بلومبرغ
في مدينة "توسان" بولاية أريزونا الأمريكية، ومثل أيِّ عام عاديٍّ، كان "براد لانكستر" يستطيع أن يجمع ما يكفي من مياه الأمطار لتلبية 95% من احتياجاته المائية، إذ تمرُّ المياه في الأنابيب على سطح منزله، ثم تُجمع في خزانات، تصل درجات الحرارة فيها خلال الصيف إلى 38 درجة مئوية، فتوفِّر له هذه المياه كل ما يحتاج إليه للاستحمام والطهي والشرب.
وعندما يشعر "لانكستر" بالعطش، فإنَّه يشرب من مياه الأمطار المصفاة التي تُعرف باسم "المياه الحُلوة"، لأنها كما يقول لم تلتقط أيَّ أملاح من التربة، كونها مياهاً لم تصل إلى الأرض بالأساس. وعندما يرغب "لانكستر" في حمَّام ساخن، فإنه يقوم بذلك مستخدماً مياه الخزان الخارجي القابعة في الشمس. وبعد انتهاء موسمَي الأمطار في صحراء سونوران، التي عادةً ما تجلب غالبية الأمطار إلى المدينة، فإنَّه يستخدم مياه الأمطار "الرمادية" لريِّ أشجار الفاكهة في أرضه، وهذه المياه هي عبارة عن مياه الأمطار التي تبقى بعد الاستخدام للاستحمام أو الغسيل.
يقول "لانكستر"، وهو مؤلِّف كتاب "حصاد مياه الأمطار للمناطق الجافَّة وأكثر": "في أيَّة سنة نموذجية تشهد مدينة توسان كمِّيَّة من الأمطار تفوق ما يستهلكه سكّانها من مياه البلدية خلال عام، لذلك فإنَّ لدينا فائضَ مياه، يفوق حاجتنا في معظم السنوات، ويمكننا حصد هذه المياه، وإعادة استثمارها بدلاً من تصريفها ".
الزراعة والبحث عن مصادر المياه
هذه الأساليب التي يتكلَّم عنها "لانكستر" ليست بالجديدة كلياً، فتاريخ حصاد مياه الأمطار بدأ مع بزوغ فجر الزراعة، إلا أنَّ مدينة توسان كغيرها من المدن، بدأت تتنبَّه إلى أهميتها في ظلِّ تهديد تغيُّر المناخ مع استنفاد مصادر المياه الأخرى. وفي شهر سبتمبر، أعلنت مدينة توسان حالة طوارئ مناخية، وهو ما جعلها تضع هدفاً طموحاً أن تصبح مدينةً محايدة للكربون مع حلول عام 2030، ونُفِّذت على أساس ذلك سياسات تدريجية على مدار العقد الماضي لزيادة حصاد مياه الأمطار بغرض حفظ الموارد، وخفض فواتير المياه، وإنشاء مزيد من المساحات الخضراء.
ويمكن القول، إنَّ التاريخ الحديث لحصاد المياه في ولاية أريزونا بدأ مع "لانكستر"، فمنذ ما يقرب من عِقدين من الزمان، قطع -بشكل غير قانونيٍّّ- حواجز الرصيف لتوجيه جريان مياه الأمطار إلى أحواض التربة على جانب الطريق، التي هي موطن للأشجار المحلية، مثل شجرة المسكيت، وشجرة الحديد، التي باتت اليوم توفِّر الظلَّ وتسهم في تبريد الجوِّ، وتوفير الغذاء، إذ زرع "لانكستر"، وشاركه متطوِّعون نحو 1600 شجرة، وقطعوا العشرات من حواجز الأرصفة (وقد أصبح قانونياً الآن) في جميع أنحاء الحي الذي يسكنه، "دنبار سبرينغ".
ويقول "لانكستر"، إنَّه حتى في مدينة توسان، التي يبلغ متوسط هطول الأمطار السنوي فيها نحو 12 بوصة فقط (البوصة = 25.4 مليمتر)، يمكن لمياه الأمطار وحدها أن تغذِّي شجرتين محلِّيتين على امتداد كل 25 قدماً في طريق الحي (القدم = 0.304 من الأمتار)، وهو ما يزيد احتمالية نجاح برنامج زراعة مليون شجرة جديدة في توسان.
وتتساءل "كاتي بولغر"، رئيسة موظفي عضو المجلس "بول كننغهام": "هل الأمر يقتصر على توفير المياه؟ لا، ليس بالضرورة". وتضيف: "في ظلِّ التغيُّر المناخي، تُعَدُّ توسان واحدة من أكثر المدن مواجهة لارتفاع درجات الحرارة في الولايات المتحدة. وعدد الأشجار المظللة أقلُّ من المعتاد، لذلك نريد أن يزرع الناس مزيداً منها. نحن نريد الأشجار، نريد الخضرة، ولا نريد أن يستخدم الناس المياه الصالحة للشرب والري (وهي المياه التي تأتي من بُعد، وتصل إلى مسافة 300 ميل (الميل = 1,609 كم)".
مصادر المياه بمدينة توسان
وتأتي إمدادات مياه البلدية في توسان من مصدرين رئيسيين، مثل العديد من المدن الغربية: المياه السطحية، وهي التي تُضَخُّ على امتداد أكثر من 300 ميل من نهر كولورادو. والمياه الجوفية (المياه الموجودة تحت الأرض).
ويستهلك ضخُّ المياه من نهر "كولورادو" طاقة هائلة، كما أنَّ التغيُّر المناخي، والإفراط في استخدام المياه يؤديان إلى تقليص حجم النهر. وهناك مشكلة أيضاً بالنسبة إلى مصادر المياه الجوفية المحلية، فهي مكشوفة، ويؤدي الإفراط في ضخِّها إلى العديد من التداعيات السلبية، مثل تغيير حركة المياه السطحية.
وفي ظلِّ هذه المصادر الأساسية (المضطربة)، التي تعتمد عليها المدينة، بدأت مدينة توسان في الاعتماد على مصدر ثانويٍّّ ثالث للمياه، وهو مياه الصرف الصحي المعالجة. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هناك حاجة إلى حلول أخرى لإنشاء مساحات خضراء، وظلال وفيرة، والحفاظ على تدفُّق المياه على المدى الطويل.
وقد أظهر حصاد المياه منذ البداية إمكانيات كبيرة ليمثِّل أحد الحلول الإضافية، وهو يتبع بشكل مماثل في أجزاء أخرى من العالم، لا سيَّما في الصين، وجنوب آسيا وأستراليا وأجزاء من إفريقيا، كما بات يُستخدم في ناطحات السحاب، والجُزر التي لا تتوفر بها مصادر للمياه العذبة.
وبفضل عمل "لانكستر"، ولو جزئياً، أصبح "حصاد المياه" مصدراً رابعاً للمياه في مدينة توسان، ويشير هذا المصطلح إلى عملية تجميع مياه الأمطار. ويجري ذلك من خلال تجهيز أسطح المباني لجمع المياه، وتصفيتها لتصبح صالحة للشرب، في حين باتت تُستخدم مياه الأمطار لأغراض الريِّ التي تُحصَد عن طريق تجهيز الأرض والأرصفة والطرقات.
منح للتمويل
وتاريخياً، كانت الحاجة إلى ريِّ الأراضي الزراعية أول ما دفع بالقبائل الأصلية في ولاية أريزونا لاستخدام حصاد الأمطار الصيفية موسمياً، في حين بدأ التاريخ الحديث للمنطقة في ذلك منذ عام 2010 تقريباً، عندما بدأت مدينة توسان تطالب مطوِّري العقارات التجارية الجديدة بريِّ 50% من المسطَّحات الخضراء باستخدام حصاد المياه. وفي عام 2012 بدأت المدينة برنامجاً يخصَّص للسكان، بما يصل إلى 2000 دولار لشراء أنظمة تجهيز لحصاد المياه، وفي عام 2017 أطلقت مدينة توسان منحة لتمويل مشاريع حصاد مياه الأمطار.
"مع ارتفاع درجات الحرارة، نحن نتعامل مع أزمة حقيقية في توسان، وتُعَدّ مياه الأمطار هي الأعلى جودة، والأرخص والأسهل في الحصول عليها".
وفي 1 مايو 2020، بدأت مدينة توسان بفرض رسوم شهرية جديدة على السكَّان والشركات العاملة داخل حدود المدينة، وهي رسوم البنية التحتية الخضراء لمياه الأمطار (تبلغ 13 سنتًا لكل 748 غالونًا من مياه المدينة المستخدمة). ومن المتوقع أن تجمع هذه الرسوم نحو 3 ملايين دولار سنوياً لمنشآت جمع مياه الأمطار، والمشاريع ذات الصلة بها.
كما تموِّل الرسوم الجديدة لحصاد مياه الأمطار عمليات تجهيز الأرصفة والبنية التحتية اللازمة لريِّ النباتات المزروعة على الطرقات، التي تستخدم مياه الأمطار وتقلِّل بدورها من الفيضانات في المناطق الحضرية.
وتقول "كانديس روبريخت"، مسؤولة الحفاظ على المياه في مدينة توسان: "نعتمد سياسة الشوارع الخضراء، التي تسعى للبحث فعلياً في الطرق الحديثة لاستخدام المساحات بأنواعها". وقد بدأت بعض الطرق في وسط المدينة تُظهِر تقدُّماً، ووُضعت في بعضها أحواض أشجار المسكيت، كما جُهّزَت الأرصفة بالفتحات لنقل الماء إلى هذه الأشجار.
ويُعَدًّ برنامج المدينة للإعانات من أكثر البرامج جرأة في حصاد المياه، إذ يُمَوَّل أيضاً من خلال فرض رسم على فاتورة المياه (تبلغ 10 سنتات لكل 748 غالونًا من مياه المدينة المستخدمة). ويقدِّم البرنامج خصماً كاملاً للحصاد النشط، أي للأشخاص الذي يستخدمون الأنظمة الخاصة لجمع الأمطار في الخزانات بدلاً من الأرض.
تحفيز السكان
وقالت "روبريخت" إنَّ ما يقرب من 250 شخصاً يحصلون على حسومات على الحصاد النشط كل عام. وفي الآونة الأخيرة، طرحت المدينة برنامج قروض لجعل الحسومات في متناول السكان ذوي الدخل المنخفض. ومن الجدير بالذكر أنَّ أنظمة جمع مياه الأمطار التي رُكِّبَت في إطار البرنامج في السنوات القليلة الأُولى للمشروع، لم تكُن تحافظ على المياه، إلا أنّ النتائج قد تغيَّرت مع اكتساب بعض المعرفة والوقت لنموِّ النباتات الجديدة..
وبناءً على ما جاء في تقرير مدينة توسان حول ترشيد استهلاك المياه للسنة المالية 2018-2019، فإنَّ برنامجها قد نجح في توفير 52.1 مليون غالون من المياه خلال هذه الفترة، وهو ما يكفي لتلبية الاستخدام السنوي لـ160 أسرة. وتشير هذه الأرقام إلى إمكانيات للنموِّ مع زيادة التكيُّف والتعلُّم.
وتوجد لدى بعض المجموعات العاملة في توسان خطط كبيرة لحصاد المياه، ومنها مجموعة "Watershed Management" التي تعلِّم تقنيات حصاد المياه للسكان. وتعمل من مكتب يستعمل خزاناً لمياه الأمطار بسعة 10000 غالون، ويرتبط بأنظمة تروي أشجار الفاكهة والخضراوات، وتوفِّر كذلك المياه للدجاج حوله.
التكنولوجيا تعيد الحياة للأنهار
ويعتقد "كاتلو شيبيك"، المؤسِّس المشارك لهذه المجموعة، أنَّ التكنولوجيا قد تساعد في إعادة إحياء الأنهار الميتة، وتلك التي تُحتضَر. ويقول إنَّ هذا قد يكون ممكناً في حال تبني هذا النظام وتعميمه "واستخدام حصاد المياه لكل شيء، بدءاً من تحسين معيشة المجتمع، إلى زيادة أعداد الأشجار المظللة، حتى دعم إعادة تغذية المياه الجوفية الضَّحلة على طول روافدنا، وتعزيز التدفقات".
وعلى الرغم من أنَّ حكومة المدينة بدأت في تبني حصاد المياه، فإنَّ السكَّان لا يزالون في طور تقبُّله، وهو ما وصفه "لانكستر" قائلاً بأنه "تحوُّل صعب على العقل، لأنَّ كل شيء يختلف تماماً عن الطريقة التقليدية لفعل الأشياء". ومع ذلك، هناك الآن أنظمة طموحة لتجميع المياه في حدائق المدينة، والمدارس الابتدائية، حتى في جامعة أريزونا، التي طرحت مساقات لتعليم حصاد المياه.
وتشير كل الدلائل إلى أنَّ مدينة توسان وعمدتها الحريصة على البيئة، "ريجينا روميرو"لديهما عملٌ لم ينتهِ بعدُ. وبالنسبة إلى "بولغر"، وهي رئيسة موظفي طاقم عضو المجلس "بول كننغهام"، فهي تعتقد أنَّ حصاد المياه، سيصبح إلزامياً للمنازل الجديدة، والتقسيمات الفرعية. وتقول: "بسبب ارتفاع درجات الحرارة، نحن نتعامل مع أزمة حقيقية في توسان. وتُعَدُّ مياه الأمطار الأعلى جودة، والأرخص والأكثر سهولة في الحصول عليها. لدينا هذه الكمِّيَّة الهائلة من المياه القادمة نحونا، ولا نعرف ماذا نفعل بها. لذا أقول نعم، يتعيَّن علينا أن نستثمر في هذا (حصاد مياه الأمطار) من أجل مستقبلنا ".