جاب سانجيف غوبتا العالم على مدى سنوات مستحوذاً على المعامل المهملة التي تنتج المعادن، ومستخدماً الأموال التي كانت توفِّرها له شركة "غرينسل كابيتال" المتخصصة بتمويل سلاسل الامداد. وهي الشركة التي عادت وأعلنت إفلاسها. وفي غضون كل ذلك، كان يروِّج لرؤيته الجذابة.
وبالنسبة له، لا يعدُّ مصير المصانع القديمة في الدول الثرية محتوماً، فهي لن تتكبَّد الخسائر، وتصبح فائضة عن الحاجة، كما لن تخرج من المنافسة في المواجهة مع المعامل الآسيوية الأضخم، والأكثر حداثة.
وعلى العكس، يمكن لهذه المصانع أن تخوض تحولُّاً في أوج عصر التغيرات التكنولوجية الضخمة، فتحافظ على الوظائف، وتعيد الحياة إلى البلدان الصناعية التي تراجعت أعدادها، فيما تعيد تأهيل القطاعات المُلوَّثة حتى تصبح جاهزة لعالم تصفير الانبعاثات.
دق جرس الإنذار
وفي اجتماع مع "غوبتا" في مارس 2018 عقب شراء تحالف (GFG) لعددٍ من معامل إنتاج المعادن في اسكتلندا، والولايات المتحدة، وأستراليا، كان الرجل متحمِّساً جداً للمستقبل، فبدا كأنَّه يتكلَّم في إحدى محاضرات "تيد". ومع ذلك، ظلَّ كلامه غامضاً من ناحية التفاصيل الدقيقة التي يحتاجها المديرون أصحاب الخبرة كي يحافظوا على عمل مؤسساتهم.
وربما يكون قد أوجب أن يدقَّ ذلك جرس الإنذار، فإمبراطورية "غوبتا" بكاملها تترنح اليوم، فقد أبلغ تحالف (GFG) شركة "غرينسل" في فبراير الماضي، أنَّه مهدَّد بالإفلاس من دون التمويل الذي تقدِّمه له. وذلك بحسب الدعوى التي رُفعت مؤخراً أمام المحكمة.
وكان "غوبتا" قد عيَّن مستشارين ليساعدوا (GFG) على تأمين مصادر تمويل بديلة، بحسب ما نقله أشخاص مطَّلعون على القضية، إلى إيدي سبينس، ولوكا كاسيراغي من "بلومبرغ نيوز"، في حين رفض المتحدِّث باسم (GFG) التعليق على الموضوع.
وتشكِّل هذه الأحداث مؤشراً مقلقاً حيال طريقة تعامل العالم مع الموجودات الصناعية المتراجعة في ظلِّ التوجُّه نحو حياد الكربون، الذي يتطلَّب تغيير أو تحديث معظم قاعدة الطاقة، والقاعدة الصناعية في العالم من خلال اعتماد بدائل أقل تلويثاً. ويشمل ذلك كلَّ سيارة على الكوكب، وكلَّ مصنع للصلب، ومعمل أسمنت، ومنشأة كيميائية، بالإضافة إلى مناجم الفحم، وحقول النفط التي توظِّف مجتمعة ملايين الأشخاص.
واقع مناقض
ويواجه تحقيق مثل هذا التحوُّل عوائق ضخمة، كما سبق ولحظت زميلتي كلارا فيريرا ماركيز. وبالفعل، بدأت الخطوات الأولى في هذا الاتجاه تثير الفوضى. فأستراليا شهدت تغيير ستة رؤساء حكومات منذ عام 2010، ويعود ذلك بجزء كبير منه إلى سياسات الطاقة التي مزَّقت الحزبين الكبيرين في البلاد، فيما تهدِّد خطَّة أوروبا بفرض ضريبة "حدود الكربون" بتأجيج نيران الخلافات التجارية الدولية. وفي الولايات المتحدة، يتوقَّف تمرير الرئيس جو بايدن مشروع قانون مهم على هذا الصعيد، على تصويت عضو مجلس الشيوخ جو مانشين، ممثِّل ولاية غرب فيرجينيا الغنية بالفحم.
وكانت عبقرية "غوبتا" تروِّج للثورة الصناعية على أنَّها سلسلة سوف تخلق رابحين، ولكنَّها لن تؤدي إلى أيِّ خاسرين، وما على الحكومات إلا أن تقف جانباً، وتترك القدرات الابتكارية تأخذ مجراها.
ولكنَّ الأمر الواقع مناقض تماماً لهذه الأحلام. فقبل خمس سنوات، كان الكثير من الموظفين الـ35 ألفاً لدى (GFG) يعملون لصالح بعض أكبر الشركات الصناعية في العالم، مثل مجموعة "ريو تينتو"، و"أرسيلورميتال"، و"غلينكور"، و"تاتا ستيل"، وغيرها. ويتوقَّع من مثل هذه الشركات أن تسهم في تمويل حزم كريمة لدعم القوى العاملة حين تبدأ الوظائف في الزوال. ولكن من المستبعد لتحالف (GFG) الذي
لا يضمُّ أي شركة مندمجة قابضة قادرة على تقديم كفالات متبادلة أن يبلي بلاء حسناً على هذا الصعيد.
أمر مستبعد
وكان "غوبتا" غالباً ما يذهب بعيداً جداً في طموحاته، وإذا ما أعدنا النظر إليها اليوم، سيظهر أنَّ هذه الطموحات لطالما كانت محط شكّ.
فلنأخذ على سبيل المثال خطَّطه المتعلِّقة بمعمل الصلب المُفلس في بلدة وهيالا في جنوب استراليا، الذي اشتراه مقابل 700 مليون دولار استرالي (545 مليون دولار أميركي) في العام 2017. وكانت (GFG) تعتزم استبدال فرن صهر المعادن القديم بجهاز يعمل على الطاقة الكهربائية. ويُستخدم فيه الحديد الذي سيُنتج في المعمل الذي سيتمُّ فيه تدريجياً التخفيف من الاعتماد على الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة. إذ سيتمُّ توفير الطاقة للمعمل من مشروع طاقة شمسية، وتخزين الطاقة، وبطاريات بقيمة 700 مليون دولار استرالي، على أن يتمَّ استخدام الصلب الذي يتمُّ إنتاجه في مشروع لصناعة المركبات الكهربائية.
وفيما تعدُّ أي من هذه الخطوات سبباً كافياً لإلقاء أعباء كبرى على كاهل أكثر مشغِّلي المعامل خبرة وثروة، وذلك لأنَّ "غوبتا" لم يكن يقترح تحويلاً واحداً فقط، ومن أجل إنجاح مشروعه العجيب، كان على الحظ أن يطرق بابه عدَّة مرات.
وربما قد ينجح رهانه، ولكن بعد انسحاب "غرينسيل"، وهي الجهة المؤمنة للتمويل، بات الأمر يبدو مستبعداً أكثر فأكثر.
وليس هناك ما يدعو للتشكيك في صدق طموحات غوبتا، و"غرينسيل"، والشركات الكبرى التي باعتهم الأصول الصناعية. فعند مراجعة دفاتر الحسابات المتوفِّرة الخاصة بمجموعة شركات (GFG)، تبدو الصناديق التقاعدية الخاصة بها، والأموال المخصصة لالتزامات التقاعد مموَّلة بالكامل. تماماً كما كان الحال حين كانت هذه الشركات تابعة لمجموعات أكبر، إلا أنَّ ذلك لا ينطبق على الالتزامات الأقل تأميناً، مثل تعويضات العمالة الزائدة، والأموال اللازمة لدعم القوى العاملة في حين تخضع لإعادة التأهيل.
شعار بلا معنى
والحقيقة المؤسفة، هي أنَّ "سانجيف غوبتا" لا يملك أيَّ نوع من السحر الخاص الذي لا يتوفَّر لدى "ريو تينتو"، و" أرسيلورميتال"، و"غلينكور". وفي غضون ذلك، تهيئ حكومات فرنسا، واسكتلندا، وجنوب استراليا نفسها من أجل دعم القوى العاملة في حال لاقت امبراطورية (GFG) مصيراً مشابهاً لمصير "غرينسيل"، وهو الأمر نفسه الذي كانت ستفعله لو أنَّ الأصول لم تبع من الأصل.
والفارق الأساسي هنا، هو أنَّ المسؤوليات الاجتماعية والسياسية كافةً، المرتبطة بالمعامل؛ أي كلّ الأمور التي لا تظهر على الميزانية، ولكنَّها مهمة بالنسبة للشركات الكبرى التي تأمل أن تحافظ على علاقات مديدة مع الحكومات المضيفة، سوف تنتقل من شركات ضخمة مندمجة متعددة الجنسيات إلى شبكة من الشركات الصغيرة العاجزة عن الوقوف على قدميها، وبالتالي ستضطر الحكومات إلى إصلاح الوضع بنفسها.
ويصف تحالف (GFG) نفسه على أنَّه "رائد في مجال الصناعة المستدامة"، وإذا كان هذا النموذج الذي سيتعامل به العالم مع موجوداته القديمة القائمة على الكربون، فإنَّ هذا الشعار سيفرغ من معناه قريباً بشكل كامل.