أزمة مياه عنيفة تهدّد القيادة الإيرانية.. فما القصة؟

time reading iconدقائق القراءة - 21
جسر عمره قرون بالقرب من أصفهان كان يمر عبره نهر \"زينده رود\" - المصدر: بلومبرغ
جسر عمره قرون بالقرب من أصفهان كان يمر عبره نهر "زينده رود" - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

كان النهر المتدفق حول مدينة أصفهان القديمة هو العامل الرئيسي الذي أسهم في تحولها إلى نموذج ثقافي لمدينة كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية مرتين. أما اليوم، ومع مروره المتثاقل عبر إيران، أصبح نهر زيانده رود ساحة معركة جافة.

وفي هذا السياق، نزل آلاف الإيرانيين مجرى النهر الأجرد الشهر الماضي احتجاجاً على إدارة الدولة لموارد المياه خلال أسوأ موجة جفاف منذ عقود. وأظهرت مقاطع فيديو متداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تدخّل قوات الأمن وهي تحمل الهراوات لقمع الحشود، تاركة وجوه البعض ملطخة بالدماء، بما في ذلك امرأة في منتصف العمر ترتدي شادوراً أسود.

كما اندلعت اشتباكات مميتة هذا الصيف في محافظة خوزستان، على بُعد 180 ميلاً، إذ أدّت عقود من استغلال النفط إلى تجفيف الأراضي الرطبة وتدمير التربة التي كانت خصبة في السابق.

نقص المياه

مع اشتداد حدّة الصراع بين إيران والولايات المتحدة، تنامت مشاعر الإحباط بشأن رد فعل قادة البلاد على العقوبات المعوقة، إذ انخفض الدعم العام إلى مستوى قياسي، ويرجع ذلك جزئياً إلى قمع المعارضة.

أما الآن فتشكّل الأزمة التي تختمر منذ فترة طويلة حول ندرة المياه، نتيجة عقود من التوسع الصناعي غير المنضبط، تحدياً يمكن أن يطغى على معركة طهران مع واشنطن حول كيفية إحياء الاتفاق النووي لعام 2015.

تعليقاً على الموضوع، تقول طاهرة، وهي ناشطة بيئية شاركت في احتجاجات أصفهان وطلبت عدم استخدام اسمها الكامل خوفاً من الانتقام: "تزداد مياه الشرب لدينا سوءاً، والمزارعون يفقدون مصادر رزقهم. لا أستطيع أن أنسى رائحة النسيم التي كانت تفوح من النهر في أثناء سيري بجانبه في طريقي إلى المدرسة وأنا طفلة. أما الآن فليس بوسعي سوى أن أستذكر هذه الرائحة في أحلامي".

وفي الحقيقة، يكشف تغير المناخ عن نقاط الضعف في الاقتصاد المبني على استخراج النفط والممارسات الزراعية غير المستدامة. ومع ارتفاع حرارة الكوكب خلال منتصف القرن، من المرجّح أن تشهد إيران فترات أطول من درجات الحرارة المرتفعة للغاية، بالإضافة إلى فترات الجفاف والفيضانات الأكثر تكراراً، وفقاً لدراسة أُجريت عام 2019 ونُشرت في المجلة العلمية "نيتشر" (Nature).

أزمة الجفاف

هذا الواقع ينطبق على عديد من الأماكن، إلا أن التأثير سيكون حاداً بشكل خاص في إيران، إذ كتب الباحثون: "دون تدابير التكيف المدروسة قد يواجه بعض أجزاء البلاد صلاحية محدودة للسكن في المستقبل".

ما من شك في أن أخبار أزمة المياه في إيران منتشرة في كل مكان، إذ تصدر الوكالات الإعلامية التي تديرها الدولة عناوين الصحف اليومية حول الانخفاضات الهائلة في هطول الأمطار، وانهيار السدود، ونضوب مخازن المياه الجوفية والسطحية.

وقد حذّرت وكالة أنباء "فارس" شبه الرسمية من أن أكثر من 300 بلدة ومدينة تواجه الآن ضغطاً مائياً حاداً. كما يقدّر خبراء الأرصاد الجوية التابعون للحكومة أن 97% من البلاد قد تأثرت بالجفاف، فيما يقول أحد الأكاديميين إنّ 20 مليون شخص أُجبروا على الانتقال إلى المدن لأن الأرض جافة جداً للزراعة.

كذلك سجّل عديد من السدود مستويات قياسية من التبخر هذا العام، مما تسبّب في انقطاع التيار الكهربائي في ذروة أحد أكثر فصول الصيف حرارة على الإطلاق. كما انخفض تساقط الثلوج الذي يمثل 70% من المياه في نهر زيانده رود ما يقرب من 14% بين عامَي 2017 و2020.

تغير المناخ

وفي الواقع، يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم عواقب قرارات الحكومة السابقة، إذ أدى الضغط من قِبل السياسيين المحليين بعد الثورة إلى تحويل أصفهان إلى مركز رئيسي لصناعة الصلب، مما تسبّب في زيادة التلوث وإرهاق مواردها المائية.

ثم بدأت مياه نهر زيانده رود في الاختفاء قبل عقدين من الزمن بعد أن حوّل المهندسون تدفقاته لدعم المنشآت الصناعية خارج مدينة صحراوية أخرى.

حتى مع تضاؤل ​​الإمدادات، يواصل الإيرانيون الذين يمكنهم الوصول إلى المياه الإفراط في الاستهلاك، إذ يستخدم مقيم في طهران كمية من المياه توازي ثلاثة أضعاف ما يستخدمه شخص في هامبورغ بألمانيا.

وحتى في خضمّ الجفاف، لا تزال الحدائق والمتنزهات العامة والمناظر الطبيعية في العاصمة الإيرانية تُروى جيداً. ومن الشائع رش الأرصفة لتبريدها.

آبار جوفية غير قانونية

فضلاً عن ذلك، لجأ الناس أيضاً إلى حفر الآبار بشكل غير قانوني للبحث عن المياه التي يمكنهم الحصول عليها، حتى مع ظهور مزيد من الآبار القانونية على الأراضي المعتمدة،

إذ قال مسؤول سابق في شركة المياه الإقليمية التي تديرها الدولة لوكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الحكومية إنّ المزارعين في أصفهان حفروا أكثر من 10 آلاف بئر غير قانونية في السنوات الأخيرة.

من جانبها تقول سوزان شمير، الأستاذة المشاركة في قانون المياه والدبلوماسية في "المعهد الدولي للهندسة الهيدروليكية والبيئية للبنية التحتية– معهد التثقيف في مجال المياه" في هولندا، إنّ تطبيق سياسات تقنين المياه ووقف الحفر غير القانوني قد يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات.

وأضافت: "هناك 130 ألف بئر معروفة وغير مشروعة، ولكن لا تُبذل جهود لإغلاقها، والسؤال هو: ما البدائل؟ وما الآثار الاجتماعية؟".

انبعاثات الكربون

كما أن لدى إيران القليل من الشهية، وهي سادس أكبر منتج في العالم لثاني أكسيد الكربون المسبّب للاحتباس الحراري، للانضمام إلى الجهود العالمية للحد من الانبعاثات أو الاستثمار في تدابير الحفاظ على المياه، إذ يعتمد الاقتصاد على إنتاج النفط والصناعات الثقيلة من أجل البقاء.

وفي حين يقبل معظم المسؤولين بوجود مشكلة، فإن بعض رجال الدين الأكثر نفوذاً صاغوا الاضطرابات الأخيرة كنظرية مؤامرة أو ادّعوا أن نقص المياه لا يمكن إصلاحه إلا من خلال صلاة الاستسقاء.

وفي مقابلة متلفزة في 5 ديسمبر، أقرّ الرئيس إبراهيم رئيسي بأزمة المياه وقال إنّ المسؤولين تلقوا تعليمات "للوصول إلى لبّ المشكلة والعمل على حلها".

وقد أُنشِئ عديد من اللجان الحكومية في هذا الصدد. كما قال رئيسي: "إلى جانب الصلاة، علينا أيضاً أن نضع الخطط وننفذها، فهناك مشكلات ولكنْ هناك حلول أيضاً، إذ لم نصل إلى طريق مسدود". ولم تنشر الحكومة أي خطط مفصّلة بعد.

توسع زراعي غير مستدام

من جانبه، يرجع سهيل شريف، مُزارع فستق في محافظة كرمان الوسطى، جذور الأزمة إلى السياسات التي نُفّذت بعد الثورة الإسلامية عام 1979، إذ أرادت القيادة الدينية الجديدة لإيران، المعزولة حديثاً عن الغرب والتي تواجه غزو العراق، تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي. وشجّعت الأُسَر الريفية على بدء الزراعة، وزوّدتها بالمياه المدعومة بشكل كبير، إذ أعقب ذلك فورة في بناء السدود.

ويقول شريف: "قال القادة الجدد إن الولايات المتحدة تريد أن تجعلنا نعتمد على وارداتها من القمح، وأخبروا الجميع أنه يمكنهم حفر الآبار". وهو يُقدّر أن 95% من الآبار التي يزيد عددها على ألف بئر في حيّه قد حُفِرت بإذن من الحكومة، بغضّ النظر عن موقعها أو تأثيرها في الموارد المائية.

يُشار إلى أن مزرعة شريف تقع على أرض تتمتع بوصول جيد للمياه العذبة، لكنّ المزارعين الآخرين لم يحالفهم الحظ، إذ وجد بعض جيرانه الذين يملكون أراضيَ قريبة من السهل الصحراوي أنه كلما حفروا أعمق من أجل الآبار، أصبحت المياه أكثر ملوحة وغير صالحة للشرب أو لزراعة المحاصيل.

شريف هو أيضاً أحد المزارعين النادرين الذين اعتمدوا طرق الري بالتنقيط لتوصيل المياه مباشرة إلى أشجاره عندما تحتاج إليها فقط، في حين أصبح معظم أقرانه معتمدين على إغراق حقولهم أو استخدام أنظمة الرش المهدرة (فشلت حملة حكومية في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في تشجيع الري بالتنقيط).

ويضيف شريف: "المشكلة في الأساس تتعلق بكيفية إدارة الاقتصاد، إذ لا يمكنك تشجيع الناس على النظر إلى المياه على أنها بركة كبيرة متاحة للاستخدام من قِبل الجميع، ثم تخبرهم أن عليهم التعامل معها كمورد ثمين".

شماعة العقوبات الأمريكية

وفي مواجهة انتقادات لسياساتها المائية، لدى القيادة الإيرانية رد مألوف وهو إلقاء اللوم على العقوبات الأمريكية.

ففي مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ 2021 (COP26) الذي عُقِد في جلاسكو، جادل علي سالاجي، نائب الرئيس للشؤون البيئية، بأن القيود منعت إيران من اتخاذ خطوات لحماية البيئة، إذ قالت الحكومة إنها ستخفّض الانبعاثات بنسبة 4% بحلول عام 2030 من "العمل كالمعتاد" -وهو هدف يُترجم بالفعل إلى خمسة أضعاف مستويات التسعينيات- ويمكن أن تستهدف خفضاً بنسبة 12% في حال رُفِعت العقوبات.

صحيح أن العقوبات كان لها بعض التأثير، إذ وقفت عديداً من المشاريع الأوروبية التي كانت تهدف إلى تطوير أنظمة إدارة المياه في إيران، بما في ذلك مشروعان مدعومان وممولان من قِبل وكالة التنمية الألمانية، وفقاً لشماير من المعهد الدولي للهندسة الهيدروليكية والبيئية للبنية التحتية.

وفي عام 2014 جرى حظر أكثر من 7.6 مليون دولار من الأموال المخصّصة من جانب المرفق البيئي العالمي لحماية التنوع البيولوجي.

ومع ذلك، كلما خفّت وطأة العقوبات، كما حدث في عام 2016، ركّز صانعو السياسات على تحديث صناعة النفط باعتبارها أسرع وسيلة لدعم النمو.

"اقتصاد المقاومة"

وفي أوقات الاضطرابات الاقتصادية، تتمثّل إحدى أسهل الطرق لتجنب الاضطرابات في خلق فرص عمل من خلال إطلاق مشاريع بنية تحتية كبيرة، مثل السدود والمصافي، إلا أن تكاليف نهج "اقتصاد المقاومة" هذا غالباً ما يتحملها المواطنون الذين يفقدون صبرهم، خصوصاً أولئك الذين يعيشون في المناطق الحدودية الفقيرة والذين هُمّشوا تقليدياً بسبب عرقهم أو دينهم.

تعليقاً على الموضوع، تقول شيرين حكيم، الباحثة في مركز السياسة البيئية في إمبريال كوليدج بلندن: "من خلال إعطاء التنمية المتسارعة الأولوية بهدف إثبات تحديها للإكراه الغربي من جهة، والاكتفاء الذاتي كهدف من أهداف النظام من جهة أخرى، لجأت إيران إلى استخدام موارد عالية للحفاظ على اقتصادها المتضائل، ولا يمكن إلقاء اللوم على العقوبات في هذه النتيجة، ولكن من الواضح أنها عملت كمحفز في إحداث صعوبات إدارية".

ضغوط ضد دعاة حماية البيئة

يحذّر كافيه مدني من مخاطر سوء إدارة نهر زيانده رود منذ ما يقرب من عقدين، إذ يتذكّر النائب السابق لوزير البيئة الإيراني، الذي خدم في عهد الرئيس المعتدل السابق حسن روحاني، نموذجاً طوره في أثناء دراسته في السويد في عام 2005. وقد أُنشِئ هذا النموذج بهدف تقييم الحلول المحتملة للتخفيف من جفاف النهر، وأظهر أنه حتى تحويل المياه من المقاطعات المجاورة لن يساعد.

ويقول: "كان الأمر صادماً بالنسبة إليّ، فقد شغّلت النموذج عدة مرات معتقداً أن هناك خطأ ما، حتى أدركت أن مزيداً من إمدادات المياه سيعزز مزيداً من النمو"، ويزيد الطلب ويخلق "حلقة مفرغة ستؤدي إلى تفاقم الوضع على المدى الطويل".

لكن لم يستمع أحد إلى مدني الذي غادر إيران في أبريل 2018 بعد أن اعتُقِل لعدة مرات من قِبل المخابرات التي كانت تشكّ بشدة في المسؤولين الذين لهم صلات خارجية، وفي جهود روحاني لتحسين علاقات إيران مع الغرب. وتعاملت الجهات الحكومية مع البيئة -التي كانت ذات يوم قضية مجتمع مدني حميدة- كشيء مشابه لتهديد الأمن القومي. أما الآن فيعمل مدني أستاذاً باحثاً في سيتي كوليدج في نيويورك.

كما تعرّض دعاة آخرون للضغط. ففي أوائل عام 2018، قُبِض على تسعة من دعاة حماية البيئة ووُجّهت إليهم تُهَم التجسّس وانتهاك الأمن القومي، وهو اتهام غالباً ما يُوجَّه ضد مزدوجي الجنسية أو الإيرانيين الذين تربطهم صلات شخصية بالغرب. وأنكروا جميعهم التهم الموجهة إليهم، في حين تُوفي أحد المعتقلين، الأستاذ البارز كافوس سيد إمامي، في السجن، إذ قال القضاء الإيراني إنه انتحر، إلا أن عائلته رفضت بشدة هذا الادعاء.

تدمير الأراضي الخصبة

أما أيوب، وهو ناشط يبلغ من العمر 30 عاماً من خوزستان، فيقول إنّ ندرة المياه تُضاعِف المظالم القائمة، إذ كانت المحافظة الغنية بالنفط موقعاً لأعنف حملة قمع في نوفمبر 2019 واجتاحت المظاهرات البلاد، في حين لا تزال الاحتجاجات تحدث بشكل متكرّر في ظل استياء السكان من القوى المحلية والأجنبية التي أتت لاستخراج النفط الخام المخفي في أعماق أراضيهم.

ويقول أيوب إن هذه العملية دمرت المستنقعات والتربة الخصبة مع استبعاد السكان المحليين من الأرباح. وامتنع عن ذكر اسمه كاملاً خوفاً من الانتقام.

من جانبه يعترف أحمد ميداري، نائب وزير الرعاية الاجتماعية الإيراني، بحدوث زلات. وقد قال للتليفزيون الحكومي إنّ الحكومة ارتكبت "أخطاء كبيرة" لأنها أرادت تطوير حقول نفط أرخص "مع القليل من الاهتمام بالبيئة". وأضاف أن السياسيين المحليين يحصلون على تصاريح من وزارة البيئة في طهران من خلال الضغط والمحسوبية حتى يتمكنوا من تجفيف أجزاء كبيرة من الأراضي الرطبة في حور العظيم من أجل حفر آبار النفط.

قمع الاحتجاجات المحلية

وفي شهر أبريل 2019، غمرت السيول العديدة عشرات القرى ودمّرت مئات المنازل، إذ يرجع ذلك جزئياً إلى أن الأراضي الرطبة مثل حور العظيم لا تستطيع امتصاص مياه الأمطار كما اعتادت.

وقد شارك عديد من العائلات الريفية التي خسرت محاصيل القمح في تلك الكارثة في الاحتجاجات هذا الصيف، عندما وصل الجفاف إلى خوزستان. وقد قُتل تسعة أشخاص على الأقل عندما فتحت قوات الأمن النار على المتظاهرين، حسب منظمة "هيومن رايتس ووتش".

يُشار إلى أنه قد لا تُعاد تعبئة مخازن المياه الإيرانية. وحسب مدني فإن البلاد بحاجة إلى إصلاح، ليس فقط في مجال سياسات إدارة المياه وإنما في الاقتصاد ككل.

كما يرى أن الحكومة يجب أن تستثمر في الوظائف التي ستمنح المجتمعات الزراعية بدائل فعالة، وتزيد الوعي بالتحديات البيئية، وتُحدِّث بشكل كبير القطاع الزراعي.

كما يضيف بأن إيران "في حالة إنكار، إذ تُواصِل التفكير أن بوسعها التخفيف من المشكلة أو التهرّب منها بدلاً من التكيف مع الواقع".

تصنيفات