بلومبرغ
ارتقى بالون يحمل أجهزة استشعار تحت سماء صافية بعد إفلات رباطه في موقف سيارات في بالو ألتو في كاليفورنيا، حيث وقف ثلاثة من مؤسسي شركة "ويندبورن سيستمز" (WindBorne Systems) الناشئة، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في توقعات الطقس، وقد اشرأبت أعناقهم فيما كانوا يتابعون البالون، وقد بدا كقنديل بحر يتهادى فيما يستهل رحلةً تستغرق عدة أيام عبر الولايات المتحدة وربما إلى أبعد منها.
ستراقب أجهزة الاستشعار التي يحملها البالون سرعة الرياح ودرجة الحرارة والضغط الجوي أثناء رحلته التي تستغرق ما يصل إلى 12 يوماً عبر الغلاف الجوي. ويأتي ذلك في إطار استراتيجية "ويندبورن" متعددة الأوجه الرامية إلى تحسين التوقعات الجوية من خلال جمع البيانات، ومن ثم بيعها في الدرجة الأولى إلى المتداولين في مجال الطاقة الذين يسعون لتكوين فكرة مسبقة عن إمكانية زيادة الأحمال على الشبكة الكهربائية. كما تتعاون الشركة الناشئة منذ 2021 مع الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي التي تختبر مدى قدرة البيانات التي يجمعها البالون على تحسين قدراتها على توقع الأحوال الجوية.
قدرة ملاحية مستقلة
كما تعمل "ويندبورن" على صنع أداة لتوقع الطقس تعمل بالذكاء الاصطناعي. وقد استقطبت التوقعات الجوية من هذه الشركة وغيرها من الشركات الناشئة في مجال الأرصاد الجوية أنظار الباحثين في مجال الطقس، مع ترقب موسم قياسي من الأعاصير.
قال ماثيو شانتري، منسق تعلم الآلة في المركز الأوروبي للتوقعات الجوية متوسطة المدى (European Center for Medium-Range Weather Forecasts) وهي منظمة تعاون بين الحكومات، إن "هذا أحد أوائل المواسم التي يمكن فيها اختبار (هذه النماذج الجديدة) فعلاً".
أسس جون دين وكاي مارشلاند وأندري سوشكو وجوان كريوس كوستا شركة "ويندبورن" في 2019، وهم جميعاً مهووسون بأفلام الخيال العلمي وضالعون في الهندسة، كما أنهم من عشاق مسلسل (Battlestar Galactica) لذا تجدهم يرددون جماعياً عند كل إطلاق للبالونات عبارة مقتبسة من المسلسل بمعنى "وهكذا نقول كل ما هنالك"، أما حافزهم فهو شغفهم بشأن إطلاق أشياء إلى الفضاء.
وكانت بالونات الطقس التي تطلقها الوكالات الحكومية وحتى الهواة من مئات المواقع حول العالم، وسيلة لإشباع شغفهم هذا، فيما يعملون في الوقت نفسه على تحسين تقنيات الأرصاد الجوية.
منذ إطلاق أول بالون أرصاد جوية عام 1890، ظلّت هذه الوسيلة تحت رحمة تقلبات الغلاف الجوي، فيذهب البالون إلى حيث تحمله الرياح. فيما أن بالون "ويندبورن" يطير في مهب الريح، إلا أنه له قدرة ملاحية مستقلة بفضل نظام موازنة فريد، ومجموعة من أجهزة الاستشعار بحجم قطع حلوى صغيرة. يمكن إذاً للشركة أن تحدد مسار الرحلة عند الإقلاع، فتبرمج البالون مثلاً على أخذ عينات من شريحة رأسية من الغلاف الجوي، كما يمكنها أن تتحكم بالرحلة وتعدل مسارها آنياً.
إطلاق بالونات الأرصاد الجوية من أربعة مواقع في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وكابو فيردي على الساحل الغربي للقارة الأفريقية، يمكن الشركة من الحصول على تدفق مستمر من البيانات الجوية، فيما تجمع البالونات المبرمجة لأغراض خاصة معلومات عن أحداث جوية محددة.
تعاونت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي مثلاً مع "ويندبورن" في 2022 لإطلاق بالونات من كوريا الجنوبية وهاواي عابرة المحيط الهادئ من أجل مراقبة الأنهار الجوية التي تُعد مصدر الأمطار التي تنهمر على غرب الولايات المتحدة.
دقة أكبر
وصفت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي عبر موقعها الإلكتروني البيانات التي توفرها "ويندبورن" بأنها "قيمة مضافة" إلى بيانات بالونات الطقس.
وبما أن البالون قادر على التحليق عمودياً، فإن الشركة الناشئة تستطيع أن ترصد الاختلافات في درجة الحرارة والضغط الجوي واتجاه الرياح عند ارتفاعات مختلفة. بالتالي، يمكن لهذه البيانات الأكثر تفصيلاً أن ترسم لمتوقعي الأرصاد الجوية صورة أوضح عمّا يجري في الغلاف الجوي.
فإذا ما شبهنا بيانات بالونات الأرصاد الجوية التقليدية بمحاولة تحديد حرارة المحيط عبر غمس إصبع قدم في الماء، فيجوز القول إن الشركة الناشئة قررت بدل ذلك الغوص إلى أعماقه بالكامل.
اختبرت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي حتى الآن ما إذا كان دمج بيانات "ويندبورن" يساعد حقاً في تحسين التوقعات، وقد أتت النتائج واعدة. وبحسب النتائج المقدمة في مؤتمر جمعية الأرصاد الجوية الأميركية في فبراير فإن ذلك كان ليحسّن دقة توقعات الوكالة لمسار الإعصار "فيونا" عام 2022 بنسبة 18%.
تعمل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي والمركز الأوروبي للتوقعات الجوية متوسطة المدى مع عدد من الشركات الناشئة المتخصصة بالأرصاد الجوية. وقد أشار متحدث باسم المركز الأوروبي إلى أنهم لم يحققوا بشكل كامل بعد في تأثير بيانات "ويندبورن" على النموذج الذي يعتمده المركز.
وتستخدم "ويندبورن" البالونات أيضاً في نموذجها الخاص لتوقعات الطقس القائمة على الذكاء الاصطناعي. فالنظام مدرب على مجموعة ضخمة من البيانات التي جمعها المركز عن أحوال الطقس ساعة بساعة من حول العالم منذ 1940. ويمكّنها إدخال البيانات الجديدة من إعداد توقعات أرصاد جوية لمدة 10 أيام، بما يشمل الحرارة ومسارات العواصف.
في نماذج الطقس التقليدية، يعالج خبراء الأرصاد الجوية الملاحظات باستخدام معادلات فيزيائية، أما الذكاء الاصطناعي فيبحث في أنماط الطقس تاريخياً ليتوقع المستقبل، ما من شأنه نظرياً أن يحسّن دقة التوقعات، بحسب شانتري من المركز الأوروبي.
تفوّق على الوسائل التقليدية
نموذج "ويندبورن" غير متوفر للاستخدام العام، لكن الشركة نشرت دراسات حالات أظهرت جودة توقعاتها الجوية من خلال تطبيق نموذجها على الأعاصير الماضية. فقد قارنت الشركة في مدونة نشرتها في مايو قدرتها على التنبؤ بثمانية مسارات أعاصير مع قدرة الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي على توقعها، وأظهر تحليلها أن نموذجها تفوق على الأداة المستندة إلى الفيزياء التي تستخدمها الوكالة.
كما أصدرت "ويندبورن" تحليلات مقارنة أظهرت أنه منذ مارس كان نموذجها أفضل بانتظام في توقع أحوال الطقس في المستقبل القريب، مقارنة بالنماذج المعتمدة من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي والمركز الأوروبي للتوقعات الجوية متوسطة المدى. وتعمل الشركة على دمج البيانات التي تجمعها بواسطة بالونات الأرصاد الجوية، وهي تتوقع أن تسهم في تحسين الدقة بدرجة عالية.
"ويندبورن" ليست وحيدةً في استخدامها للذكاء الاصطناعي في توقع الأنواء. فقد نشر باحثون من "هواوي تكنولوجيز" (Huawei Technologies) في يوليو 2023 دراسة في مجلة "نايتشر" (Nature) أشارت إلى ابتكارهم نموذجاً يعمل بالذكاء الاصطناعي قادر على توقع الأنواء بدقة أعلى من نموذج المركز الأوروبي للتوقعات الجوية متوسطة المدى المستند إلى الفيزياء، الذي يُعد المعيار الأساسي عالمياً.
بعد أشهر من ذلك، نشر علماء من "غوغل" ورقة بحثية أظهرت أن النموذج الذي صنعوه القائم على الذكاء الاصطناعي يتفوق على ذلك. وقالت أيمي ماكغوفرن، الباحثة المتخصصة بتعليم الآلة وتوقعات الطقس في جامعة أوكلاهوما إن الورقة البحثية ركزت على توقع الأنواء "على المستوى العالمي بواسطة التعلم العميق... وقد عملوا عليه لأقصى درجة"، ما أسهم في زيادة الاهتمام بنماذج الأرصاد الجوية القائمة على الذكاء الاصطناعي.
ثمّ أعلنت "ويندبورن" في فبراير أن توقعاتها للأرصاد الجوية تفوقت على أداة "غوغل" على صعيد ارتفاع الجهد الجوي، الذي يُعد من المعايير الأساسية التي تمكّن خبراء الطقس من مراقبة الأنظمة الجوية، برغم أن النتائج لم تخضع إلى مراجعة الأقران. يعترف دين من "ويندبورن" أنه يصعب تحديد العنصر الذي يمكن وصفه بالدقيق، لأن التحليلات الثلاث تستخدم مقاييس مختلفة قليلاً عن بعضها. وقال: "حين يقارن أي شخص يكون هنالك ألف طريقة للمقارنة".
ترقب الأعاصير
سيشكل موسم الأعاصير المقبل مقياساً حقيقياً لـ"ويندبورن"، فقد استهلته أقوى العواصف التي مرت في أشهر يونيو تاريخياً، كما أن المحيطات شديدة السخونة ستكون مصدراً لمزيد من الأعاصير الخطرة. ستطلق "ويندبورن" خلال هذا الموسم بالونات من كابو فيردي التي تُعد أحد الأماكن الساخنة لتشكل الأعاصير. أشار دين إلى أن الشركة "تحظى بإقبال من العملاء يفوق ما نستطيع التعامل معه حالياً".
يمكن لأولئك العملاء الاختيار من بين شركات أخرى أيضاً. إذ تأمل الشركات الناشئة الأخرى المتخصصة بتوقعات الطقس بواسطة الذكاء الاصطناعي، ومن بينهما "أتمو" (Atmo) و"جوا" (Jua) و"تومورو. آي أو" (Tomorrow.io) أن تبيع توقعات الأرصاد الجوية التي تقوم بها إلى الوكالات الحكومية والقطاعات الاقتصادية المتأثرة بالطقس، مثل قطاعيّ الطاقة والطيران.
وتعمل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي والمركز الأوروبي للتوقعات الجوية متوسطة المدى على تطوير نماذج قائمة على الذكاء الاصطناعي لديها، مستندة إلى ما تملكه من كمّ واسع من الخبرة في مجال الأرصاد الجوية ونماذج الطقس.
كما أن ثمّة احتمالاً بأن يتسبب تنبؤ غير دقيق من الذكاء الاصطناعي بشأن حدث كبير، مثل الأعاصير أو حرائق الغابات، في زعزعة ثقة الجمهور بهذه التقنية. قال شانتري من المركز الأوروبي إنه على الرغم من أن نماذج الذكاء الاصطناعي تظهر نتائج واعدة في توقع مسارات الأعاصير، فإن النماذج الفيزيائية ما تزال أقدر بوضوح على توقع مدى حدتها. أضاف: "لا يوجد نظام مثالي من جميع الجوانب".
تبرز مخاوف أيضاً من أن تخفق نماذج الذكاء الاصطناعي في توقع الأحداث الجوية المتطرفة، مثل الأعاصير من الفئة الخامسة، نظراً لندرتها. وفي ظل التغير المناخي الذي أحدث اضطرابات في أنماط الطقس العالمية، فإن البيانات المستخدمة في تدريب الذكاء الاصطناعي ربما تكون قد أصبحت باطلةً.
يدرك مؤسسو "ويندبورن" هذه المخاطر، ولكنهم يشيرون أيضاً إلى الإيجابيات الموعودة التي سيحصدها المجتمع من مراقبة أفضل للعالم وتحسين الأرصاد الجوية. كانت ورقة عمل بحثية صادرة عن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية هذا العام توصلت إلى أن تحسن توقع الأعاصير منذ 2007 أسهم في الحد من الأضرار والخسائر في الأرباح بنسبة 19%، وتوفير مليارات الدولارات.
بيّن مارشلاند أن هدف الشركة على المدى البعيد هو إطلاق 10 آلاف بالون إلى الجو دفعة واحدة لجمع بيانات شتى للمساعدة على فهم أفضل لما يحدث في الغلاف الجوي. وقال: "أرغب في أن يصبح الطقس أشبه بجدول مواعيد، بحيث إنه يؤثر على عملياتك وتدرك أنه موجود، لكنه لا يكون غير متوقع".