على جميع الدول أن تأخذ في اعتبارها إخفاقات وهزائم الحداثة في روسيا. فقريباً، قد تصبح حقيقة واقعة في الغرب أيضاً.