تعرّضت عملية التحوّل الديمقراطي في السودان إلى انتكاسة هذا الأسبوع، عندما قامت مجموعة ضباط عسكريين موالين للديكتاتور المخلوع عمر البشير، بمحاولة انقلاب في الخرطوم، على الإدارة المدنية للبلاد التي يقودها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك. فشل المحاولة يبعث على الراحة. لكن مع ذلك، لا يمكن للحكومة، ولا للعالم ككل، أن يتنفسا الصعداء.
إقرأ أيضاً: رئيس الوزراء السوداني لـ"الشرق": بدأنا مشاريع مع شركات أمريكية لإنتاج الطاقة الشمسية
أفضل ما شهده السودان خلال هذين العامين، هو أنه شكّل حالة استثنائية مضيئة مقارنة مع "التقشف الديمقراطي" السائد في معظم البلدان الأفريقية، ومنارة أمل وسط كآبة الشعبوية الاستبدادية التي تجتاح العالم. بعد الاحتجاجات الواسعة التي أنهت حكم البشير الاستبدادي الذي استمر 30 عاماً في ربيع عام 2019، اتفق العسكر والجماعات المعارضة على تقاسم السلطة لمدة 39 شهراً.
اليوم، وفي السنة الثالثة من هذه الترتيبات، دخلت الفترة الانتقالية في السودان أصعب مراحلها، وبات حمدوك في أضعف حالاته. ورغم أن حكومته أدخلت مجموعة واسعة وجريئة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية -من عقد اتفاقيات سلام مع جماعات المتمردين، وتوقيع اتفاقيات إبراهيم مع إسرائيل، إلى خفض قيمة العملة- إلى أن المواطنين العاديين، لم يحصلوا سوى على جزء يسير من مكاسب الإطاحة بالديكتاتور عمر البشير.
منذ فترة طويلة، حلَّ الاحباط محلّ التفاؤل الذي جاء به عام 2019، وذلك عائد في معظمه إلى البطالة، والتضخم الذي ارتفع إلى ما يقارب 400%، فيما اقتصاد السودان الذي يرزح تحت ديون خارجية بنحو 60 مليار دولار، مازال متعثراً، حتى منذ ما قبل تفشي وباء كوفيد. ورغم أن حمدوك حصل على إعفاء كبير من هذه الديون، مع تعهدات بإعفاءات أخرى من حكومات أجنبية، إلا أن ذلك لو يوفر سوى القليل لضخ استثمارات جديدة، وبالتالي ظلت إمكانية توفير فرص عمل للسودانيين ضعيفة.
إقرأ المزيد: التضخم في السودان يتراجع لأول مرة منذ رحيل نظام البشير
هذا الاحباط الذي أصاب الكثير من السودانيين، أخذ ينعكس غلياناً في الشارع، حيث خرجت مظاهرات في الخرطوم احتجاجاً على رفع الدعم عن المحروقات، والذي جاء كجزء من حزمة الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي. أما الأمر الأكثر خطورة، فتمثل في تصاعد العنف الطائفي من جديد في أجزاء من دارفور وكردفان ومنطقة النيل الأزرق، والذي أجبر مئات الآلاف على الفرار وترك منازلهم.
اعتمدت المجموعة التي حاولت الإطاحة بحمدوك، على هذه الحالة من القلق المتزايد: حاولوا قطع الطرق والمناف المؤدية إلى الموانئ في شرقي البلاد، حيث خرجت هناك مؤخراً احتجاجات مناهضة للحكومة. ربما سعى منفذو محاولة الانقلاب من وراء ذلك، إلى الحصول على دعم المتظاهرين الذين قد يكونون راغبين في العودة إلى أيام الحكم السابق بعدما خاب أملهم من عملية التحول الديمقراطي. فمثل هذا الأمر حصل في الجارة مصر عام 2013، عندما سمحت المظاهرات المناوئة للحكومة، للفريق أول آنذاك عبد الفتاح السيسي بتولي زام السلطة.
تفيد تقارير أخرى بأن المتآمرين ، ومن بينهم عناصر في سلاح المدرعات، حاولوا السيطرة على هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية، ومقر الجيش في الخرطوم. ربما كانوا يأملون في توجيه نداء تضامن مع بقية العسكريين.
لكنهم أخطؤوا في قراءة المزاج الوطني. مهما كان تذمر المواطنين العاديين من الحكومة، فإنم لا يميلون للقيام بثورة أخرى، كما أن القيادات العليا في الجيش، ليست في وارد الانضمام إلى تمرّد عام. ولا حتى الجنرال الأكثر مهابة في البلاد، قائد القوات شبه العسكرية (الدعم السريع) محمد حمدان دقلو "حميدتي"، أراد أي شيء له علاقة بالانقلابيين. قال دقلو: "لن نسمح بحدوث انقلاب. نريد انتقالاً ديمقراطياً حقيقياً من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وليس كما كان يحدث في الماضي".
لكن، لا يمكن أن يكون حمدوك متفائلاً بشأن ما بقي من عملية الانتقال إلى الديمقراطية. إذ الانقلاب الفاشل، كان بمثابة الطلقة الثانية لإخراج عملية التحوّل عن مسارها. فقد نجا حمدوك نفسه من محاولة اغتيال في أوائل عام 2020، وقد تكون هناك محاولات أخرى للإطاحة بحكومته قبل الانتخابات المتوقعة في أوائل عام 2024.
يدرك رئيس الوزراء أن الجيش، يبقى هو التهديد الأكبر لتطلعات السودانيين إلى الديمقراطية. وفشل مجموعة من العسكريين في الانقلاب، لا يردع مجموعات أخرى عن المحاولة. ويستخدم حمدوك قضية الانقلاب الفاشل للتأكيد على أن الجيش يجب أن يخضع لسيطرة السلطة المدنية. وقال في بيان هذا الأسبوع، إن الانقلاب الفاشل "مؤشر على ضرورة إصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية".
سيكون الانسحاب، أصعب من كل التغييرات السابقة. فالقيادة العسكرية تجد نفسها -في أحسن الأحوال- على قدم المساواة مع القيادة السياسية، وهي بالتالي لن تخضع بسهولة للسلطة المدنية. وأفضل ما يمكن أن يفعله حمدوك لحكومته في هذه الظروف، هو أن يبقي الشعب في صفه.
هذا بدوره، سيتطلب منه إعادة الاقتصاد إلى المسار الصحيح. يمكن للعالم أن يساعده في هذا المجال، من خلال تسريع الإعفاء من الديون وتقديم المساعدات، وتشجيع رؤوس الأموال الخاصة على الاستثمار في السودان. هناك العديد من الدول الأخرى التي تحتاج إلى مثل هذا الدعم، لكن هذه الشرارة الساطعة للديمقراطية في أفريقيا، تستحق اهتماماً خاصاً.