يرى مبعوث المناخ الأميركي جون كيري، أن شركات النفط والغاز "يجب أن تقود التحول" إلى الطاقة النظيفة. وبصرف النظر عن غرابة فكرة أن تملي الحكومة الأميركية على شركات القطاع الخاص كيف تنفق أموالها، فإن توقع اضطلاع شركات النفط الكبرى بتغيير صناعة الطاقة يعد ضرباً من الحماقة وقد يأتي بنتائج عكسية.
على سبيل المثال، لم تخترع شركة "كوداك" التصوير الفوتوغرافي الرقمي، كما لم تصمم "أندرويد" للآلات الكاتبة لوحة المفاتيح التي أستخدمها الآن. بل كانت تلك إنجازات الشركات المجددة، فالشركات القائمة لا تجيد الابتكار. وللسبب نفسه، من غير المرجح أن تأخذ شركات مثل "إكسون موبيل" و"شيفرون" و"شل" بزمام عملية التحول إلى الطاقة النظيفة.
على الأقل، ليس كما يتصور معظم صانعي السياسات.
تبنت وكالة الطاقة الدولية رسالة كيري قبيل انعقاد قمة المناخ "كوب 28"، داعية إلى اضطلاع قطاع الوقود الأحفوري بدور أكبر في عملية التحول إلى الطاقة النظيفة. قالت الوكالة في تقريرها الصادر أواخر نوفمبر بعنوان "دور صناعة النفط والغاز في التحول إلى الحياد الكربوني" إن الصناعة تواجه "خياراً" يضع تريليونات الدولارات من الاستثمارات على المحك، ويتمثل في: "الحقيقة المزعجة التي يتعين على الصناعة تقبلها هي أن التحولات الناجحة في مجال الطاقة النظيفة تقتضي انخفاض الطلب على النفط والغاز بشكل كبير، ما يعني تقليص أنشطة النفط والغاز بمرور الوقت، وليس توسيعها".
رائدة الميثانول الأخضر تجد له سوقاً مربحة
لم يلق التحذير آذاناً صاغية، إذ يأتي أقل من 1% من الاستثمار العالمي في مجال الطاقة النظيفة حتى الآن من شركات النفط والغاز. فقد مولت أربع شركات نفطية أكثر من نصف تلك الاستثمارات، وهي "إيكوينور" و"توتال إنرجيز" و"شل" و"بي بي".
محاور التغيير
أخبرني المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول، أنه يريد من شركات النفط الكبرى المساعدة في دفع عمليات التحول إلى الطاقة النظيفة في اتجاهين. يتعلق أولهما، حسبما يقول بيرول، بحاجة الصناعة إلى خفض الانبعاثات المرتبطة بضخ النفط والغاز ونقله وتكريره.
أتفق مع هذا الطرح، حيث يجب وقف تسربات الميثان المتكررة، وقبل كل شيء، يجب أن تتوقف الشركات عن حرق الغاز الناجم عن العمليات الصناعية لتخفيف الضغط الزائد. تقدر وكالة الطاقة الدولية أن تلك الممارسة تنطوي على حرق 140 مليار متر مكعب من الغاز، أي زهاء ضعف استهلاك ألمانيا من الغاز سنوياً. يمكن التوقف عن حرق الغاز قبل عام 2030 الذي اقترحته الصناعة للتخلي عن ممارستها الملوثة للبيئة.
على الرغم من أنه لا ينبغي للحكومات أن تملي على الشركات كيفية إنفاق أموالها أو أين تنفقها، إلا أنها يمكنها معاقبة القطاع الخاص أو مكافأته من خلال الضرائب والمساعدات. من ثم، على الحكومة اعتماد نهج العصا والجزرة لتشجيع الاستثمار في تقنيات الحد من التلوث الناجم عن إطلاق الميثان.
ثانياً، يريد بيرول من شركات النفط الكبرى "تبني" اقتصاد الطاقة النظيفة، والاستثمار في مجالات مثل مزارع الرياح البحرية ومحطات الشحن الكهربائية. وفي هذا السياق، يتوقع المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية أن تخصص شركات النفط الكبرى ما يصل إلى 50% من إنفاقها على مشاريع خضراء.
مع ذلك، أقر بيرول بأن تراجع الاستثمار في الوقود الأحفوري سيشكل عائقاً أمام تنفيذ هذه الخطط، لكن الوكالة تعتقد أن المخاطر حالياً تميل إلى الاستثمار أكثر مما ينبغي في الوقود الأحفوري، وهو ما لا أتفق معه.
عائدات مهددة
يتوقف اختيار مجال الاستثمار على الربحية، وحتى الآن تفوق ربحية الاستثمار في قطاع النفط والغاز ربحية غيره من القطاعات بكثير. على سبيل المثال، أعلنت شركتا "بي بي" و"شل" قبل بضع سنوات، عن خطط ضخمة للاستثمار في قطاع الطاقة النظيفة، مع تقليص أنشطة الوقود الأحفوري. كانت العائدات مخيبة للآمال منذئذ، فعادت كلتا الشركتين إلى التركيز على الاستثمارات النفطية. بالتالي، إذا لم تتمكن شركات النفط الكبرى من تحقيق عائدات أكبر، فمن غير المرجح أن تخصص رأس المال اللازم لتمويل الابتكار في مجال الطاقة النظيفة.
في رأيي، ستحظى شركات النفط الكبرى بأفضلية استثمارية واضحة في بضعة مجالات، ربما تلك المتعلقة بطاقة الهيدروجين واحتجاز الكربون. مع ذلك، أشك في أهمية كليهما للتحول إلى الطاقة النظيفة باستثناء قطاعات محدودة يصعب إزالة الكربون منها.
كما أتشكك بتفوق استثمارات شركات النفط الكبرى حتى في مجال شحن السيارات الكهربائية، الذي يُروج له باعتباره لصيقاً بأعمالها في تسويق الوقود على نحو واضح، إذ إنه ومع تحسن سعة بطاريات السيارات الكهربائية، سيمكن شحنها في المنازل وعلى الطرق. بل إنها ستتوقف للشحن في محطات الوقود التقليدية، التي تحولت إلى محطات شحن للسيارات الكهربائية، في حالات نادرة فقط.
انبعاثات الكربون من الوقود الأحفوري تبلغ ذروتها في 2023
من جهة أخرى، أخشى أن يتسبب توجيه معظم ميزانيات هذه الشركات إلى الطاقة الخضراء الآن، حيث لا يزال الطلب على النفط مرتفعاً، في زيادة الأسعار وتقلبها بشكل كبير في المستقبل. الأمر الذي سيضعف بدوره الدعم الشعبي للتحول إلى الطاقة النظيفة، فالناخبون يؤيدون مكافحة أزمة المناخ؛ لكن قلة منهم فقط مستعدون لتحمل تكلفة ذلك.
منافسة غير مطلوبة
في ظل السياسات الحالية، لا يزال العالم بحاجة إلى إنتاج المزيد من النفط على مدى السنوات السبع إلى العشر القادمة، وليس أقل. بعد ذلك، سيبدأ الاستهلاك في التراجع ملتزماً وتيرة تدريجية للغاية أقرب إلى تثبيت حجم الإنتاج منها إلى خفضه. لذلك، أشك بأن الطلب العالمي على النفط سينخفض بالوتيرة المتوقعة في سيناريوهات الحياد الكربوني، فنحن على أعتاب 2024 ولا يزال الطلب على النفط في ارتفاع.
كذلك، فإن احتمال أن يرتفع الطلب على مدى سنوات، إن لم يكن عقوداً، يعني ضعف الحوافز التي تدفع شركات النفط الكبرى إلى منافسة مطوري التقنيات الخضراء في حلبة الطاقة المتجددة. يقول جوليان بيركنشو، الأستاذ في كلية إدارة الأعمال بجامعة لندن، في مقال نُشر في مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" حول الابتكار والتغيير في عالم الأعمال، إن المقاومة هي السلاح المناسب للشركات إذا ما ظهرت تقنية جديدة "تمثل تهديداً وجودياً لها"، وهذا "لا يكون حقيقياً في غالبية الأحيان".
سلط بيركنشو الضوء على الاضطرابات التي تواجهها الشركات بسبب التحول الرقمي، لكن منطقه ينسحب أيضاً على الوقود الأحفوري. بالتالي، تعد الاستراتيجية الأفضل لشركات النفط الكبرى هي التراجع إلى نطاق خبراتها الأساسية، بدلاً من منافسة مطوري تقنيات الطاقة الخضراء بشكل مباشر، وهذا هو النهج الذي تتبناه حالياً شركات "إكسون" و"شيفرون"، و"شل" إلى حد ما.
لذا، لا داعي لقلق صانعي السياسات في مجال الطاقة والمناخ بشأن شركات النفط الكبرى. اتركوها تتحصن في خندقها حتى تقوم بما تبرع فيه، وهو توفير إمدادات وافرة من الوقود الأحفوري طالما استمر الطلب عليها. لكن ينبغي التأكد من جعل عمليات الإنتاج والتوزيع أكثر مراعاة للبيئة.
في غضون ذلك، يمكن أن توفر أرباح تلك الشركات للمساهمين الأموال اللازمة لتمويل الاستثمارات الخضراء. لنترك الابتكار لأهله، فالنمو الهائل لصناعة الطاقة الشمسية، مع الدعم المحدود لها من قبل شركات النفط الكبرى، يعد شهادة على قدرة صناعة الطاقة الخضراء على العمل والابتكار بمفردها.