في خضم سقوط بيروت المدوي اقتصادياً... ثمة أمل بالطعام اللبناني

time reading iconدقائق القراءة - 9
في مطبخ مطعم \"أمولا\" في بيروت - المصدر: بلومبرغ
في مطبخ مطعم "أمولا" في بيروت - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

في الصيف الماضي، عندما وقع انفجار مرفأ بيروت المميت، دُمر مطعم الشيف رياض أبو لطيف، دون وقوع أي إصابات.

وقد عانى مطعم "ميتس آند بريد" (Meats and Bread)، الواقع في حي الجميزة العصري، على بعد أقل من كيلومتر واحد من موقع الانفجار، من أضرار تقدر بنحو 90 ألف دولار، ليصبح بذلك أحد الأعمال التجارية الكثيرة التي دُمرت بفعل انفجار الرابع من أغسطس الماضي. أودى الحادث بحياة أكثر من 200 شخص، وألحق أضراراً اقتصادية بتكلفة تتجاوز 4.6 مليار دولار، في بلد يعاني بالأصل من أسوأ أزمة مالية في تاريخه.

في ذلك الحين، لم يصب أي أحد في مطعم "ميتس آند بريد" بسبب خلوه من أي شخص. حيث كان أبو لطيف قد أغلق مطعمه، قبل ثلاثة أشهر فقط من الانفجار، بسبب ارتفاع تكلفة الاستيراد الناجمة عن أزمة العملة غير المسبوقة التي تعيشها البلاد، والتي جعلت قائمة الطعام المستوحاة من الثقافة الأمريكية، والتي تضم شطائر "البرغر"، وشرائح اللحم المشوية، أمراً غير مستدام.

وعادةً، كان أبو لطيف يتحمل تكاليف تقدر بـ32 دولار لاستيراد كيلوغرام واحد من الأضلاع عالية الجودة. وهذا يعني أنه قبل عامين، أي قبل الأزمة المالية، دفع حوالي 48 ألف ليرة لبنانية لقاء الكيلوغرام. لكن اليوم، مع انهيار العملة، أضحت هذه الـ32 دولاراً، تكلفه ما يزيد عن 600 ألف ليرة لبنانية. حيث أدى تراجع ​​احتياطيات العملات الأجنبية في البلاد، إلى انهيار سعر الصرف الرسمي المرتبط بالدولار، عند 1507 ليرة لبنانية، مع تزايد شراء التجار للدولار عبر السوق السوداء، لتمويل وارداتهم، وسط تراجع القوة الشرائية.

وهو ما جعل الانفجار، الذي حطم نوافذ المطعم، وهدم سقفه، ودمر معداته، مجرد "ملح على الجرح"، على حد قول أبو لطيف. وقد ساهمت مبادرة محلية تُعرف باسم "خضة بيروت" في تغطية معظم عمليات الإصلاحات، وهي مبادرة تستهدف الأعمال الصغيرة والمتوسطة المتضررة، خاصة تلك التي تعمل في قطاع الطعام والضيافة. (في حين أن أبو لطيف دفع بقية المبلغ اللازم للإصلاحات بنفسه، دون وجود أي دعم مالي من الحكومة).

الضغط الاقتصادي في لبنان يطال الجيش ويُهدّد الأمن

إعادة الأمل

مع إعادة تشييد المكان، وتحوّل قائمة الطعام القديمة لأمر لا يمكن تحمله من الناحية المالية، قرر أبو لطيف تغيير قائمة طعامه كليّآً. وفي يونيو الماضي، أعيد افتتاح المطعم تحت اسم "أمولا" (Ammoula)، مع قائمة طعام جديدة، تقوم على إعادة ابتكار الأطباق اللبنانية الشهيرة، وهي مُحضرة بمكونات محلية.

تضم هذه القائمة المُبتكرة، طبق تقليدي يُعرف باسم المجدرة، مكون من العدس والأرز، يتم تقديمه في المطعم، مع أخطبوط مطبوخ ببطء، يتم شويه بعد ذلك. كما تم تفكيك معجنات "المانتي" الأرمنية التقليدية، بينما تحوّل طبق المهلبية الشعبي المحضر من الحليب، إلى حلوى فاخرة شبيهة بالـ"بانا كوتا"، مُنكهّة بمشروب "العرق" الكحولي التقليدي في بلاد الشام، والمعد من اليانسون. كذلك تضم قائمة المشروبات أنواعاً من النبيذ، وشراب "الجن" المحليين.

يصف أبو لطيف الأطباق المُقدمة في مطعم"أمولا"، بأنها ترجمته الخاصة للطعام اللبناني، قائلاً: "لا نريد أن نكون في منافسة، مع جدة أي أحد".

المائدة اللبنانية

وفي حين باتت ارتفاعات أسعار المواد الغذائية تمثل مشكلة تواجه أجزاء كثيرة من العالم. فإن لبنان، الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على الواردات، يعد من أكثر البلدان تعرضاً للأزمات في المنطقة، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية في البلاد بنسبة 400% في ديسمبر الماضي، وفقاً لبيانات حكومية، وأصبح أكثر من نصف سكان البلاد يعانون في الفقر، منذ بدء الأزمة الاقتصادية في أغسطس 2019، وزاد هذا الوضع سوءاً مع جائحة "كوفيد-19"، وثم انفجار مرفأ بيروت.

ومع فتح أبوابه للزوار، قدم مطعم "أمولا" بداية، طبق الـ"غوانشالي" المستورد (لحم الخنزير المقدد). ثم، في غضون أسبوع، قرر أبو لطيف استبداله بلحم خنزير محلي، مُحضر في معدات تجفيف خاصة. ومنذ ذلك الحين، بات يعتمد على المنتجين المحليين لتأمين المواد الغذائية. كما استعان بمزرعته الصغيرة جداً، في منطقة جبل لبنان، جنوب شرقي بيروت، لتربية الدجاج، والماعز، وطيور السمان، وبعض الأعشاب، والخيار. ومع ذلك، لا يزال يعتمد على الاستيراد لتأمين بعض المواد الأساسية، مثل أسمدة النباتات، وأدوية الحيوانات، مما يبقيه عرضة لارتفاعات الأسعار المستمرة، ونقص المواد المتكرر. وقد وجد نفسه مضطراً لتعديل الأسعار مرتين في قائمة الطعام على الأقل، منذ الافتتاح، بسبب انخفاض قيمة الليرة اللبنانية.

الجوع يهدد بحصد أرواح أكثر من ضحايا كوفيد-19

أزمة الكهرباء

وفيما قد تكون الأغذية والنبيذ المحلي، وفرت إلى حد ما دعماً لأسعار مطعم "أمولا"، في مواجهة التضخم المتصاعد بشكل جنوني. إلا أنه من المستحيل التغلب على أزمة الكهرباء الناجمة عن نقص الوقود المستورد، المتفاقمة في البلاد. حيث يعاني لبنان من أسوء نقص في الطاقة الكهربائية منذ عقود، ومعظم الأماكن، لا تحصل سوى على ساعتين من الكهرباء يومياً.

صحيح أن الشعب اللبناني، يعاني من انقطاع التيار الكهربائي لأعوام، ويعوض عن ذلك عن طريق اشتراكات المولدات الخاصة، إلا أن ندرة الوقود أدت إلى إغلاق العديد من المولدات الكهربائية لساعات يومياً، وبالتالي فإن المطاعم التي تريد الحفاظ على الأضواء، والبرادات فيها تعمل على مدار اليوم، عليها أن تدفع ثمن مولد احتياطي.

والآن، أصبح أبو لطيف مثقلاً بثلاث فواتير كهربائية، واحدة من الحكومة، واثنتان من شركات المولدات الخاصة، وقد بلغ إجمالي فاتورة مطعمه لشهر يونيو الماضي، الخاصة بموردي المولدات 14 مليون ليرة لبنانية.

الأمل.. في الطعام

حتى الآن، فإن مطعم "أمولا"، الذي يصفه أبو لطيف بأنه لا يزال "عمل قيد التطوير"، ليس مشغولاً دائماً، أو مربحاً باستمرار، لكن الشيف يهدف في هذه المرحلة فقط، لتحقيق نقطة التعادل، بينما يعتمد على حانة ومطعم "فرديناند" (Ferdinand) الأكثر ربحاً، والتي يمتلكها في الجانب الآخر من المدينة، لتغطية النفقات. ويقول إنه شعر أن "لا خيار أمامه" سوى تغيير مسار مطعمه، بعد الانفجار. ويضيف: "عندما يكون الطريق مسدود خلفك، فإنك ستقاتل"، وبالرغم من كونه يخشى تباطؤ أعماله التجارية بعد ذروة موسم الصيف في أغسطس، إلا أنه يرى أن "هذه هي الطريقة الوحيدة التي نعرف كيف نقاتل بها.. من خلال طعامنا. نحن نحارب الظروف التي نعيشها من خلال طعامنا".

لا تزال اللافتة القديمة لمطعم "ميتس آند بريد" معلقة بالخارج، بجانب اللافتة الأحدث الخاصة بــ"أمولا"، لكن أبو لطيف لا ينوي إزالتها.

ومع أن التحوّل نحو المفهوم اللبناني من قبله كان مدفوعاً بحكم الضرورة، أكثر من الفخر الوطني، إلا أن أبو لطيف يشعر بالسعادة لكونه يستعرض خيرات بلاده، بمناخها المتوسطي، وجبالها، وطبيعتها الغنية، وأضاف: "على الأرجح أنك ستعثر في لبنان على أفضل جبن ماعز، في المجرة بأكملها".

تصنيفات

قصص قد تهمك