الشرق
لسنوات طويلة، ظلّ الفوسفات الذي يحوز المغرب 70% من احتياطاته العالمية، القطاع التصديري الأول في المملكة، ولم يتوقع كثيرون الصعود السريع لصناعة السيارات إلى المرتبة الأولى في السنوات الأخيرة، مدفوعةً بتحقيق نتائج قياسية على صعيد الإنتاج والتصدير، وأيضاً جذب الاستثمارات.
أصبح قطاع السيارات علامة فارقة في الاقتصاد المغربي، حيث انتقل من عمليات التجميع البسيطة إلى التصنيع المعقد، لتصبح المملكة في المرتبة الأولى بهذه الصناعة أفريقياً، بفضل منظومة متطورة يقودهما مصنعان كبيران أحدهما الأكبر قارياً. وتستهدف البلاد وصول حجم صادراتها من المركبات إلى 20 مليار دولار العام المقبل.
تضم منظومة صناعة السيارات شركتان كبيرتان، "رينو" و"ستيلانتيس"، حيث تصل نسبة المكوّن المحلّي في إنتاج السيارات حالياً إلى أكثر من 65%، ويعمل بها أكثر من 260 شركة مغذية للقطاع تُشغّل ما يناهز 230 ألف عامل، وتبلغ القدرة الحالية 700 ألف سيارة، على أن ترتفع إلى مليون خلال العام الجديد.
شراكة مغربية إيطالية فرنسية
تعود بدايات صناعة السيارات في المغرب إلى عام 1959 حين تم تأسيس "الشركة المغربية لصناعة السيارات"، المعروفة اختصاراً بـ"صوماكا" (SOMACA)، بمدينة الدار البيضاء بمبادرة من الحكومة مع دعم تقني إيطالي وفرنسي، وكان نشاط الشركة يتمثل في تجميع طرُز "فيات" و"سيمكا".
كانت الدولة المغربية تملك 38% من رأسمال الشركة، في حين كانت "فيات" و"سيمكا" تحوزان حصة تناهز 20% لكل واحدة. بعد سنوات بدأت الحكومة التخارج منها لصالح شركة "رينو" الفرنسية إلى أن أصبحت مالكةً لها بالكامل لتشرع في تجميع طرُزها بدءاً من 2005 في عهد كارلوس غصن الذي كان حينها رئيساً تنفيذياً للمصنعة الفرنسية، لتصل إلى مرحلة تشييد أكبر مصنع لها في القارة بمدينة طنجة شمال البلاد، على بعد 14 كيلومتراً من أوروبا، أكبر سوق لصادرات المملكة.
"يعتبر المغرب وجهةً مهمة للمستثمرين ذوي القيمة المضافة والاستثمارات الاستراتيجية بعيدة الأجل، بفضل استقراره السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى موقعه الاستراتيجي كبوابة لأفريقيا وأوروبا. كما تتمتع البلاد بيد عاملة مؤهلة وبنية تحتية حديثة في تطور مستمر"، بحسب محمد بشيري، المدير العام لمجموعة "رينو المغرب" في تصريح لـ"الشرق".
شهد عام 2015 دخول لاعب جديد إلى حلبة صناعة السيارات، حين وقعت شركة "ستيلانتيس" الأوروبية، المعروفة سابقاً باسم (PSA)، اتفاقاً مع الحكومة لبناء مصنع لها في مدينة القنيطرة باستثمار ناهز 500 مليون يورو، والذي تبلغ قدرته الإنتاجية حالياً 200 ألف سيارة في السنة، وضخت الشركة في السنوات الأخيرة 300 مليون دولار لمضاعفة هذه القدرة.
سيارة جديدة كل دقيقة في المغرب
تُصنّف المملكة كأول مُنتِج للسيارات السياحية على صعيد القارة الأفريقية، والمُصدِّر الأول للسيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي إلى الاتحاد الأوروبي، بحسب رئيس الحكومة المغربية، عزيز أخنوش، خلال فعالية حول الصناعة في أكتوبر الماضي، وأضاف أن المملكة صنّعت العام الماضي أكثر من 570 ألف سيارة، بما يعادل سيارة واحدة تقريباً في كل دقيقة.
يرى هنري لويس فيدي، زميل أول في مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد ومقره العاصمة الرباط، في حديث لـ"الشرق"، أن الشركات المصنعة للسيارات في المغرب استفادت على مر الزمن من عوامل مساعدة عدة، تتمثل في بنيات تحتية برية وموانئ وسكك حديدية ممتازة.
في نهاية نوفمبر، بلغت صادرات صناعة السيارات 145.9 مليار درهم (14.4 مليار دولار)، بارتفاع 6.7% على أساس سنوي. ويُتوقع أن تسجل العام الجديد 187 مليار درهم، على أن تتجاوز سقف 200 مليار درهم في 2026، بحسب توقعات بنك المغرب المركزي.
يُتوقع أن تتضاعف صادرات صناعة السيارات في المغرب 6 مرات لتصل إلى 90 مليار دولار سنوياً خلال السنوات الأربع المقبلة مع إدماج منظومة بطاريات المركبات الكهربائية بصناعة السيارات التقليدية وقطع غيارها، بحسب رياض مزور، وزير الصناعة والتجارة، في تصريح سابق.
تشمل البنية التحتية المحفزة للاستثمارات في هذه الصناعة أيضاً مئات المناطق الصناعية وموانئ التصدير وتوفر الطاقة النظيفة، إلى جانب الحوافز الضريبية للمستثمرين.
ويعد المغرب حالياً منصة صناعية رئيسية لمجموعة "رينو" على المستوى الدولي، ويمثل إنتاج مَصنعيها أكثر من 17% من مبيعات المجموعة في جميع أنحاء العالم في 2023، بحسب محمد بشيري، وتبلغ قدرتهما الإنتاجية حالياً 500 ألف سيارة سنوياً.
لماذا نجح قطاع السيارات المغربي؟
يعزى تقدم القطاع إلى تطوير البنية التحتية التي ساهمت في تهيئة بيئة مشجعة للاستثمار، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي للمغرب الذي يتيح قرباً استراتيجياً من الأسواق الأوروبية.
وفي مصنع "رينو" بمدينة طنجة يتم تصنيع طراز "داسيا سانديرو" وهي السيارة الأكثر مبيعاً للأفراد في أوروبا منذ 2017.
تحقق الشركة الفرنسية نسبة اندماج محلي بلغت 65.5% وأكثر من مليارَي دولار مشتريات للأجزاء من شركات محلية عام 2023، ويتوقع أن ترتفع إلى 3 مليارات يورو بنهاية العقد. نوه بشيري أن "إطلاق مشاريع جديدة في مصانع رينو سيدعم دمج تقنيات مبتكرة مثل السيارات الكهربائية والهجينة التي ستجذب موردين جدد، وتصنيع نماذج سيارات جديدة في المستقبل".
يرجع فيدي نجاح المغرب في احتلال المرتبة الأولى في صناعة السيارات أفريقياً إلى النجاح الذي حققه ميناء طنجة المتوسط، وموقعه الإستراتيجي على ثاني طريق بحري في العالم، على بعد 14 كيلومتراً من إسبانيا.
"المركب المينائي طنجة المتوسط" هو قصة نجاح أخرى للمغرب، حيث يقع على مضيق جبل طارق شمال البلاد، ويضم موانئ ومناطق اقتصادية استقطبت 1200 شركة أجنبية بإيرادات 14 مليار دولار عام 2023، ولديه قدرة استيعابية تصل 9 ملايين حاوية، ويحتل مراتب متقدمة في عدد من التصنيفات الدولية.
كما يرى فيدي أن "جودة رأس المال البشري المغربي أيضاً عامل مهم"، وذكر بأن "الرئيس السابق لشركة رينو الفرنسية كارلوس غصن كان يشير إلى هذا الأمر باستمرار، إضافة إلى تكاليف الأجور المنخفضة والمفيدة جداً في المغرب، مقارنة بتكاليف الأجور الأوروبية على سبيل المثال".
مستقبل السيارات الكهربائية
يحاول المغرب مواكبة التحول الذي يشهده القطاع عالمياً، حيث أشار رئيس الحكومة عزيز أخنوش، أمام المشرعين في أكتوبر الماضي، إلى أن المملكة تسعى لتكون رائدة في هذا المجال حيث تنتج حالياً ثلاثة أنواع من هذه السيارات، كما تم توقيع عدد من الاتفاقيات لدعم مجال التنقل الكهربائي لتطوير سلسلة قيمة البطاريات الكهربائية.
وبغض النظر عن مستقبل التحول نحو التنقل الكهربائي، فإن المزايا التي تتمتع بها صناعة السيارات المغربية، والتي تم بناؤها خلال العقد الماضي، تساعد المملكة في الحفاظ على مكانتها تماماً كما هو الحال مع الاستثمارات المعلنة في بطاريات السيارات الكهربائية، وهو ما من شأنه أن يسمح لهذه الصناعة بأن تكون دوماً متقدمة، وربما أكثر، عن منافسها الجنوب أفريقي"، بحسب هنري لويس فيدي.
تقود خمس شركات صينية استثمارات ضخمة في صناعة بطاريات المركبات الكهربائية في المغرب أبرزها المجموعة الأوروبية الصينية "غوشن هاي تك" التي تعتزم ضخ 13 مليار درهم (نحو 1.3 مليار دولار) كمرحلة أولى، ليرتفع المبلغ لاحقاً إلى 65 مليار درهم. كما تخطط شركة "هاي ليانغ" (HAILIANG) لضخ 450 مليون دولار، فيما تخطط شركة "شينزوم" (SHINZOOM) المتخصصة بإنتاج الأنودات لبطاريات الليثيوم لاستثمار 460 مليون دولار.
سبق أن أعلنت شركة "بي تي آر غروب" (BTR Group) عن توصلها إلى اتفاق مع المغرب لتأسيس أول مصنع لها خارج الصين لإنتاج الأقطاب الكهربائية السالبة التي تُعدُّ مكوّناً أساسياً لبطاريات السيارات الكهربائية بحجم استثمار أولي 300 مليون دولار، كما بدأت أشغال مصنع بشراكة بين "CNGR" الصينية وصندوق "المدى" المغربي باستثمار مليارَي دولار.