بدا واضحاً توجه العالم نحو الاستثمارات الأقل سيولةً، التي يصعب تحديد قيمتها السوقية بالطرق الاعتيادية، وهنا يصبح الحديث عن أنَّ العالم اليوم أكثر ثراءً من ذي قبل، مجرَّد حبرٍ على ورق، بل وربما يكون الازدهار مجرد وهمٍ. فالأصول الأقل سيولة، كالأسهم الخاصة، وأدوات البنية التحتية الائتمانية، باتت تستحوذ على الجزء الأكبر من المحافظ الاستثمارية، ممَّا أدَّى إلى ازدياد عدم اليقين في مصداقية تحديد السعر العادل (أي قيمة فئات الأصول بحسب سعر السوق الحالي).
تقييم الأصول
وتعتمد الطريقة المعتادة في تقييم الأصول على أمرين اثنين؛ أن تكون أسعار الأصول متاحةً، وأن يكفل حجم التداول بيعها بهذه الأسعار، وينطبق هذا على الاستثمارات التقليدية، مثل الأسهم والسندات، أمَّا الأصول الأخرى، مثل الأسهم الخاصة التي تتسم بقلة التدوال، أو تكون غير متداولة على الإطلاق، فلا بدَّ من اللجوء إلى الاعتماد على النماذج، أو المؤشِّرات عند تحديد قيمتها السوقية.
كما أنَّّ تحديد القيمة السوقية للأصول المتداولة في الأسواق المالية العامة قد يكون أقل موثوقية مما مضى؛ إذ شهدت السنوات الأخيرة انخفاض حجم التداول على معظم فئات الأصول؛ لعدة أسبابٍ، مثل انخفاض عدد المتداولين، واللوائح التنظيمية التي تجعل الاحتفاظ بالمخزون القابل للتداول أمراً مكلفاً أكثر، فضلاً عن تدخُّل البنك المركزي بما يفرضه من سياسات نقدية.
تحديد القيمة السوقية
ومن ناحية أخرى، قد لا تتوفر أسعار الأسهم ذات القيمة السوقية الصغيرة دوماً، فضلاً عن العديد من سندات الشركات والسندات المرتبطة بالمشتقات المالية والأوراق المالية في الأسواق الناشئة والجديدة والديون المتعثرة.
وبالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة إلى جانب نمو صناديق رؤوس الأموال الكبيرة، وزيادة حجم الأصول التي تمتلكها، تصبح القدرة على بيع الأصول بالسعر المعروض موضع شك.
في المقابل، يتوقَّف تحديد القيمة السوقية بالاعتماد على النماذج المطروحة، على المدخلات الرئيسية التي قد يصعب التحقق منها، وهذا أمر غير مفاجئ. فعلى سبيل المثال، قد يتأثَّر تحديد سعر الائتمان الخاص على نحو كبير بالأسعار المفترضة للفائدة المفروضة على المقترِض عند تخلُّفه عن السداد، والعلاقة بين أسعار الفائدة.
أمَّا فيما يتعلق بالأسهم الخاصة، والبنية التحتية، فيمكن اتباع نماذج التقييم التي تعتمد على خصم التدفق النقدي، أي خصم الربح المستقبلي المتوقَّع من القيمة الحالية، وهذه الآلية تتأثر سلباً بأسعار الفائدة المنخفضة، وانخفاض علاوة المخاطر (العائد من الاستثمار الذي ينطوي على مخاطر عالية).
أضف إلى ذلك، ما يتطلبه هذا النموذج من إضافة القيمة المتبقية (أي القيمة المقدَّرة للأصل عند نهاية عمره الإنتاجي) في نهاية فترة الاسثمار المحددة.
سعر الفائدة
ويعني هذا تغيُّر القيمة السوقية التي يمكن حسابها وفق هذا النموذج بتغيُّر الافتراضات المتعلقة بقيمة الأصل عند نهاية فترة الاستثمار، خاصةً إذا كان سعر الفائدة منخفضاً على نحو غير معتاد، كما هو الحال منذ الأزمة المالية العالمية، نظراً لاعتماد البنوك المركزية على تخفيض أسعار الفائدة كاستراتيجية للحفاظ على أسعار الأصول، وتحفيز الإنفاق عبر دفع الناس للشعور بالثراء.
ويلجأ بعضهم أحياناً إلى اعتماد سلع متداولة معروفة، مثل المؤشِّرات عند وضع نموذج لتحديد القيمة السوقية للأصل، أو ضبط النموذج المعتمد، غير أنَّ صغر حجم العينة، وعدم توفر رابط حقيقي بين المؤشر والأصل الذي يجري تحديد سعره يحول دون الوصول إلى النتيجة المطلوبة، ولذلك، فلا بدَّ من إجراء تعديلات على النموذج بما يتوافق مع هذا الأصل.
ولا يمكن نسيان أنَّ المؤشرات قد تعتمد أحياناً على التداولات بين الصناديق الاستثمارية المرتبطة ببعضها، وهذا من شأنه أن يزيد من احتمالية التلاعب في السعر أو الوقوع في الخطأ. وتقوم جميع عمليات تحديد سعر عادل للأصول على افتراض أنَّ المستثمر أو الصندوق الاستثماري قادران على بيع هذه الأصول.
يشار هنا إلى أنَّ القرار في هذه الحالة بيد مديري الصناديق الذين يمكنهم فرض قيود تمنع المستثمرين من سحب الأموال من الصندوق في فترة الاسترداد المستحقة، كما فعلوا في الأزمة المالية عام 2008، فعند حدوث كساد اقتصادي كبير، أو تقلبات في الأسواق، من المرجَّح أن يواجه المستثمرون الذي يمتلكون أصولاً خاصة في الصناديق الاستثمارية قيوداً تمنعهم من استرداد أموالهم في حال عدم قدرة مديري الصناديق على تصفية الصندوق، وتوزيع عوائده.
أمرٌ صعب المنال
ويترتب على ما سبق أنَّ تحديد القيمة السوقية للأصول يصبح أمراً صعب المنال، فضلاً عن تغيُّر القيمة بين لحظة اتخاذ قرار البيع واستلام العائدات، أمَّا إذا كانت الاستثمارات في الخارج، فإنَّ القدرة على إعادة الاستثمارات إلى البلد لم يعد أمراً وارداً في عصر أصبحت فيه العولمة، وحرية انتقال رأس المال عرضة للخطر.
ولا يقتصر الأمر على الخطأ في تقييم الثروة وحسابها، بل يترتب على ذلك عدة مشاكل أكبر في النظام المالي، أولها عملية تحديد القيمة السوقية للأصول، وهي عملية غير متكافئة بطبيعتها، فالأرباح غير المحققة التي لا تزال على الورق بانتظار إغلاق الصفقة، تؤدي إلى الاقتراض مقابل الاستثمار لتمويل الاستهلاك، ممَّا يؤدي بدوره إلى ارتفاع الديون، وبالتالي، إذا هبطت الأسعار السوقية، تقلُّ الثروة فيما يبقى سداد القرض أمراً لا بدَّ منه.
الأصول مقابل القرض
وعندما توضع قيمة الأصول ضماناً في مقابل القرض، فإنَّ الخسائر غير المحقَّقة قد تؤدي إلى طلب تغطية، أي إيداع أموال إضافية ليتمكن المستثمر من القيام بعمليات بيع أو شراء، كما أنَّها تزيد من الطلب على السيولة، بما يجبر المستثمرين على البيع للحصول على سيولة كافية، فينتهي الأمر بمزيد من الانخفاض على الأسعار.
ويؤدي إلى انحراف هيكلية تحديد المكافآت المالية لمديري الصناديق، إذ يؤدي تقديم المكافآت بحسب الأداء إلى التشجيع على المبالغة في تحديد سعر الأصل، الذي من شأنه أن يزيد الأصول التي تخضع للإدارة، وزيادة الرسوم التي يتقاضها مديرو الصناديق.
ولا يعد هذا نوعاً من الاحتيال في ظلٍّ صعوبة تحديد أسعار الأصول غير المتداولة. كما أثبت التاريخ أنَّ تعيين مدققين مستقلين، وعمليات المراجعة غير كافية لضمان صحة عملية التقييم.
وعندما يحدث خطأ في تحديد سعر الأصول، فلن يستطيع مديرو الصناديق والإداريون تحديد سعر بيع وشراء أصول في الصندوق على نحو صحيح، مما يعني احتمالية انتقال الثروة بين المستثمرين. فإذا كان التقييم مبالغاً فيه، يجني المستثمر الذي يبيع الأصل أرباحاً على حساب المشتري، وتنعكس الحال إذا كان التقييم أقل من السعر الحقيقي.
وتكمن القيمة الحقيقية في القدرة على تحويل الاستثمارات إلى سيولة نقدية، وبهذا، فإنَّ مشكلة تحديد القيمة السوقية، وحين يتعلق الأمر بالأسهم الخاصة بالذات، هي إحدى المشاكل التي ندرك جهلنا بها في الأسواق الحديثة وقطاع التمويل الحديث، وهنا لا بد أن نتذكر أنَّه لا يمكن الكشف عن المخاطر عادةً إلا بعد فوات الأوان.
وللأسف، هذا ما سيكتشفه المستثمرون عند حدوث الكساد الاقتصادي مرة أخرى، لأنَّ للأزمات المالية بعض الفوائد، مثل كشف الأمور التي أهملها المموِّلون بقصد أو بغير قصد، فضلاً عن الثغرات التي فشلت الجهات الرقابية في الكشف عنها.