تستأجر شركة "سيمي كونداكتور مانوفكتشورينغ" (TSMC)، وهي شركة أشباه الموصلات التايوانية المتفوقة عالمياً، سفينة حاويات لنقل قطع من المعدّات إلى مصنعها الجديد في أريزونا. قد تبشر هذه الخطوة بعصر جديد من الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، لكن فقط إذا لعبت أمريكا أوراقها بشكل صحيح. سيكون المفتاح هو رؤية سلاسل التوريد العالمية فرصةً، لا تهديداً.
لعقود من الزمان، كان موقف الولايات المتحدة تجاه سلاسل التوريد العالمية في وضعية دفاعية. ونظرًا إلى أن الإنترنت والاقتصاد العالمي الأكثر انفتاحاً سهّلا الاستعانة بمصادر خارجية للإنتاج، فقد نقل المصنّعون الأمريكيون مصانعهم إلى الخارج، أولاً إلى أماكن مثل المكسيك وجنوب شرق آسيا، ثم بعدها حدث تدفق هائل إلى الصين.
كانت تلك الصدمة الأخيرة هي التي أضرت بطريقة خاصة بوظائف عديد من عمّال المصانع الأمريكيين. لقد تركت هذه التجربة السلبية آثاراً مُضرة في جيل كامل، وخلقت تصوراً شائعاً بأن التجارة وسلاسل التوريد والاستثمار الأجنبي كانت جميعها مجرد طرق يستخدمها قادة الشركات للتخلي عن العمال الأمريكيين الذين يتقاضون أجوراً جيدة، مقابل سوق عمل أرخص في الخارج.
كان ذلك هو الموقف الذي تسبب في إفساد اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي.
لكن مصنع أريزونا التابع لشركة"سيمي كونداكتور مانوفكتشورينغ كو" (Taiwan Semiconductor Manufacturing Co)، الذي تبلغ تكلفته 12 مليار دولار، يُعَدّ علامة على أن العالم قد تغيّر عمّا كان عليه قبل 10 أو 15 عاماً.
نعم، صانع الرقائق الرائد في تايوان، الذي يتقدم وفقاً لبعض المقاييس على شركة "إنتل" في السباق نحو التكنولوجيا المتقدمة، يُعتبر حالة خاصة.
خطر الصين
تواجه تايوان خطر الحصار إذا قررت الصين فرض التوحيد من جديد مع الجزيرة، لذلك يساعد مصنع في الولايات المتحدة على تنويع الشركة ضد هذا الخطر، لكن حقيقة أنها اختارت الولايات المتحدة بدلاً من دولة أرخص مثل المكسيك، أو دولة آسيوية أخرى مثل اليابان، تعتبر أمراً مشجعاً.
على عكس خطة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الفاشلة لإنشاء مصنع "فوكس كون تكنولوجي" (Foxconn Technology Group) في ولاية ويسكونسن، فإن استثمار "سيمي كونداكتور" في ولاية أريزونا حقيقي.
بصرف النظر عن الاعتبارات السياسية والأراضي الرخيصة في ولاية أريزونا، لماذا اختارت شركة "سيمي كونداكتور" الولايات المتحدة؟
أحد العوامل هو توافر العمالة الماهرة، إذ يعتمد تصنيع الرقائق على "الأتمتة" كلياً، كما يعتمد في الغالب على مهندسين. قد لا يقضي المهندسون الأمريكيون في العمل الساعات الجنونية التي يقضيها المهندسون التايوانيون، لكنهم يتمتعون بسمعة طيبة في الكفاءة القصوى. كذلك تمتلك أمريكا أفضل الجامعات في العالم، وهذه ميزة توفر مجموعة من المواهب العالمية لمصنّعي التكنولوجيا الفائقة.
يقدم ذلك نموذجاً يمكن للولايات المتحدة استخدامه لتجنيد مزيد من الاستثمار الأجنبي. في الوقت الذي تسعى فيه الدولة إلى إعادة بناء سلاسل التوريد الداخلية لديها وزيادة قدرتها على منافسة الصين، يمكنها الاستفادة من قوتها العاملة عالية المهارة لجذب التصنيع الآلي، ليس فقط مصانع أشباه الموصلات، ولكن الصناعات التي تعتمد بشكل كبير على الروبوتات والأدوات المعقدة الأخرى التي تتطلب عمالة ماهرة للبناء والتشغيل والصيانة.
إذا تمكنت الولايات المتحدة من الاحتفاظ بتفوقها في جذب المهاجرين المهرة من جميع أنحاء العالم، فستكون هذه مهمة أسهل بكثير بالطبع.
الأمريكيون الذين سمعوا فقط قصصاً مروعة عن الوظائف التي شُحنت إلى الخارج خلال العقود الثلاثة الماضية سيكونون متشككين بشكل مفهوم في فرص البلاد في أن تصبح مركزاً للاستثمار الأجنبي المباشر. لكن في الواقع، تعمل الولايات المتحدة دائماً على نحو جيد في ما يتعلق بجذب رؤوس الأموال من الخارج. ففي السنوات الأخيرة كانت البلد الرائد.
فوائد مجتمعية
جزء من هذا الاستثمار كان لشراء ممتلكات أو لاستخراج الموارد الطبيعية، لكن التصنيع أيضاً كان دائماً جزءاً كبيراً من الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة. تميل السيارات ذات المكونات الأكثر صنعاً في الولايات المتحدة إلى أن تكون سيارات "تويوتا" وسيارات "هوندا"، لا "فورد" أو "شيفروليه". لطالما كان صنع الأشياء في الولايات المتحدة مفيداً للشركات التي تريد أن تكون قريبة من عملائها الأمريكيين الأثرياء.
ومع ذلك، فإن الاستثمارات مثل مصنع "سيمي كونداكتور" تقدم مزيداً للاقتصاد الأمريكي. إنها توفر صادرات ذات قيمة مضافة عالية، وتجلب مزيداً من الأموال إلى البلاد أكثر من مصنع تجميع السيارات البسيط. كما أنها تساعد الولايات المتحدة في الاحتفاظ بمكانتها القيادية في مجال التكنولوجيا وتعزيز إمكانية تحديد سلاسل التوريد بأكملها داخل البلاد.
توطين سلسلة التوريد هو إحدى الطرق التي تخلق بها مصانع مثل مصنع "سيمي كونداكتور" فرص عمل للأمريكيين العاديين، على الرغم من أن المهندسين في الغالب هم فقط من يعملون في المنشأة الفعلية.
أمر آخر يتمثل في أن الأموال التي يجلبها المصنع إلى مجتمعه المحلي ستوزع عبر صناعات الخدمات المحلية، لذا فإن هذا الاستثمار لا يتعلق فقط بالناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، بل يتعلق الأمر بالوظائف أيضاً.
يحتاج الأمريكيون إلى اليقظة حيال الفرصة التي توفرها مثل هذه الاستثمارات الأجنبية، بدلاً من البقاء في موقف دفاعي ضد التجارة الخارجية، وتحتاج الولايات المتحدة إلى أن تكون جريئة وواثقة بقدرتها على المنافسة والفوز في الاقتصاد العالمي.
هذا لا يعني تبني التجارة الحرة الخالصة، لكنه يعني أن تكون متوازنة بشأن جذب مزيد من الاستثمارات مثل استثمارات شركة "سيمي كونداكتور". يمكن للولايات تحسين التعليم المحلي وتوسيع البنية التحتية مثل المياه والنقل، ويمكن للحكومة الفيدرالية تقديم حوافز متنوعة للشركات العالمية للانتقال إلى هناك.
هذه لعبة لعبتها الصين وفازت بها. حان الوقت الآن للولايات المتحدة للعب والفوز بدلاً منها.