بلومبرغ
عادةً لا تحظى المناطق أسفل خطوط السكك الحديدية بسمعة جيدة. هذه هي الحال على الأقل في الولايات المتحدة وفي قارّة أوروبا، فهي غالبًا مناطق تُعرف بأنها مُظلِمة وخطيرة وصاخبة.
الوضع في طوكيو يختلف بشكلٍ ما، إذ أصبحت هذه المناطق أكثر من مجرّد مستودعات ومواقف للسيارات، لتصبح تجمعات من المطاعم الحميمة والمحلات التجارية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهوية المناطق المختلفة بالمدينة. ولعل أكثر الأمثلة شهرة تلك التي تقع بالقرب من الحي التجاري في منطقة ياوراكوتشو، إذ افتُتحت وحُدِّثت الأزقّة والممرّات المبنية من الطوب في 10 سبتمبر، وتضمّ أقواس السكك الحديدية التقليدية تحتها مزيجًا من الحانات ذات الطراز القديم والمطاعم الصغيرة المضاءة بفوانيس ورقية حمراء، فيما يعمل القسم الذي جُدِّد على إضفاء صورة عصرية من خلال ممرّات مضاءة من الأرضية لتُوجِّه الزائرين إلى مناطق تناول الطعام ومتاجر التجزئة والحياة الليلية.
التطورات خارج مركز المدينة أدّت إلى توسيع الاحتمالات أيضًا، بحيث أصبح من الممكن العثور على ورش العمل ودُور الحضانة والسكن الجامعي والعيادات الطبية تحت قضبان السكة الحديد.
في عام 1910، تم عمل أول خط للسكك الحديدية المعلقة في اليابان، وذلك بالقرب من ياوراكوتشو. ومنذ البداية صُمِّمَت المنطقة أسفل الخط لاحتواء المنشآت التجارية، فيما افتُتح المطعم الأول بها بعد عقد من الزمان. ومع تسارع النموّ الاقتصادي في اليابان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ازدهرت شبكة السكك الحديدية، وبدأ المُشغِّلون لها في إضافة مزيد من القطارات للمساعدة في تخفيف الازدحام، وأُدمِج مزيد من المرافق التجارية أسفل خطوط السكك الحديدية التي تتابع بناءها. ومنذ عام 1959، مُدَّ 112.2 كيلومترًا من خطوط السكك الحديدية المرتفعة عن مستوى الأرض، وفقًا لبيانات حكومية.
قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها في الستينيات، شهدت طوكيو تزايدًا في الكثافة السكانية والديموغرافية. خورخي ألمازان، الأستاذ المشارك في مركز هندسة المناطق والبيئة التابع لجامعة كيو، ومؤلِّف كتاب "طوكيو الطارئة"، الذي يبحث في حياة المدينة بالمناطق تحت الأرض، يقول إنّ أيّ شبر من المساحة كان ذا قيمة حقًّا وكان الناس عندهم استعداد للاستيطان في كل مكان.
اعتماد اليابان للأنشطة التجارية في المناطق الواقعة أسفل السكك الحديدية يعتبر غير مألوف نسبيًّا، ففي مدن مثل نيويورك وشيكاغو كان لا بدّ من بناء السكك الحديدية في كثير من الأحيان مباشرة على الطرق الحالية، ما يترك السكان فيها يعانون من الضوضاء ونقص ضوء الشمس والتلوث والقذارة، فيما تواجه الطرق السريعة المرتفعة في عديد من المدن الأمريكية انتقادات مماثلة، وواجهت المدن الأوروبية مثل باريس نفس المشكلات في بناء الخطوط الحديدية المرتفعة عن سطح الأرض، فضلًا عن صعوبة الحفاظ على الأبنية التاريخية في المناطق المحيطة بهذه السكك، في حين أنّ كثيرًا من مشروعات الخطط المركزية للمدن الكبرى الهادفة إلى إحياء المناطق التاريخية بها مثل "Promenade Plantée" و"New York's High Line" تصبح مهددة بسبب السكك الحديدية التي تصبح المناطق المحيطة بها مساحات مُهدَرة إلى حدٍّ كبير، وتفصل الأحياء والشوارع الهامّة بشكل غير عمليّ.
وفي طوكيو، غالبًا ما تُبنى السكك المرتفعة على ممرات أوسع أو في مناطق غير مأهولة خارج مركز المدينة، ما يترك المساحة الموجودة أسفلها متاحة للاستخدام، وذلك بدلًا من تقسيم المدينة عبر السكك الحديدية والطرق البرية، ولذلك ظلّت المناطق الواقعة أسفل خطوط السكك الحديدية قابلة للاستخدام ولم تحظَ بالسمعة السيئة التي اشتهرت بها هذه المناطق في المدن المختلفة.
على الرغم من كل ذلك فإنّ الخطوط التي مُدَّت حديثًا في ضواحي طوكيو تطرح مشكلات مماثلة لتلك الموجودة في المدن الأمريكية، فمنذ أبريل 2020 كان 19.5 كيلومتر من السكك الحديدية المرتفعة قيد الإنشاء مع 12.8 كيلومتر في طور التخطيط، وفقًا لبيانات حكومية. ويقع عديد من هذه المشروعات في الأحياء السكنية، إذ كان مطوِّرو السكك الحديدية في هذه المناطق أقلّ حرصًا على تطوير العقارات حولها.
كازوهيسا ماتسيودا، وهو مهندس معماريّ تتضمن أحدث أعماله مشروعًا تحت الأرض بالقرب من الحدود الجنوبية لطوكيو، يقول: "في الضواحي، صورة خطوط السكك الحديدية هي نفسها الموجودة في أمريكا، مناطق مبعثرة للمدينة وغير آمنة".
في هذه المناطق يصبح نموذج طوكيو التقليدي لتجّار التجزئة والمطاعم أسفل الخطوط الحديدية غير مربح، وبدلًا من ذلك تظهر استخدامات جديدة تعتمد على الخصائص المحلية للمناطق.
عندما مُدّ خط سكة حديد بالقرب من كاماتا، وهو حيّ ليس بعيدًا عن مطار هانيدا بالمدينة، في عام 2012، كان من المقرر في البداية أن تخصص المنطقة أسفل خطوط السكك الحديدية لانتظار السيارات. ووفقًا لماتسيودا فإنّ الطريق المجاور لا يتمتع بحركة مشاة كبيرة، خصوصًا بعد حلول الظلام. ويقول: "لم يكن نوع المكان الذي تريد المرأة أن تمشي فيه بمفردها. كاماتا ليست مكانًا آمنًا حقًّا منذ البداية".
لذلك اقترح مجموعة من المصممين والمهندسين المعماريين والفنانين ورجال الأعمال المحليين، بما في ذلك ماتسيودا، الاستفادة من قاعدة المنطقة المكتظة بالمصانع الصغيرة والحرفيين. وكانت النتيجة "كوكا"، وهي منطقة عمل مشتركة تهدف إلى ربط المبدعين بعضهم ببعض، وتنظيم ورش العمل المحلية التي يمكن أن تخدم احتياجاتهم.
كاماتا تقع على أطراف طوكيو، ولذا احتاجت إلى نهج مختلف. يقول ماتسيودا: "كان التركيز على كيفية تطوير شيء يتناغم مع المنطقة المحلية". وتستضيف المساحة أسفل السكك الحديدية الآن مصنعًا آخر بجوار كوكا، مع خطط لزيادة عدد المرافق المماثلة الممتدة إلى المحطة التالية شمالًا.
هذا مجرَّد مثال واحد لهذا النموذج في تطوير المناطق المهدورة عادةً، واليوم على امتداد خط شو، الذي يصل إلى عمق غرب طوكيو، طورت شركة شرق اليابان للخطوط الحديدية مجمع التسوق الخاص بها، وأنشأت أيضًا سكنًا للطلاب يخدم الجامعات القريبة، بالإضافة إلى حضانة ومساحة للمناسبات ومكاتب مشتركة ومطاعم ومقاعد عامة. كذلك في نيريما وارد، وهي منطقة سكنية غرب طوكيو، افتتحت شركة "سيبو" (Seibu) للسكك الحديدية مركزًا طبيًّا يحوي ثلاث عيادات متخصصة وصيدلية، مما قلّل حاجة السكّان إلى السفر إلى المستشفيات لمعالجة المشكلات الطبية البسيطة.
وبينما يرأس مالك شركة شرق اليابان للسكك الحديدية "JR East" حاليًّا أحدث عملية تجديد لمحطة ياوراكوتشو، فإنّ العوامل الرئيسية لنجاح مشاريع السكك الحديدة في طوكيو هي المساحة والاقتصاد.
"أحد الدروس هو أنه عندما يكون لديك هذا النوع من المساحات الصعبة، أدخل روّاد الأعمال إليها، وامنحهم أسعار إيجارات مخفضة جدًّا وحرية الاستخدام والتصرف"، على حدّ قول ألمازان الذي يضيف: "تاريخيًّا، نرى أن هذه هي الحال، هؤلاء بمكنهم تحويل هذه المساحات المُهدَرة إلى مغناطيس يربط بين القطاعات والمناطق، وليس عائقًا".
للتواصل مع كاتب الموضوع:
- ماكس زيمرمان في طوكيو على mzimmerman90@bloomberg.net
للاتصال بالمحرِّر المسؤول عن هذا الموضوع:
- أليسا ماكدونالد في amcdonald61@bloomberg.net