بلومبرغ
أُحيط وباء كورونا بالكثير من الغموض حول نشأته، وطالته شائعات كثيرة حول أن نشره كان عملاً متعمداً في إطار حرب بيولوجية عالمية أو جشع اقتصادي يستهدف توليد تجارة لقاحات بمليارات الدولارات. لكن ما هو أكثر غموضاً هو التداعيات الاجتماعية والاقتصادية على العالم و الصحية على الإنسان، وهو ما يتكشف شيئاً فشيئاً مع الإعلان عن نتائج البحوث، إذ تشير واحدة من أحدث الدراسات إلى أن عقول مصابي كورونا السابقين في خطر.
العديد من التأثيرات المبكرة والأكثر إثارة للقلق الناجمة عن وباء كوفيد تتعلق بالدماغ، بما في ذلك فقدان حاسة الشم والتفكير البطيء والصداع والهذيان والسكتات الدماغية. وبعد أكثر من 4 أعوام من بدء تفشي وباء كورونا، يعترف الباحثون بالتأثيرات الهائلة التي يمكن أن يحدثها كوفيد على صحة الدماغ، حيث يعاني ملايين الناجين من الإصابة من مشكلات مستمرة من بينها الضباب الدماغي والاكتئاب وبطء الإدراك. يعيق جميعها قدرتهم على العمل والقيام بالأنشطة اليومية. الآن، يشعر العلماء بالقلق من أن هذه الأعراض قد تكون علامات مبكرة على زيادة مقبلة في الإصابة بحالات الخرف وغيرها من الحالات العقلية، ما قد يؤدي إلى إطالة أمد العبء الاجتماعي والاقتصادي والصحي الناجم عن الوباء.
نتائج الدراسات
خلال 2021، أعلن باحثون بريطانيون عن نتائج أولية لدراسة قارنت بين مسح للدماغ تم قبل وبعد بدء الوباء. اكتشفوا علامات تلف وشيخوخة متسارعة في الدماغ، لا سيما في المنطقة المسؤولة عن حاسة الشم، حتى في المرضى الذين عانوا من حالات خفيفة من الإصابة بمرض كوفيد قبل شهور فقط.
كيف يؤثر كوفيد-19 على الدماغ؟
أظهرت الأبحاث أن العجز الإدراكي المرتبط بكوفيد يمكن أن يستمر لسنوات، لا سيما عند كبار السن، وأولئك الذين عانوا من حالات إصابة أكثر شدة. على سبيل المثال، أظهرت دراسة على كبار السن دخلوا المستشفى خلال أول موجة لمرض كوفيد في الصين أنه بعد مرور عامين ونصف، أُصيب 40% منهم بضعف في الإدراك، بالمقارنة مع 14% فقط من أزواجهم غير المصابين. كما كشفت دراسة بريطانية خلال 2024 شملت أشخاصاً دخلوا المستشفى لتلقي علاج كوفيد عن تدهور كبير في الأعراض النفسية والإدراكية بعد ثلاث سنوات من خروجهم. عانى نصف المرضى من اكتئاب يتراوح من معتدل إلى شديد، وعاني رُبعهم من تدهور إدراكي شديد، وفقد واحد من كل تسعة أشخاص في الوظائف العقلية ما يعادل انخفاضاً قدره 30 نقطة على مقياس الذكاء، حيث تُعتبر درجة 100 المتوسط العام.
بالنسبة للأشخاص الذين يعانون بالفعل من مرض الزهايمر، يمكن أن يؤدي كوفيد إلى تفاقم التهاب الدماغ وإصابة خلايا المناعة وتسريع تقدم المرض الذي يمحو الذاكرة، وفق الدراسات. حتى كبار السن الذين كانوا يتمتعون بصحة جيدة في السابق يواجهون خطراً متزايداً من الإصابة بالضعف الإدراكي والخرف الذي يظهر حديثاً بعد الإصابة. رُبطت حالات الإصابة الخفيفة بمرض كوفيد في البالغين الأصغر سناً أيضاً بمشكلات في الدماغ تؤثر على الذاكرة والتفكير. قد تكون هذه الأعراض دائمة ولكنها تتغير عادة وتتفاقم بعد الجهد البدني أو الذهني، ما يؤثر غالباً على قدرة الأفراد على العمل والانخراط في المجتمع.
مستويات التأثير
كشفت دراسة أُجريت في فبراير على ما يقرب من 113 ألف شخص عن وجود عجز أكبر في الذاكرة والوظائف العقلية التنفيذية لدى الأشخاص الذين أُصيبوا بالفيروس في أي وقت، مقارنة بأولئك الذين لم يصابوا مطلقاً بكوفيد، المعروف علمياً بفيروس (SARS-CoV-2). عانى الأشخاص الذين أُصيبوا بالفيروس في المراحل المتأخرة من الوباء من قدر أقل من العجز بالمقارنة مع من أُصيبوا بالسلالة الأصلية أو متحور ألفا، الذي كان أول نسخة جديدة من الفيروس رصدها الباحثون. كما أشارت الدراسة إلى وجود تحسن إدراكي طفيف لدى الأشخاص الذين تلقوا جرعتين أو أكثر من اللقاحات.
حتى حالات الإصابة الخفيفة بمرض كوفيد أسفرت عن تدهور في الإدراك يعادل انخفاضاً بمقدار 3 نقاط في معدل الذكاء في المتوسط. أما بالنسبة لأولئك الذين يعانون من أعراض مستمرة مدة طويلة، مثل ضيق التنفس أو الإجهاد الدائم، فقد وصل التدهور إلى انخفاض بمقدار 6 نقاط في معدل الذكاء.
تشير بعض الأدلة إلى أن الإصابة قد تزيد من خطر الإصابة بمرض الشلل الرعاش (Parkinson). يدعم هذا الارتباط زيادة في حالات الشلل الرعاش، وهي مجموعة من الأعراض مثل الارتجاف وبطء الحركة والتصلب ومشكلات فقد التوازن، بعد الإصابة بمرض كوفيد.
كيف يضر كوفيد بالدماغ؟
تأثيرات الإصابة بفيروس كوفيد (SARS-CoV-2) على الدماغ هي محور أبحاث مكثفة، ولا تزال غير مفهومة بصورة كاملة. تشير الدراسات إلى أن الفيروس قد يتسبب خلال الإصابة الشديدة في تلف الأعصاب، لا سيما في البصلة الشمية -التي تحتوي على الأعصاب المسؤولة عن نقل إشارات الشم إلى الدماغ- مما يؤدي إلى مشكلات قد تدوم لسنوات. في بعض الحالات، قد يصل الفيروس إلى الدماغ عبر هذا المسار، مسبباً تغيرات في بنية الدماغ تسفر عن ضعف إدراكي وإجهاد.
ربما تتسبب بقايا الفيروس المستمرة أو الإصابة الأصلية نفسها في حدوث التهاب في الأعصاب وتعطيل الجهاز المناعي، ما يؤدي إلى هجوم الأجسام المضادة والخلايا الليمفوية التائية (T) على الخلايا السليمة في الدماغ عن طريق الخطأ، وإلحاق الضرر بالأوعية الدموية والحاجز الدموي الدماغي. تشير بحوث إضافية إلى أن الجلطات الدموية قد تسبب تفعيل الجهاز المناعي بطريقة مفرطة، مما يحد من إمداد الدماغ بالأكسجين والعناصر الغذائية، كما أن التغيرات في مستويات بعض الهرمونات الأساسية مثل الكورتيزول والدوبامين قد ترتبط بتغيرات في صحة القناة الهضمية.
الأثر الاقتصادي المحتمل
بينما لا تزال الآثار طويلة الأمد لكوفيد على حالات مثل مرض الشلل الرعاش والخرف غير مؤكدة، فإن المخاطر كبيرة. كلا المرضين مزمنان، غير قابلين للشفاء، وتتطور أعراضهما تدريجياً، ما يصاحب ذلك من تأثير اجتماعي بالغ، إذ لا يؤثران فقط على المصابين بهما، بل أيضاً على أسرهم، ومقدمي الرعاية الصحية، ونظام الرعاية الصحية الأوسع نطاقاً.
توجد بالفعل تداعيات اقتصادية كبيرة على مستوى العالم نتيجة الانتشار المستمر لكوفيد طويل الأمد بعد التعافي، وهو مصطلح فضفاض شامل يُستخدم لوصف المشكلات الصحية الجديدة أو المتكررة أو المستمرة بدرجات متفاوتة من الشدة التي تحدث بعد الإصابة بفيروس كوفيد (SARS-CoV-2). مع نهاية 2023، طال كوفيد طويل الأمد ما يُقدر بنحو 400 مليون شخص حول العالم. وقدر المحللون الأثر الاقتصادي السنوي بين 864 مليار دولار و1.04 تريليون دولار في البلدان المتقدمة فقط، وهو ما يعادل حوالي 1% من الاقتصاد العالمي. ويأتي جزء كبير من هذا التأثير نتيجة للضعف المستمر والأمراض التي يعاني منها المصابون، مع كون الإجهاد الدائم ومشكلات التركيز من بين الأعراض الأكثر ذيوعاً.