بات توجيه أصابع الاتهام إلى الرأسمالية، بشأن تدمير كوكب الأرض، الشغل الشاغل للكثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي وفي العديد من المؤلفات والكتب، حتى أيد المستثمر المعروف "جيريمي غرانثام"، الذي نادرًا ما يعتبر راديكاليًا في أحكامه، ذلك الاتهام عام 2018.
وتعتبر الفكرة الأساسية في اتهام الرأسمالية، أن الدافع لكسب الأرباح أدى بالقطاع الخاص إلى زيادة انبعاثات الكربون في الهواء بمنتهى الإهمال.
وفي حين يعتقد العديد من الاقتصاديين، وبعض النشطاء في مجال المناخ، أن الطريقة الأفضل للتعامل مع هذه المسألة تكمن في تعديل حوافز السوق عن طريق فرض الضرائب على الكربون، يعتقد نشطاء آخرون أنه لا يمكن التعامل مع الانبعاثات دون إعادة بناء الاقتصاد وفق أسس مدروسة ومخطط لها جيدًا.
ضرائب الكربون هل تكفي؟
إن التهديد الذي يترصد بالمناخ مُلح جدًا، بحيث يكون من غير المتوقع أن تكفي الضرائب على الكربون وحدها لحل المشكلة، لكن الاشتراكية البيئية لن تكون حلًا كافيًا للتعامل مع هذا التهديد، فليس من السهل أبدًا تفكيك نظام اقتصادي كامل، بل إن ذلك سيتسبب- على الأغلب- في نزاعات مسلحة واضطرابات سياسية كبرى، إلى حد يمكن معه للاشتراكيين أن يتخلوا عن تشدّدهم تجاه استخدام الوقود الأحفوري، عندما تعم الفوضى، في محاولة الانتصار في خضم هذه النزاعات، وذلك إما لدعم جهودهم الحربية أو ضمان عدم انقلاب المواطنين عليهم.
لعل أحد أهم الأمثلة على ذلك هو الاتحاد السوفيتي، والذي حاول تغيير شكل اقتصاده بالقوة- على مدى عقود- وسط معارضة الغرب، متسببًا بتدهور بيئي شديد، بحيث يكون المناخ العالمي اليوم في سباق مع الزمن، لإصلاح الضرر الذي لحق به منذ ذلك الحين.
وحتى في غياب النزاع الدولي، فلا يوجد ما يضمن أن يحد تقليل الاعتماد على الرأسمالية من تأثيرنا على البيئة، فمنذ أن تولى القائد الاشتراكي "إيفو موراليس" الحكم في بوليفيا، على سبيل المثال، تحسن مستوى المعيشة بشكل كبير بالنسبة للمواطنين العاديين، وهو أمر رائع، غير أنه جاء على حساب زيادة انبعاثات الكربون.
في حين تمكنت الولايات المتحدة، بنظامها الرأسمالي، من تقليل انبعاثات الكربون لكل فرد- بعض الشيء- خلال الفترة ذاتها (آخذين في الاعتبار أن الولايات المتحدة دولة غنية يفوق المستوى الذي تطلقه من الانبعاثات مستوى دولة مثل بوليفيا).
حياة رغدة للمواطنين أم إنقاذ المناخ؟
إذًا فالفكرة العامة تكمن في الشبه بين بوليفيا والدول المتقدمة، الأكثر رأسمالية، من ناحية النمو الاقتصادي وانبعاثات الكربون، ما يعني أنه إذا ما عرض على القادة الاشتراكيين الخيار بين إتاحة حياة رغدة لمواطنيهم أو المساعدة في إنقاذ المناخ، فإنهم سيفضلون الخيار الأول على الأرجح، بحيث تختار الصين والولايات المتحدة- الدولتان الأكثر تسببًا في انبعاثات الكربون عالميًا- على الأغلب المعادلة السياسية ذاتها، نظرًا للصعوبات التي سيواجهها الحكام المطالبون بتخفيض مستوى المعيشة، التزامًا بالأهداف البيئية للبقاء في السلطة.
أفضل أمل للمناخ يكمن في تقليل المفاضلة بين الرخاء المادي وانبعاثات الكربون، الأمر الذي يتطلب تقنيات مثل الطاقة الشمسية والنووية وطاقة الرياح وتخزين الطاقة والسيارات الكهربائية، وغيرها من أنواع المركبات، وإنتاج الإسمنت بطرق لا تتسبب في انبعاث الكربون، وما إلى ذلك، إذ ترتكز أفضل الخطط السياسية- التي تهدف للحفاظ على المناخ- على التحسينات التكنولوجية بشكل أساسي.
الطاقة المتجددة تزاحم الوقود الأحفوري
تظهر التطورات الأخيرة احتمال نجاح النهج الذي يعتمد على التكنولوجيا، فقد حلل تقرير نشرته مؤسسة بلومبرغ نيو إنيرجي فاينانس نحو 7 آلاف مشروع في 46 دولة، وخلص إلى أن الانخفاض الكبير في تكاليف الطاقة الشمسية التي تعتمد على الألواح الشمسية، وفي تكاليف طاقة الرياح وبطاريات الليثيوم-أيون؛ جعل الطاقة الكهربائية المتجددة على مستوى المرافق تنافس الوقود الأحفوري، لا سيما في ظل انخفاض تكاليف الطاقة بنسبة 76 بالمئة منذ عام 2012، نظرًا لاتباع طريقة التخزين قصير الأجل في البطاريات.
يشير "رامز نعام"، الباحث في مجال الدراسات المستقبلية، والكاتب في مجال الطاقة؛ إلى أهمية هذه التطورات، مبينًا الفرق المهم بين أن تكون الطاقات المتجددة رخيصة- بما فيه الكفاية- للتغلب على أسعار إنشاء محطات الوقود الأحفوري الجديدة، وبين أن تكون غير باهظة بالمقارنة مع أسعار المحطات القائمة أصلًا، علمًا بأن الحالة الأولى هي السائدة في كل مكان بالعالم، كأحد أسباب انخفاض عدد المحطات التي تعتمد على الفحم حول العالم بنسبة 84 بالمئة منذ عام 2015.
لكن عندما يصبح من الأرخص إزالة المحطات التي تعتمد على الوقود الأحفوري وبناء أخرى تعتمد على الطاقة المتجددة مكانها، سيسمح ذلك بأن تبدأ أنواع الطاقة المتجددة بالحلول محل الفحم والغاز بشكل أسرع بكثير، ويذكر "نعام" بعض الأمثلة عن مدن في ولايتيّ فلوريدا وإنديانا التي نجحت في ذلك، مشيرًا إلى توقعات في هذا المجال تتنبأ بالفاعلية الاقتصادية لهذا الأمر في كل مكان في مرحلة ما خلال العقد القادم.
مصادر انبعاثات الكربون
ليست الطاقة الكهربائية المصدر الوحيد لانبعاثات الكربون حتمًا، فهناك وسائل النقل وعمليات التصنيع (لا سيما تصنيع الفولاذ والإسمنت) وتدفئة المنازل والمكاتب، وكذلك الزراعة، غير أن التقدم السريع في مجال تكنولوجيا الطاقة الشمسية يمثل انتصارًا كبيرًا في الصراع القائم في مواجهة التغير المناخي، نظرًا لتوفيره الطاقة الكهربائية لجميع الناس حول العالم دون التسبب في رفع درجة حرارة كوكب الأرض.
فكيف تحقق هذا الانتصار إذًا؟ جرى ذلك عن طريق دمج السياسات الحكومية الذكية مع القطاع الخاص. فقد قيّم الباحثون "جوكسين كافلاك" و"جيمس مكنرني" و"جيسيكا ترانسيك"، من "معهد ماساتشوستس للتقنية"، في دراسة نشروها مؤخرًا؛ العوامل التي تسببت في انخفاض سعر الطاقة الشمسية بين عامي 1980 و2012.
التمويل الحكومي
وخلص الباحثون الثلاثة إلى أن التمويل الحكومي للأبحاث وعمليات التطوير بين عاميّ 1980 و2001 كان العامل الأساسي في خفض الأسعار، بينما كانت وفورات الحجم التي زادت بفضل زيادة مستوى إنتاج القطاع الخاص- فضلًا على الدعم الحكومي، الذي ساعد أيضًا في زيادة الحوافز لرفع الإنتاج- العامل الأكبر بين عاميّ 2001 و2012.
يتضح بذلك أن لكل من الحكومة والمؤسسات التي تسعى إلى الربح دورها الخاص، فتقوم الحكومة بتمويل عمليات تطوير الابتكارات التكنولوجية في مراحلها المبكرة، ومن ثم دفع القطاع الخاص لتبنيها، بينما تتنافس الشركات الخاصة على تمويل أساليب أرخص لتنفيذ هذه الابتكارات. وهكذا، باتت هذه العملية أقرب لأن تكون نظامًا اقتصاديًا صناعيًا بيئيًا لا نزعة اشتراكية بيئية، وعلى ما يبدو، هذا هو النظام الأقدر على التغلب على التغير المناخي من غيره من الأنظمة.