يعرف مؤشر الليبور (Libor)، وهو سعر الفائدة المعروض بين البنوك في لندن، باعتباره أحد أهم مؤشرات أسعار الفائدة في السوق، ويصفه البعض بأنه الرقم الأهم بالعالم، حيث اقترنت عملية تطور هذا المؤشر بصعود أسواق العملات الأوروبية في منتصف ستينيات القرن الـ 20.
وفي مسعاها إلى تغيير الأسعار الأساسية للفائدة المعروضة بين البنوك، تتجه أسواق المال إلى خلق مشكلة جديدة شبيهة بما عرف سابقًا بمشكلة (Y2K problem) عام 2000، مما يثير التساؤل حول كيفية الحيلولة دون انهيار هياكل السوق الحالية نتيجة لهذا التحوّل.
وأضافت "جمعية المصارف البريطانية" صبغة قانونية على مؤشر الليبور عام 1986، عندما يسّرت استخدامه في تسعير فوائد القروض، وليكون مؤشرًا مرجعيًا لمشتقات أسعار الفائدة.
استخدامات الليبور.. من الودائع والقروض إلى السندات والمشتقات وحتى 30 عاما
يُستخدم اليوم "الليبور" والمؤشرات المماثلة له في العملات الرئيسية الأخرى في طيف واسع من المعاملات، بما في ذلك الودائع، والقروض، السندات، والمشتقات. ورغم عدم توافر إحصائيات تفصيلية، تشير التقديرات إلى أنه يُستخدم كمؤشر مرجعي لتداولات مالية تبلغ قيمتها حوالي 270 تريليون دولار.
ومع أن غالبية هذه التداولات قصيرة الأجل، سنة أو أقل، إلا أن بعض التداولات الأخرى قد تمتد لأجل طويل تصل إلى 30 عامًا أو أكثر، لذلك، تُعد عملية استبدال وتغيير هذه المؤشرات المرجعية الهامة والمنتشرة على مستوى العالم، محفوفة بالتحديات.
ويستند المفهوم الأساسي لمؤشر "الليبور" إلى استطلاع تقترح فيه البنوك مشاركة سعر الفائدة، التي يمكن للمؤسسات الاقتراض به من بعضها البعض في سوق التعاملات البنكية بلندن، إلا أنه يشوبه بعض العيوب؛ حيث أن هذا النظام ذاتي التنظيم، وتعود أصوله إلى حقبة أخلاقية مختلفة، ومعرّض لسوء الاستخدام، فقد سبق أن تواطأ التجار للتأثير على أسعار الفائدة المحددة لتعزيز مواقعهم في السوق.
الجهات التنظيمية تستخدم المؤشرات في تهدئة الأسواق وقت الأزمات المالية
وفي الفترة بين عامي 2008 و2009، قدمت البنوك دعما خفيا مزعوما من الجهات التنظيمية، باصطناع انخفاض أسعار الفائدة لتهدئة الأسواق المتوترة؛ لكن في نهاية المطاف، تكبدت البنوك غرامات تقدر بحوالي 10 مليارات دولار، كما ألقي القبض على بعض المصرفيين واستقال العديد من كبار الموظفين.
وخلال الفترة التي أعقبت هذه الأزمة، تراجع حجم التجارة في أسواق التعاملات بين البنوك، فأصبحت أسعار السوق أقل موثوقية، حيث أدت التبعات القانونية المحتملة إلى تردد البنوك في طرح تسعيرات تُستخدم لتحديد المعيار المرجعي لأسعار الفائدة.
وفي أعقاب دراسات مكثفة، ظهرت مجموعة مؤشرات بديلة لأسعار الفائدة.
أمريكا:
في الولايات المتحدة الأمريكية، ظهر مؤشر "إس أوه إف آر" (SOFR) والذي يرتبط بـ "سعر التمويل قصير الأجل المضمون" (Secured Overnight Financing Rate)، والقائم على تكاليف القروض قصيرة الأجل، ويعتمد على اتفاقيات إعادة الشراء المضمونة من الحكومة الأمريكية.
أوروبا:
كما يطوّر "البنك المركزي الأوروبي" (European Central bank) من جانبه، مؤشرًا لأسعار الفائدة قصيرة الأجل غير المضمونة والقائمة على بيانات التداولات المتاحة للبنوك المركزية الأعضاء.
اليابان:
أمّا اليابان، فتُفضّل استخدام مؤشر "تي أوه إن إيه" (TONA) ويشير إلى "متوسط أسعار الفائدة قصيرة الأجل لطوكيو" (Tokyo Overnight Average) القائم على أسعار الفائدة غير المضمونة لسوق المال والتي يتولى إدارتها "بنك اليابان المركزي" (Bank of Japan).
المملكة المتحدة:
وقد اختارت المملكة المتحدة مؤشر "سونيا" (Sonia) ويشير إلى "المتوسط المرجح لأسعار الفائدة للجنيه الإسترليني" (Sterling Overnight Index Average)، والذي يعكس أسعار التمويل قصيرة الأجل غير المضمونة للبنوك ومؤسسات التمويل مثل "بيلدينج سوسياتيس (building societies).
سويسرا
أمّا سويسرا فتقترح مؤشر "سارون" (Saron) ويشير إلى "متوسط أسعار الفائدة قصيرة الأجل لسويسرا" (Swiss Average Rate Overnight)، والقائم على أسعار فائدة اتفاقيات إعادة الشراء التي تتولى إدارتها بورصة "سيكس" السويسرية (SIX Swiss Exchange).
لكن كل هذه البدائل المحتملة تنطوي على عدة إشكالات، حيث تسفر العروض المتنافسة ببعض العملات علاوة على المقاربات المختلفة بين أسعار الفائدة، حالة من التشتت والتعقيدات، ما دفع شركة "أي سي إيه بنشمارك ادمينيستريشن إل تي دي"، (ICE Benchmark Administration Ltd)، والمسؤولة حاليًا عن "الليبور"، إلى اقتراح التحوّل إلى "مؤشر أي سي إي" لعائدات البنوك بالدولار الأمريكي" (U.S. Dollar ICE Bank Yield Index)، وهو مؤشر منافس لمؤشر "إس أوه إف آر" (SOFR).
وبما أن البنوك لن تتوقف عن استخدام "الليبور"، فلن تقوم الجهات التنظيمية بإلزامها بعد الآن بالاستمرار في دعم السعر المرجعي، حيث أن استخدام أكثر من مؤشر معًا لتحديد أسعار الفائدة في المستقبل قد يكون محتملًا، ما قد ينجم عنه اضطراب في السوق المالية، خاصة أن الأسعار المرجعية المقترحة لم تخضع للاختبار بعد، وعليه، لم تُثبت بعد ما إذا كانت متينة وأقل عرضة للتلاعب بها.
المخاطر الائتمانية
وتجدر الإشارة إلى أنه تم تصميم مؤشر "الليبور" ليتيح للبنوك الاقتراض بفرق سعر فائدة يتجاوز التكلفة الهامشية للتمويلات، فبعض مؤشرات أسعار الفائدة الجديدة لا تعكس المخاطر الائتمانية للبنوك.
فعلى سبيل المثال، يعكس كل من "إس أوه إف آر" و"سارون" بشكل أساسي تكاليف تمويل خالية من المخاطر، وقد يكون الفرق بين أسعار الفائدة خالية المخاطر، وأسعار الفائدة البنكية، كثير التقلب خاصة في أوقات الأزمات المالية.
ومنذ العام 2000، بلغ معدل الفرق بين "الليبور" المعمول به لمدة 3 أشهر وأسعار فائدة اتفاقيات إعادة الشراء قصيرة الأجل (وهو معدل مهم لمؤشر إس أوه إف آر) حوالي 30 إلى 40 نقطة أساس، لكنه ارتفع إلى 460 نقطة أساس عام 2008.
وحيثما تكون أسعار الفائدة التي تفرضها الحكومة هي الأسعار المرجعية، قد تلجأ البنوك إلى رفع أسعار الإقراض لتعويض حالة عدم اليقين الناجمة عن تكاليف التمويل الفعلية الخاصة بالبنك.
وعلى عكس "الليبور"، والذي يُثبّت سعر الفائدة لفترات تمتد لشهر، أو 3 أشهر، أو 6 أشهر، فإن بعض المؤشرات المرجعية المقترحة تعتبر قصيرة الأجل. وسيكون من شأن غياب هيكل زمني لأسعار الفائدة أن يبث حالة من عدم اليقين في تكلفة التمويل لدى المُقترضين، كما أن هناك صعوبات في الاتفاق على أساليب معيارية لتسعير الائتمان وإنشاء هيكل زمني للمخاطر خاص بأسعار الفائدة الخالية من المخاطر.
التحوط من ارتفاع أسعار الفائدة
وهناك أيضًا مشكلة أخرى تتعلق بالتحوط من ارتفاع أسعار الفائدة، فأسواق المشتقات الناشئة في ظل الأسعار المرجعية الجديدة لا تضمن الجودة، والعمق، والسيولة نفسها التي تقدمها الأدوات المالية القائمة على "الليبور"، كما أن الأسعار المرجعية الجديدة تخلق حالة من انعدام التطابق والذي يغدو أسوأ في ظل الظروف المالية المتقلبة، وتحديداً حين يكون السعر المرجعي المستخدم في الاقتراض أو الاستثمار مغايرًا للسعر المرجعي المستخدم في المشتقات.
وهذا بدوره قد يسبب صعوبات في محاسبة التحوط، إذ يؤدي إلى النظر للقيمة حسب السوق على أنها أرباح أو خسائر السنة الحالية، ما قد يتسبب بتقلبات في الأرباح قد تؤثر سلبًا على إدارة المخاطر.
عقبات لوجيستية في التحول من الليبور
وأخيرًا، سيؤدي الانتقال من هياكل أسعار الفائدة الحالية إلى هياكل جديدة لظهور عوائق لوجيستية، خاصة مع إيقاف التعامل "بالليبور" تدريجيًا بحلول عام 2021. فهذا الأمر يتطلب تحديد المعاملات التي سيؤثر عليها هذا الانتقال، كما يتطلب اتخاذ قرار بالانتقال إلى أسعار فائدة جديدة أو استخدام ترتيبات احتياطية ثم توثيق التغيّرات. وما يزيد هذا الانتقال تعقيدًا هي المسائل الإجرائية التي تتعلق بالصلاحيات، بالإضافة إلى التبعات القانونية والضريبية، مثل إنهاء اتفاقيات تحوط معينة.
ويترتب على هذا الانتقال آثارًا مختلفة على أطراف العقود، حيث تجعل التقلبات في أسعار الفائدة أحد الطرفين رابحًا والآخر خاسرًا ما يزيد من مخاطر حدوث النزاعات القضائية. وقد سبق أن حذر محافظ بنك إنجلترا المركزي "مارك كارني" (Mark Carney) من تعقيد مثل هذا الانتقال.
قبل أكثر من 200 عام، حذر الفيلسوف "أدموند بورك" (Edmund Burke) من تدمير أي صرح أو نظام قائم منذ مدة زمنية معينة دون التأكد من وجود بديل مناسب يحّل محلّه، مطالبًا الأسواق المالية والجهات التنظيمية أن تأخذ هذه النصيحة بعين الاعتبار.