برغم الأنهار والأمطار.. لماذا تعاني "تشيناي" الهندية من الجفاف؟

time reading iconدقائق القراءة - 9
السكان يملئون الأواني من شاحنة لنقل المياه، 4 يوليو 2019، عندما أصبحت تشيناي واحدة من أولى المدن الكبرى في العالم التي تعاني من جفاف - المصدر: بلومبرغ
السكان يملئون الأواني من شاحنة لنقل المياه، 4 يوليو 2019، عندما أصبحت تشيناي واحدة من أولى المدن الكبرى في العالم التي تعاني من جفاف - المصدر: بلومبرغ

عادة ما يؤدي تغير المناخ في بعض المدن إلى ارتفاع منسوب مياه البحر وزيادة الفيضانات، بينما قد يؤدي في مدن أخرى إلى الجفاف ونقص المياه. لكن مدينة تشيناي في الهند، ذات الكثافة السكانية البالغة 11 مليون نسمة، تعاني العرضين معاً.

وتشهد سادس أكبر مدن الهند هطول الأمطار بنحو 1400 ملم سنوياً، أي أكثر من ضعف كمية مياه الأمطار التي تسقط على مدينة لندن، وما يقرب من أربعة أضعاف مستوى الأمطار في لوس أنجلوس.

ومع ذلك، تصدرت المدينة عناوين الأخبار في عام 2019 لكونها واحدة من أولى المدن الكبرى في العالم التي تعاني من نفاد المياه، إذ تنقل الشاحنات ما يصل إلى 10 ملايين لتر يومياً من المياه لتلبية احتياجات سكانها.

وكان يناير 2021 واحداً من أكثر الشهور من حيث كمية هطول الأمطار في المدينة منذ عدة عقود.

وأصبحت المدينة التي كانت ميناء لجنوب الهند قديماً تمثل حالة لدراسة الآثار الجانبية التي قد تحدث عند تجمع التصنيع، والتوسع الحضري، والظروف المناخية المتطرفة في مكان واحد.

هذا وأصبحت المدينة المزدهرة تعد نفسها باستغلال الفيضان لتلبية طلب المنازل والمصانع والمكاتب الجديدة.

وتشيناي، التي كانت تعرف سابقاً باسم "مدراس"، تقع على سهلٍ منخفضٍ على الساحل الجنوبي الشرقي للهند، وتتقاطع مع ثلاثة أنهار رئيسية، جميعها ملوثة بشدة، وتصب في خليج البنغال.

ولقرون من الزمن، كانت تشيناي حلقة وصل تجارية تربط بين الشرق الأقصى والأدنى. وكانت تُعدُّ بوابة إلى جنوب الهند. وقد أدى نجاحها إلى نشوء منطقة حضرية نمت بتخطيط ضئيل وعدد سكانها الآن يزيد على عدد سكان مدينة باريس، والكثير منهم منخرطٌ في صناعات السيارات والأفلام والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات، ومع ذلك، تعتبر جغرافية المدينة الهندية أيضاً نقطة ضعف بالنسبة لها.

معاناة تشيناي بين تغير المناخ وسوء التخطيط

تعاني المدينة كذلك من تدفق مياه الأمطار المصحوبة بالأعاصير والعواصف، إلى خليج البنغال بشكل دوري. مما يدفع الأنهار الملوثة بمياه الصرف الصحي إلى التدفق والفيضان في شوارعها.

ومن جهة أخرى تعاني تشيناي أيضاً من عدم انتظام هطول الأمطار خلال العام. إذ تسقط 90% من الأمطار خلال موسم الرياح الشمالية الشرقية في شهري نوفمبر وديسمبر. وهذا يدفع المدينة في الفترات التي لا تسقط خلالها الأمطار، إلى الاعتماد على محطات ضخمة لتحلية المياه، بالإضافة للمياه المتدفقة عبر الأنابيب من على بعد مئات الكيلومترات، وذلك نظراً للتلوث الشديد الذي تعاني منه معظم أنهار وبحيرات المدينة.

وبالرغم من أن تغير المناخ والطقس المتطرف لعب دوراً في مشاكل المياه في تشيناي، إلا أن سوء التخطيط كان السبب الرئيسي وراء تلك المشاكل. ففي ظل النمو العمراني في المدينة، اختفت مساحات شاسعة من السهول المحيطة بجانب البحيرات والبرك في المدينة.

وبين عامي 1893 و2017، تقلصت مساحة المسطحات المائية في تشيناي من 12.6 كيلومتر مربع، إلى حوالي 3.2 كيلومتر مربع، وذلك بحسب الباحثين في "جامعة آنا" في تشيناي.

وشهدت العقود القليلة الماضية معظم تلك الخسائر، والتي كان من بين أسبابها بناء ممر تشيناي الصناعي الشهير في عام 2008، والذي يمتد ليغطي مساحة تصل إلى نحو 230 كيلومتر مربع من المستنقعات. ويتوقع فريق من جامعة آنا الهندية تدهور وضع نحو 60% من مصادر المياه الجوفية في المدينة بشكل خطير بحلول عام 2030.

تشيناي بين الجفاف والفيضانات والتلوث

ومع ارتفاع مستوى هطول الأمطار، زادت الفيضانات في المدينة أيضاً. ففي عام 2015، عانت تشيناي من أسوأ فيضان لها منذ قرن. وشهدت المدينة أمطاراً بنحو 494 ملم في يومٍ واحد، وكان ذلك بسبب الرياح الموسمية الشمالية الشرقية، وحينها لقي أكثر من 400 شخص حتفهم، واضطر 1.8 مليون شخص لمغادرة منازلهم، كما طالت مياه الفيضانات الطوابق الثانية في بعض مباني منطقة ممر تشيناي.

وبعد أربعة أعوام، تصدرت ندرة المياه عناوين الأخبار. إذ تعرضت المدينة لما أطلق عليه اسم "اليوم صفر"، وذلك بعد أن جفت كافة خزاناتها الرئيسية، الأمر الذي أجبر الحكومة على نقل مياه الشرب بالشاحنات لها من مناطق أخرى. ووقف الناس في طوابير لساعات طويلة من أجل ملء حاويات المياه، واختُطفت صهاريج المياه واندلع العنف في بعض الأحياء بسبب ذلك.

ويقول نيتياناند جايارامان، وهو كاتب وناشط بيئي يعيش في تشيناي: "الفيضانات وندرة المياه مشكلتان لهما الجذور ذاتها، وهي التحضر والبناء بصرف النظر عن طبيعة المكان. حيث إن أقوى عنصرين دفعا لذلك، هما السياسة والأعمال، فهما يقومان بالأعمال بدون تخطيط طويل المدى، وينظر للمشاريع من خلالها برؤى قصيرة الأجل للغاية. وإذا لم يتغير ذلك، فنحن محكوم علينا بالهلاك".

توقعات مستقبلية مثيرة للذعر حول مستقبل المدينة

وفي خطة عملها المتعلقة بتغير المناخ، تتنبأ ولاية تاميل نادو، وعاصمتها تشيناي، بارتفاع متوسط ​​درجة الحرارة السنوية بمقدار 3.1 درجة مئوية بحلول عام 2100. وذلك من مستويات فترة 1970-2000، بينما تتوقع أن تنخفض الأمطار السنوية بنسبة تصل إلى 9%.

والأسوأ من ذلك، إمكانية انخفاض مستوى هطول الأمطار حتى خلال فترة الرياح الموسمية الجنوبية الغربية بين شهري يونيو وسبتمبر، والتي عادة ما تجلب أمطاراً مستمرة لازمة لزراعة المحاصيل وإعادة ملء الخزانات. كما سيصبح موسم الأعاصير المسببة للفيضانات في فصل الشتاء أكثر كثافة، مما يعني حدوث فيضانات وموجات جفاف أسوأ.

وعادة ما تنتهي الرياح الموسمية الشمالية الشرقية بشكل رسمي في ديسمبر، لكن هطول الأمطار الغزيرة في الشتاء الحالي استمر حتى يناير، فقد واجهت ولاية تاميل نادو أمطاراً أكثر من 10 أضعاف الأمطار العادية طوال الشهر.

ويقول آرون كريشنامورثي، مؤسس "مؤسسة حماية البيئة الهندية غير الربحية"، ومقرها تشيناي: "لم تكن هذه الأمطار الغزيرة أمراً طبيعياً بالنسبة لجيل آبائنا وأجدادنا. يتحدث الناس هنا كثيراً عن تقلبات الطقس الغريبة، لكنهم لا يربطونها بتغير المناخ".

وتُعتبر تشيناي مثالاً متطرفاً على مشكلة تُسبب اضطرابات متزايدة في مدن العالم، التي يكافح الكثير منها أيضاً مع ارتفاع كثافتها السكانية بشكل سريع. وتأتي كل من ساو باولو وبكين والقاهرة وجاكرتا ضمن المراكز الحضرية التي تواجه ندرة شديدة في المياه أيضاً.

ويقول كريشنامورثي: "إنها مشكلة عالمية، وليست مشكلة خاصة بتشيناي فقط. نحن بحاجة للعمل سوياً لضمان تحقيق مستقبل يتمتع بأمن مائي".

ومع ذلك، تقول حكومة ولاية تاميل نادو إنها تعالج المشكلة، فقد أصدرت قانوناً في عام 2003 يلزم جميع المباني بجمع مياه الأمطار.

وهذه الخطوة ساهمت في رفع منسوب المياه الجوفية، لكن سرعان ما تآكلت المكاسب بسبب نقص الصيانة للبنية التحتية، وفقاً للمجلس المركزي للمياه الجوفية التابع لوزارة الزراعة الهندية.

كما أن جهود إعادة تعزيز إمدادات المياه الجوفية، واجهت معاناة لتعويض حجم المياه المُستخرجة من الآبار.

ولم يقدم مجلس إمدادات المياه والصرف الصحي في تشيناي الكبرى إجابات على الأسئلة حيال الأمر، وكذلك لم يستجب مجلس إمدادات المياه والصرف في تاميل نادو لرسالة بريد إلكتروني تطلب التعليق على الأمر.

خطة إنقاذ مستلهمة من العصور القديمة

بعد فترة وجيزة من واقعة "اليوم صفر" في عام 2019، أعلن رئيس وزراء ولاية تاميل نادو، إيدابادي بالانيسوامي عن برنامج يتضمن مشاركة كبيرة من جانب النساء، ويغطي كل شيء بداية من جمع مياه الأمطار وتوفير المياه وإعادة تدوير الموارد المائية وحمايتها، بجانب تقديم دراسات حول كيفية تنظيف الأنهار الملوثة في الولاية.

وحتى ذلك الحين، كانت استراتيجية الحكومة تتمحور حول بناء محطات كبيرة لتحلية المياه، وهو أمر مكلف يرتبط أكثر بالدول ذات الأراضي القاحلة أو الجُزر ذات المياه العذبة المحدودة. كما تم انتقاد المصانع في المدينة مرارا بسبب أضرارها البيئية وتأثيرها السلبي على مصائد الأسماك المحلية.

والآن، تتبع الحكومة نهجاً جديداً مستوحى من ماضي المدينة. وتدعم "شركة تشيناي الكبرى" مبادرة تسمى "مدينة الألف خزان"، في إشارة إلى البحيرات القديمة التي بناها الإنسان حول المعابد.

وبدعم من الحكومة الهولندية، والبنك الآسيوي للاستثمار سيتم توفير البنية التحتية اللازمة، حيث تهدف الخطة إلى ترميم بعض خزانات المعابد القديمة، وبناء مئات الصهاريج الجديدة الممتدة على المنحدرات الخضراء في جميع أنحاء المدينة. وذلك في محاولة لجمع وتصفية الأمطار الغزيرة، وإعادة تعزيز المياه الجوفية، وتخزين المياه لاستخدامها في أشهر الجفاف.

وقال سودهيندرا إن كيه، مدير "مدراس تيراس للأعمال المعمارية" المشاركة في المشروع: "الفيضانات والجفاف والمرافق الصحية مترابطة. عند اهتمام عدد كافٍ من الأشخاص بكل هذا، ستلاحظ فرقاً كبيراً، ولن نكون في أزمة بعد الآن". وأوضح أن المشروع سيستغرق ما لا يقل عن خمسة أعوام ليُحدث تأثيراً ملموساً.

وفي الوقت ذاته، تواصل الكثافة السكانية في تشيناي الارتفاع بمقدار ربع مليون شخص سنوياً، مما يجعلها تواجه سباقاً مع الزمن للحد من الفيضانات ونقص المياه.

ويقول كريشنامورثي، مؤسس "مؤسسة حماية البيئة الهندية": "ما أخشاه هو تكرر الأزمات المتعلقة بالمياه بشكل كبير في المستقبل. نحن لم نتعلم الدرس من واقعة اليوم صفر".

تصنيفات

قصص قد تهمك