بلومبرغ
بدا عمدة لندن، اللورد وليام راسل، في مزاج احتفالي ليلة الأربعاء، وأشاد في كلمة إلى 150 ضيفاً في قمة المناخ الذين قضوا ليلة على ضفاف نهر كلايد في جلاسكو، بالصناعة المالية، مشيراً إلى أنَّ التزام البنوك بمكافحة تغير المناخ، قد تأكَّد اليوم.
لكن بعيداً عن بطاقات التعريف المصنوعة من الخيزران، ومشهد المصرفيين على الدراجات الهوائية ضمن محادثات قمة المناخ "كوب 26" (COP26) التي عقدت في أكبر مدن اسكتلندا، يظل السؤال الذي يطرح نفسه هو، ما إذا كانت لدى البنوك التي اعتادت على تحقيق أرباح بالمليارات من صفقات الوقود الأحفوري، إرادة قوية للتوقف عن ذلك.
قالت كاثرين هوارث المديرة التنفيذية لـ"شير أكشن" (ShareAction)، المنظمة غير الربحية المتخصصة في حملات وضع معايير الاستثمار المسؤول، إنَّ "الاختبار الحقيقي للمؤسسات المالية في هذا الشأن هو: هل هي على استعداد للتراجع؟ فهذا يمثل ركيزة أساسية مهمة للمجتمع المالي".
اقرأ أيضاً: تحالف "جلاسكو المالي" يقود معركة التغير المناخي مُتسلِّحاً بـ130 تريليون دولار
130 تريليون دولار
التزمت البنوك وشركات الاستثمار والتأمين التي يبلغ إجمالي أصولها 130 تريليون دولار، بالتخلص من الكربون في أعمالها بحلول منتصف القرن. لقد كان الحصول على هذا العدد الكبير من الموقعين بمثابة تتويج للحملة التي قادها محافظ "بنك إنجلترا" السابق، مارك كارني، الذي أمضى الجزء الأكبر من العام في جذب المصرفيين عبر القارات، على أمل الكشف عن رقم ضخم في قمة "كوب 26"، وذلك بصفته الرئيس المشارك لـ"تحالف جلاسكو المالي من أجل صافي انبعاثات صفري".
يقول مايكل آر بلومبرغ، مالك ومؤسس الشركة الأم "بلومبرغ نيوز"، والرئيس المشارك لـ"تحالف جلاسكو المالي من أجل صافي انبعاثات صفري"، إنَّه وفقاً لشروط التحالف، يجب على الموقعين الالتزام بإزالة الكربون من عملياتهم بحلول عام 2050، واستخدام المبادئ التوجيهية المستندة إلى العلم، وتقديم الأهداف المؤقتة لعام 2030.
تضم قائمة أعضاء التحالف، أكبر الأسماء في وول ستريت، ومدينة لندن: "جيه بي مورغان"، و"سيتي غروب"، و"مورغان ستانلي"، و"بلاك روك"، و"إتش إس بي سي هولدنغ"، إذ يمثل إجمالي أصول الأعضاء معاً 40% من الأصول المالية العالمية. لكن القائمة خلت من أكبر 3 بنوك في العالم، وكلها صينية، ومن كبار ممولي قطاع الفحم.
اقرأ المزيد: البنوك الأوروبية تبدأ ربط أجور عامليها بأهداف التغير المناخي والاستدامة
ترى سينثيا كوميس، مديرة التخفيف من آثار المناخ بالقطاع الخاص في "معهد الموارد العالمية"، أنَّ الالتزامات التي وافق عليها أعضاء "تحالف جلاسكو المالي من أجل صافي انبعاثات صفري" سيكون من الصعب ضبطها، فضلاً عن أنَّ الإعداد بكامله تطوعي.
تشير كوميس إلى أنَّه بالنسبة إلى المستثمرين وغيرهم ممن يحرصون على تتبع مدى نجاح البنوك في الوفاء بتعهداتها تجاه الالتزام بالانبعاثات الصفرية الصافية؛ فإنَّ هناك بعض المؤشرات الرئيسية التي يجب تتبعها.
قالت كوميس: "أحد المؤشرات المهمة التي يجب النظر إليها هو معدل التمويل المستثمر في الوقود الأحفوري، مقابل التدفقات الرأسمالية الموجهة إلى تمويل المناخ. فإذا نظرت الآن ستجد معدل التمويل الذي يذهب إلى الوقود الأحفوري، أكبر من ضعف رأس المال الذي يذهب إلى تمويل المناخ".
التمويل البني
قدمت البنوك تسهيلات لتمويل الوقود الأحفوري منذ اتفاقية باريس عام 2015 بما يقارب 4 تريليونات دولار، وحصلت على إيرادات ورسوم من تلك العمليات تعادل 17 مليار دولار، وفقاً للبيانات التي جمعتها بلومبرغ. وفي المقابل، قدمت تمويلات بنحو 1.5 تريليون دولار للاستثمارات الخضراء خلال الفترة ذاتها.
اقرأ أيضاً: بعد سنوات من الرفض.. بوتين يقتنع بأخذ مخاطر المناخ على محمل الجد
خروج متأنّ
رتبت البنوك خلال العام الحالي ما يقرب من 460 مليار دولار فقط من السندات والقروض لقطاعات النفط، والغاز، والفحم، من بينها بنوك ضمن "تحالف جلاسكو المالي من أجل صافي انبعاثات صفري"، والتي أكَّدت أنَّها لن تخرج بشكل مفاجئ من ذلك المجال.
بلغت إيرادات "جيه بي مورغان" الذي انضم إلى التحالف الشهر الماضي فقط نحو 985 مليون دولار من الإيرادات منذ نهاية عام 2015 كعوائد لترتيبه إصدار سندات وقروض لقطاعات النفط والغاز والفحم. وفي المقابل، بلغت إيرادات البنك نحو 310 ملايين دولار من التمويل الأخضر.
كذلك أوضح "غولدمان ساكس" الذي وقَّع مؤخراً عدم توقفه عن العمل مع قطاعات الوقود الأحفوري، محذِّراً من أثر ذلك التوقف في تسارع وتيرة التضخم.
قال ديفيد سولومون الرئيس التنفيذي لـ"غولدمان ساكس" الشهر الماضي: "علينا الموازنة بين السياسة العامة الجيدة، والآثار قصيرة المدى، وهذا ما يعنيه التحول". وتتشابه تلك التصريحات مع تعليقات بيل وينترز الرئيس التنفيذي لـ"ستاندرد تشارترد" الذي انتقد "الإجراءات البسيطة، مثل لا مزيد من الوقود الأحفوري. إنَّها ليست عملية".
اقرأ المزيد: مستثمرون بقوة 29 تريليون دولار يطالبون بأهداف مناخية تستند للعلم
200 تريليون
حتى لو بدأ جميع أعضاء "تحالف جلاسكو المالي من أجل صافي انبعاثات صفري" الابتعاد عن التمويل البنّي، سيكون هناك الكثير من رأس المال الذي ينتظر لملء الفراغ. ففي حين انضم إلى التحالف 450 مؤسسة، هناك ما يفوق هذا العدد من المؤسسات التي لم تنضم إلى التحالف، إذ يوجد نحو 200 تريليون دولار من الأصول المالية خارج التحالف. وبالإضافة إلى الصين، نجد بنوك روسيا والهند خارج القائمة.
كذلك، لم تنضم إلى التحالف آلاف شركات التمويل الأصغر حجماً، والتي لا تلتزم بالاستجابة للمستثمرين ذوي العقلية الخضراء، أو الجهات التنظيمية للأسواق المالية.
أعرب لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك" يوم الثلاثاء، عن انزعاجه من ذلك الانفصال، وقال: "نشهد الآن أكبر عملية تبادل أصول في أسواق رأس المال في حياتنا"، وهي قيد التنفيذ، ‘ذ يتم نقل ملكية الأصول الهيدروكربونية العامة لتصبح خاصة. وأضاف فينك: "هناك تحرك أكبر للابتعاد عن الأصول الهيدروكربونية لتصبح مملوكة للقطاع الخاص، أكثر من أي وقت مضى. وهذا لا يغيّر هدف صافي الانبعاثات الصفرية، بل يقتصر على تحسين الشكل، مما يعتبر غسيلاً أخضر".
أظهر مسح أجرته "جمعية إدارة الاستثمار البديل" شمل 100 شركة، أنَّ الشركات التي تتطلع لدمج الاستدامة في ممارساتها الاستثمارية، قد تكون على بعد سنوات من دمجها حقاً في أنظمتها. فعلى سبيل المثال، نجد معظم صناديق التحوط تؤكد طلب المستثمرين لذلك، مع ضغوط الجهات التنظيمية، مما يعني توقّعها أن تصبح معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية حاضرة في استثماراتها، فضلاً عن أنَّها جزء حيوي من أعمالها في المستقبل. وفي الواقع نجد أنَّ أكثر من ثلثي تلك الصناديق، ليس لديها متخصص في إدارة الموارد البشرية.
يثير مبلغ 130 تريليون دولار لأعضاء التحالف، العديد من التساؤلات؛ لأنَّ تلك الأموال ليست سائلة، بل عبارة عن إجمالي أصول يتم استثمارها بالفعل. والرقم يعني أنَّ البنوك بحاجة إلى تصفية أصولها في الحال.
يشير مصدر مطلع على طريقة حساب التحالف لهذا الرقم، والذي طلب عدم الكشف عن هويته لأنَّ الأمور داخلية، إلى وجود ازدواجية في حسابه، لأنَّ التحالف لم يستثنِ قيمة أصول بعض الشركات التابعة للشركات الأم التي تم حساب أصولها بالفعل. وبشكل آخر؛ سيقوم التحالف باحتساب أصول شركات تابعة أكثر من مرة.
زخم متزايد
برغم الانتقادات واتفاق المتشككين على أنَّ مبلغ 130 تريليون دولار رقم كبير جداً
لا يمكن تجاهله، إلا أنَّ هناك تزايداً في الزخم، فقد أظهرت بيانات بلومبرغ، أنَّ التمويل الإجمالي للمشاريع الخضراء هذا العام تجاوز تمويل الوقود الأحفوري للمرة الأولى.
يقول هيستر وايت رئيس إدارة علاقات العملاء، ورئيس لجنة التنوع والشمول في "بيل هانت" (Peel Hunt)، إنَّ هناك تزايداً في الطلب على الاستثمارات المستدامة من عملاء التجزئة والمؤسسات على حد سواء. كما يتزايد تجنب الكثير من المستثمرين الشركات المدرجة ذات الأنشطة المناخية السلبية.
قال هوو فان ستينيس، المحلل المصرفي المخضرم، والمستشار السابق لـ"بنك إنجلترا"، والذي يقود توجه "يو بي إس غروب" (UBS Group) نحو التمويل المستدام: "لقد وصلنا إلى نقطة تحول في التمويل هذا الأسبوع. بعد مغادرة الأطراف للمؤتمر، سينصب التركيز على الحصول على البيانات، وتحديد المعايير الصحيحة، والمشاركة مع الشركات في تمويل الانتقال إلى الطاقة النظيفة".
قال فينك خلال حلقة نقاشية في القمة يوم الأربعاء، إنَّ الأمر لن يكون سهلاً، و إنَّ "تحديد رأس المال المستثمر سيكون أصعب بكثير" من تأمين الالتزامات.
لكن بعد انتهاء الجلسة، وغروب شمس "يوم التعهدات المناخية"؛ حان وقت الاحتفال، فقد انتظر عازف الساكسفون الذي يرتدي القبعة واقفاً بين الأجنحة، وهو يترقب التعليمات.
وقتها قال راسل بعد ختام تصريحاته: "أعد تشغيل الموسيقى.. استمتعوا".