خلال 2022 تمزقت أسواق الطاقة بسبب الحروب الدامية التي اعتدنا الدخول فيها للصراع على الموارد، لكن العام انتهى بتطور علمي واعد. ففي الساعات الأولى من 5 ديسمبر الماضي أعلن الباحثون في منشأة الإشعال الوطنية التابعة لمختبر لورانس ليفرمور في الولايات المتحدة عن أول تجربة اندماج نووي تنتج طاقة أكثر من طاقة الليزر التي استُخدمت للحصول على هذا الاندماج. وعند الإعلان عن ذلك، أشادت وزيرة الطاقة الأميركية، جينيفر غرانهولم، بإنجاز المنشأة باعتباره يوفر حلاً ممكناً للمشكلات المعقدة "مثل توفير الطاقة النظيفة لمكافحة تغير المناخ".
بعد نهاية العام الماضي بكل ما فيه، ربما كانت "غرانهولم" ستضيف إلى خطابها أن هذا الاختراع "يمنعنا أيضاً من الاعتماد على أمثال روسيا في الحصول على الطاقة مرة واحدة وإلى الأبد". لكنها بدلاً من ذلك، قالت: "إنه يتيح سلاح ردع نووي دون إجراء تجارب طاقة نووية". لأنه، بصرف النظر عن مخاطر تهديدات الأسلحة النووية المؤسفة التي برزت على السطح مجدداً في 2022، فإن هذا هو الهدف الأساسي الذي تسعى منشأة الإشعال الوطنية لتحقيقه بعد انتهاء اختبارات الأسلحة النووية تحت الأرض.
نشر طاقة الاندماج النووي
بجانب ذلك، فإن إنجاز اختراع "الاشتعال" سيساعد بلا شك في دعم جهود البحث المستمرة التي تهدف لنشر طاقة الاندماج، لكن تقنية المنشأة الأميركية لم تصمم لهذا الغرض. مقارنة مع تقنيات الـ"توكا ماك" النووية الاندماجية، التي تُطبق في مشروعات مثل المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي (ITER) الذي يجري بناؤه في فرنسا -وهو متأخر عن نظيره الأميركي ويعمل بشكل مختلف- يُنظر إلى هذه التقنيات على أنها تمثل مساراً أكثر احتمالًا لأن تصبح طاقة الاندماج على نحو تجاري أمراً واقعياً.
إننا نعيش في عصر تطورات قطاع الطاقة والتي تنتشر في مراحل مختلفة من التطبيق الواقعي. وغالباً ما يكون من الصعب التعرف على مدى أهمية تلك التطورات فور التوصل لها. على سبيل المثال، في يونيو 1998 نجح مهندس يعمل في شركة "ميتشل إنرجي آند ديفلوبمنت" (Mitchell Energy & Development) التي تتبع الآن لمؤسسة "ديفون إنرجي" في تطبيق تقنية التكسير الهيدروليكي لإنتاج الغاز الطبيعي من بئر في حوض بارنيت الصخري بالقرب من دالاس، لكن لم ينتشر استخدام هذا الاختراع بين عشية وضحاها، ولم يبدأ إنتاج الغاز في الولايات المتحدة بالنهوض فعلياً إلا بعدها بعقد كامل، كما لم يزدهر قطاع النفط الصخري إلا بعدها بعدة سنوات أخرى.
لكن مع التثبت من أن موارد النفط الصخري يمكن إنتاجها بشكل مربح اقتصادياً، حدثت ثورة حقيقية قلبت أسواق الطاقة والاقتصادات الوطنية والجغرافيا السياسية رأساً على عقب. هناك مثال صغير لكنه مُعبر عن حجم التغيير الذي يمكن أن تحدثه تلك الاختراعات، فحالياً يمكن لناقلات الغاز الطبيعي المسال التي تعبر المحيط الأطلسي مساعدة الدول الأوروبية على التعامل مع انقطاع الغاز الروسي، ويرجع تاريخ استخراج الغاز الطبيعي بهذه التقنية إلى البئر الرابع في منشأة "إس. إتش. غريفين إستيت" في ولاية تكساس.
تطورات قطاع الطاقة
هناك تطورات أخرى بقطاع الطاقة ظهرت في عصرنا، ومنها الهندسة المعمارية الخاصة بخلايا الباعث الخامل والخلية الخلفية (PERC) المبتكرة التي توصل لها العالم الأسترالي مارتن غرين في ثمانينيات القرن الماضي، وأدت إلى تحسين كفاءة الألواح الشمسية بشكل كبير، ما سمح بتحولها في نهاية المطاف من التطبيقات الصناعية المتخصصة إلى أسطح المنازل العادية.
وبالمثل، فإن تطوير بطارية الليثيوم أيون القابلة لإعادة الشحن من قبل العلماء في شركة "إكسون موبيل" في السبعينيات مهد الطريق لصناعة السيارات الكهربائية، وتخزين طاقة تكفي لحجم الشبكة الكهربائية، وصناعة الأجهزة الذكية مثل الهواتف المحمولة واللابتوب، الذي تستخدمه حالياً على الأرجح في قراءة هذا الموضوع.
على الرغم من اختلاف هذه التطورات إلا أن هناك بعض السمات المشتركة التي تجمع بينها، حيث مثلت جميعاً ترقيات هندسية للتقنيات والعمليات الحالية بدلاً من الاختراعات التي تظهر من الصفر ونميل عادة إلى التفكير فيها، وهذا لا ينتقص من عبقريتها في شيء، فحتى الاشتعال الاندماجي الناجح الذي شهدناه للتو نتج عن التكرار اللانهائي للعملية نفسها، وسيُلهم الآن مزيداً من العلماء ليتوصلوا لكثير من التطورات.
إعادة اكتشاف الابتكارات وتأخُّرها
بدلا من بدء طريق الابتكار من الصفر، تؤكد هذه التطورات أن التقدم في قطاع الطاقة يميل عادة إلى التكرار. فقد كانت تقنية التكسير الهيدروليكي موجودة منذ عقود قبل تطبيقها الناجح في البئر الرابع بمنشأة "إس. إتش. غريفين إستيت" بولاية تكساس، حتى أن المهندسين السوفييت حاولوا تطبيق التقنية نفسها باستخدام الأسلحة النووية إلا أنهم لم ينجحوا.
لكن إصرار شركة "ميتشل إنرجي" على إنجاح هذه التقنية عبر إعادة اكتشافها مراراً وتكراراً -بدلاً من اختراع تقنية جديدة في حد ذاتها- أصبح الآن بمثابة قصة أسطورية منتشرة في أوساط العاملين بقطاع النفط الصخري. وبالمثل، أعادت التطورات في قطاعي الطاقة الشمسية والبطاريات تشكيل التقنيات الحالية بتصميمات وكيمياء جديدة، ما أسفر عن نتائج ثورية في نهاية المطاف.
يُعدّ تأخير تبني وانتشار هذه التطورات من العوامل المشتركة فيما بينها أيضاً، إذ يتطلب الأمر التقاء عدة عوامل أخرى حتى تنتشر تلك التطورات على أرض الواقع. على سبيل المثال، تطلّب انطلاق ثورة النفط الصخري ظهور أسواق مستقبلية للطاقة ومتطورة، وتبني مستثمرين، أقل تطوراً إلى حد ما، لها وكانوا على استعداد لتمويل زيادة نشاط الحفر، مع ظهور فقاعة استباقية في إنشاء محطات الطاقة التي تعمل بالغاز، ونظام بيئي قائم لإنتاج الهيدروكربونات في الولايات المتحدة وذلك من بين عدة أشياء أخرى.
على الجانب الآخر، كانت محاولات تكرار نجاح التكسير الهيدروليكي بالولايات المتحدة تحدث في أماكن أخرى، لكنها جاءت غير مكتملة، وعلى الأخص في أوروبا، مما يدل على أن الاكتشاف ليس سوى جزء من المعركة وليس بالضرورة أمراً قابلاً للنقل والتعميم.
أما بالنسبة للطاقة الشمسية والبطاريات، يمكن القول إن التقدم الذي أُحرز في المواد المستخدمة بتلك الطاقات حقق الأثر المرجو منه بفضل "تطور" آخر ظهر في ألمانيا، التي وفرت إعانات سخية لأجل الطاقة المتجددة من عام 2000 فصاعداً، ما دفع المصنعين الصينيين إلى زيادة الإنتاج وخفض التكاليف بشكل كبير.
بين الاندماج والانشطار النووي
كان آخر تطور مفاجئ بقطاع الطاقة ينطوي على شكل جديد بالفعل يمكن اعتباره بمثابة الشقيق الصغير للاندماج، وهو "الانشطار". إن آمال اليوم في الحصول على طاقة رخيصة وفيرة من دمج أكثر من نواة ذرية معاً تعكس تفاؤلاً مماثلاً ظهر تجاه تقنية الانشطار في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ومع ذلك، نحن هنا بعد 65 عاماً من تشغيل أول مفاعل لأغراض تجارية، وما زلنا نتناقش حول حجم المستقبل الذي تتمتع به طاقة الانشطار التي تم التباهي بها من قبل. ومن المفارقات هنا في الولايات المتحدة أن الجانب المأمول من هذا النقاش يتركز على استخدام مفاعلات معيارية صغيرة أو -بعبارة أخرى- صقل التكنولوجيا الحالية.
إذا كان كل هذا يبدو وكأنه عد تنازلي نحو العام الجديد، فلا ينبغي أن يكون كذلك. ضع في اعتبارك أننا قطعنا شوطاً كبيراً نحو توسيع نطاق الوصول إلى الطاقة الموثوقة، وذلك باستخدام الغاز الصخري لاستبدال الطاقة التي تعمل بالفحم -وتقييد قوة موسكو- ونشر مصادر الطاقة المتجددة بمعدلات أسرع من أي وقت مضى.
وحتى لو كانت شركة "تسلا" تنهي العام الجاري العام بانخفاض في أسهمها على ما يبدو، فإن السيارات الكهربائية تُعدّ الآن أهم مصدر للنمو في أعمال السيارات العالمية. وكل هذا يحدث بشكل محدود بسبب بعض التطورات في تخزين الطاقة، وبشكل كبير بفضل بعض العوامل التقليدية الأخرى مثل تقدم كفاءة التصنيع، والدعم المالي، والإرادة السياسية.
إمكانات غير مستغلة
لا تزال هناك إمكانات هائلة غير مستغلة في تقنياتنا الحالية، سواء كان ذلك في إعادة تصميم تعريفات الكهرباء لتشجيع الاستهلاك الأكثر ذكاءً، أو ترقية قوانين البناء التي تتطلب عزلاً أفضل والمضخات الحرارية أو –توفير تقنيات أكثر تقدماً ولكن ممكنة- في استخدام البطاريات بالمركبات الكهربائية المتوقفة كمصادر للشبكة الكهربائية.
إلى جانب الاندماج النووي، هناك أحاديث كثيرة مُثارة حول مصادر الطاقة الثورية الأخرى والتقنيات ذات الصلة، مثل الهيدروجين والتقاط الكربون مباشرة من الهواء. والهيدروجين في حد ذاته ليس تقنية جديدة بالطبع، لكن مفهوم إنتاج هذا الغاز من دون انبعاثات واستخدامه كبديل للفحم والغاز الطبيعي هو ما يثير حماس الناس.
وبينما يبدو الهيدروجين بالتأكيد كما لو أنه سيكون مفيداً في الأماكن التي لا تتوافر لها كميات كبيرة من الكهرباء -كما هو الحال في العمليات الصناعية ذات درجات الحرارة العالية- فإن الضجة الحالية المثارة حوله تبدو وكأنها مبالغ فيها. على سبيل المثال، تصطدم رؤى تشغيل أساطيل الناقلات المتخصصة التي تشحن الأشياء في جميع أنحاء العالم بطبيعة الهيدروجين الخفيفة التي تعني الحاجة إلى كثير من الرحلات المكلفة، حسبما يوضح مايكل ليبريتش، مؤسس "بلومبرغ إن إي إف".
تنافس سوقي محموم
هناك عامل مشترك آخر بين كل هذه التطورات التي يجري العمل عليها حالياً وهو التوقيت، حيث يتوقع المناصرون لهذه التطورات أنها ستتصدر المشهد بحلول منتصف القرن الجاري، بالتزامن مع أهداف الكثير من الدول للوصول إلى صافي الانبعاثات الصفرية.
مع ذلك، فالمشكلة هي أن جميع تلك التطورات تتنافس بشكل أساسي على نفس السوق. فعلى سبيل المثال، إذا أصبحت طاقة الاندماج رخيصة ومنتشرة في كل مكان، فإن السوق التي يمكن التسويق فيها لتقنيات احتجاز الهيدروجين والكربون من أي نوع ستتقلص بشكل كبير. وبالمثل، إذا تمكنّا من توظيف تقنية احتجاز الكربون بشكل جيد ومربح اقتصادياً، فما علينا وقتها سوى استخدام الغاز الطبيعي، وهو أسهل بكثير من الهيدروجين في التعامل معه ونقله.
بالوقت نفسه وفي إطار هذا السياق، سنعمل بشكل جماعي على إصلاح مصادر الطاقة المتجددة والبطاريات والتطورات الأخرى لجميع التقنيات النظيفة الحالية لبضعة عقود أخرى. وربما لا تحصل بعض الطاقات التي ستلعب دوراً كبيراً في المستقبل على الاهتمام الكافي فور الإعلان عنها.