مكافحة التغيّر المناخي تعيد تشكيل سوق العمل

ملامح سوق العمل تتشكل من جديد مع ترك الكثيرين لوظائفهم للعمل في مجال الطاقة النظيفة

time reading iconدقائق القراءة - 21
انبعاثات كثيفة من أبراج التبريد في محطة \"بيلتشاتو\" لتوليد الطاقة العاملة بالفحم، في بلتشاتو، بولندا، يوم 24 نوفمبر 2021 - المصدر: بلومبرغ
انبعاثات كثيفة من أبراج التبريد في محطة "بيلتشاتو" لتوليد الطاقة العاملة بالفحم، في بلتشاتو، بولندا، يوم 24 نوفمبر 2021 - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

تعيد مكافحة التغيّر المناخي، تشكيل سوق العمل، حيث تقول منظمة العمل الدولية، إن تطبيق السياسات الصحيحة من شأنه أن يوفّر ما يزيد على 24 مليون "وظيفة خضراء" (مراعية للبيئة) على مستوى العالم بحلول 2030. لكن إيجاد المؤهلين لتولي هذه الوظائف سريعاً، لن يكون بالأمر السهل، إذ وجد استطلاع أجراه موقع "لينكد إن" في 2022، أن قوائم الوظائف الخضراء الشاغرة نمت سنوياً بنسبة 8% منذ 2015، فيما حققت "المواهب الخضراء" نمواً سنوياً بمعدل 6% فقط خلال الفترة ذاتها.

الأمر الجيد هو أن العديد من الباحثين عن الوظائف، يتطلعون للعمل في شركات تتماشى سياساتها مع أهداف المناخ. أظهر استطلاع أجرته كلية الإدارة بجامعة "ييل" في عام 2021 وشمل 2000 طالب من 29 كلية للأعمال حول العالم، أن 51% من العينة سيقبلون أجوراً أقل مقابل العمل في شركة مسؤولة بيئياً. هذا مؤشر جيد، لأن سد فجوة العمالة سيتطلب مهارات جديدة وأشخاصاً يتخلّون عن وظائفهم الحالية للالتحاق بصناعات جديدة وسريعة التطور. من المهم أن تقوم القوى العاملة بعملية مفاضلة في هذا الشأن، وهناك بعض الدلائل على أن ذلك هو ما يحدث فعلياً.

توظيف أكبر في الطاقة النظيفة

خلال العام المنصرم، فاقت عمليات التوظيف في شركات الطاقة المتجددة تلك التي شهدتها شركات الوقود الأحفوري، طبقاً لتقرير أصدرته وكالة الطاقة الدولية. هناك أيضاً حالات متزايدة من الأشخاص الذين يتخلون عن وظائفهم للعمل في مجال مكافحة التغيّر المناخي. وجهت "بلومبرغ غرين" دعوة إلى "المستقيلين بدافع العمل المناخي" لتسليط الضوء على قصصهم، وبالتالي فهم الصعوبات التي يواجهونها والدروس المستفادة، وقد تلقينا ردوداً كثيرة.

لنأخذ على سبيل المثال، قصة لورا براون، التي تعرّض حيّها في ناشفيل بولاية تينيسي الأميركية للدمار، بسبب إعصار في 3 مارس 2020 بلغ إجمالي الأضرار الناجمة عنه 1.5 مليار دولار. قالت براون: "كنا نعتبر لاجئين مناخيين خلال الفترة الأولى من تفشي الوباء، وبصراحة دفعني الإعصار إلى التحرك. فالتغير المناخي لم يعد مشكلة من النوع الذي يمكنني تجاهله".

كانت صلاحية عقد عملها على وشك الانتهاءـ وبدلاً من محاولة تجديده، ذهبت براون إلى كلية إدارة الأعمال لتلقي دروس أكثر حول الاستدامة، قبل أن تبدأ البحث عن وظيفة جديدة. استغرق منها الأمر ما يزيد على 6 أشهر للحصول على وظيفة، وهو أمر لم تكن تتوقعه نظراً لما سمعته عن الاقتصاد الأخضر المتنامي. وظائف عديدة تقدمت لها، كانت تشترط خبرة مسبقة في العمل المتعلق بقضايا المناخ.

في النهاية، حصلت براون على وظيفة، ونصحت الآخرين ممن يبحثون عن وظائف متعلقة بالمناخ قائلة: "عليك فقط اتخاذ القرار ثم التمسك به. فنحن أمامنا الكثير في هذا المسار، وهناك الكثير من العمل الرائع والمشجع حقاً".

أغلب المستقيلين من قطاع النفط والغاز

قصص عدة من تلك التي تلقيناها، جاءت من أشخاص تركوا أعمالهم في قطاعات النفط والغاز. قال جان بونيرث إنه غادر قسم الشؤون العامة والحكومية في شركة "إكسون موبيل" في ألمانيا، منتقلاً إلى السويد، حيث درس التنمية المستدامة، والآن يعمل في شركة اتصالات تسعى إلى دعم التكنولوجيا النظيفة. أيضاً استقال ديمتيري لافلور من منصبه كعالم جيولوجي في شركة "شل" في أستراليا، ليحصل بعدها على الدكتوراه، وهو يعمل الآن في المركز الأسترالي لمسؤولية الشركات (ACCR)، حيث يُقيّم تماشي أداء الشركات مع أهداف المناخ.

في استطلاع أجراه المؤشر العالمي للمواهب في قطاع الطاقة عام 2022 وشمل نحو 10 آلاف متخصص في مجال الطاقة، تبيّن أن 21% من القوى العاملة في مجال الطاقة المتجددة جاءت من مجالات أخرى خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية. وجاء نحو الثلث منهم من قطاع النفط والغاز، كذلك أوضح 82% من المستجيبين أنهم قد ينتقلون إلى أحد قطاعات الطاقة الأخرى في الأعوام الثلاثة المقبلة، ونصفهم يفضل العمل في الطاقة المتجددة.

مكان غير صالح للعيش

العديد من المستقيلين للعمل في مكافحة التغيّر المناخي، استقالوا كرد فعلٍ على تقارير علمية مفزعة. تركت كاثرين كليري عملها كناقدة مطاعم، بعد قراءة تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) في 2018 حول ما قد يحدث في حال وصل الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية.

قالت كليري: "انفجرت في البكاء على مكتبي، كان ابني الأصغر يبلغ ثمانية أعوام آنذاك، وبالتالي بعد 12 عاماً قد يصبح بالغاً في عصر يتحوّل فيه العالم بشكل متسارع إلى مكان غير صالح للعيش". في 2020، أسست كليري جمعية "بوكيت فورستس" (Pocket Forests)، التي تساعد الناس على التواصل مع الطبيعة في المناطق العمرانية، وتساعدهم كذلك على استصلاح التربة وزراعة الأشجار الأصلية.

جاستن كينيدي، تخلى عن مهنته التي مارسها 22 عاماً كمحامٍ في قطاع النفط والغاز في أستراليا، بعد قراءته تقرير وكالة الطاقة الدولية لعام 2021، والذي أفاد بأن تحقيق أهداف المناخ يعني إلغاء مشروعات الوقود الأحفوري. يعمل كينيدي الآن في شركة "صن كابل" (SunCable) الهادفة إلى بناء خط نقل تحت البحر يبلغ طوله 4200 كيلومتر، لنقل الطاقة الشمسية الأسترالية إلى سنغافورة.

عامل الزمن مهم في الإصلاح

قال كينيدي: "المهارات التي صقلتها على مدى أعوام عدة، تحديداً في تحويل مشروعات الغاز والغاز الطبيعي المسال للربح التجاري، قابلة للتطبيق مباشرة (في مجال الطاقة النظيفة)". أضاف: "أحمل بعض التعاطف تجاه من يستمرون في العمل في قطاع النفط والغاز، لكنني أعتقد أننا تجاوزنا نقطة التحوّل، والانتقال بدأ يحدث بالفعل، وستتوافر وظائف عديدة".

يبذل بعض الناس جهوداً كبيرة للعمل على حل قضية المناخ. استقالت ريبيكا كوك من وظيفتها في مجال الاتصالات في لندن، وانتقلت إلى جزيرة منعزلة في نيوزيلندا. الجزيرة التي تعيش فيها تعتمد كلياً على الطاقة الشمسية، وتستمد الماء من مجرى مائي قريب، ومعظم احتياجات الغذاء من حديقة خضراوات. تعمل ريبيكا الآن ككاتبة محتوى في مجال الطاقة والمناخ. وتقول "شعرت بإحساس حقيقي أن أهدافي تجدّدت بسبب العيش في توافق أوثق مع ما أشعر بأنه صحيح".

بعض الخيارات تبدو محيّرة في البداية. تخلّى بين باتروس عن وظيفته كمحامٍ دولي يعمل في المساءلة القانونية للجرائم الدولية، مثل جرائم الحرب والإبادة الجماعية والاتجار بالبشر. لماذا؟ يقول باتروس: "إذا أسأنا التعامل مع قضية تغيّر المناخ، لا يهم ما نتناوله بعد ذلك تناولاً صحيحاً إذا نظرنا إلى الأمر من منظور الجدول الزمني للأجيال القادمة، وهناك مشكلات أخرى يمكننا العودة وإصلاحها لاحقاً، لكن لا يمكننا فعل ذلك مع تغيّر المناخ".

تطور سريع في القطاعات الخضراء

يحتاج الذين يغيرون وظائفهم إلى أن يكونوا مستعدين للتطور السريع في القطاعات الخضراء التي ينضمون إليها. ساندي أنوراس، تركت وظيفتها كنائب أول لرئيس شركة "إكسبيديا" (Expedia) لخدمات السفر، لتنضم إلى شركة "صن رن" (Sunrun) لتطوير الطاقة الشمسية كرئيس تنفيذي للتكنولوجيا.

تقول: "عندما انضممت إلى فريق العمل للمرة الأولى، قال لي أحدهم: (مرحباً بك في القطار الشمسي)". في الأشهر القليلة الأولى فقط من عملها، كانت هناك تغييرات جذرية في كيفية دفع تكاليف الطاقة الشمسية، بما فيها تمرير "قانون الحد من التضخم" الذي مدّد الإعفاءات الضريبية الأميركية للطاقة الشمسية.

في النهاية، لن يكون ممكناً لكل من يهتم بالتغيّر المناخي أن يعمل بدوام كامل في هذا المجال، لكن الاستقالة بهدف مكافحة التغيّر المناخي ليست الطريقة الوحيدة للمساهمة في حل المشكلة. تقول لوسي بايبر، التي تركت عملها في شركة خدمات السفر وتعمل الآن مديرة لشبكة "العمل من أجل المناخ" (IFAC)، إن أولئك الذين يشغلون وظائف لا يمكنهم تركها، يمكنهم بدلاً عن ذلك أن يستخدموا تأثيرهم لتغيير طريقة عمل الشركات التي يعملون بها.

مقاومة من الشركات الكبرى

تقول بايبر: "قطاع الشركات الكبرى يتحمل المسؤولية عن ما يزيد على 70% من الانبعاثات العالمية، ويتحكم في رأس المال الهائل الذي يتدفق إلى صناعة الوقود الأحفوري، والأهم من ذلك لديه القدرة على الضغط على الحكومات من أجل سياسة مناخية تقدمية. لذلك فإن للموظفين تأثيراً كبيراً على سلوك الشركات".

منتدى دافوس يعود للانعقاد شتاءً بجدول أعمال مزدحم بالأزمات

بعض الشركات ستتغيّر، لكن الأكثرية ستقاوم، وهذا ما حدث مع جو دانيال، الذي يعمل في شركات حقول النفط "بيكر هيوز"، إذ يقول: "طرحت فكرة من شأنها أن تساعد في خفض تلوث مياه الصرف الصحي في مصفاتنا إلى النصف، والأفضل من ذلك كله أنها ستوفر في الواقع أموالاً للشركة على المدى الطويل". لكن الشركة رفضت الفكرة لأنها تخاطر بجعل تصاريح الصرف الصحي أكثر صرامة في المستقبل، على حدّ قوله.

قال دانيال: "فتح الأمر عيني على مدى أهمية السياسة كمحركٍ للتغيير، وعلى أن أغلب صُنّاع السياسات ليست لديهم خلفيات هندسية". انضم دانيال لاحقاً إلى المركز البحثي "روكي ماونتين إنستيتيوت" (Rocky Mountain Institute)، حيث يعمل الآن للتأثير على السياسات. يتوجه دانيال بنصيحة إلى الآخرين قائلاً: "إذا لم تنجح إحدى المحاولات، فمن الجيد دوماً تجربة شيء جديد".

تصنيفات

قصص قد تهمك