بلومبرغ
تغير النظام الاقتصادي العالمي مع انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية في 2001، وحتى مع بروز الصين كموطن التصنيع في العالم، ظل نظامها المالي كالمتجر المغلق، وفرضت ضوابط صارمة على تدفقات الأموال الداخلة والخارجة.
ولسنوات، كانت هناك أحاديث بشأن "انفتاح متوازي" للاقتصاد والسوق المالي، ولكن التقدم المحرز كان بطيئاً. والآن بعدما استكملت الدولة إجراءات ضمها إلى ثلاثة من أكبر المؤشرات العالمية؛ قد يكون للسماح للمستثمرين الأجانب بدخول سوق السندات الصينية البالغة قيمته 15 تريليون دولار نفس التأثير الهائل لدخول بلد التنين إلى منظمة التجارة العالمية.
ستتمكن الآن صناديق المعاشات العالمية، المتعطشة للعائد في عالم النمو المنخفض، من دخول سوق سندات حكومية آمن بعائد يزيد على 3 بالمئة. وإذا وفى المسئولون الصينيون بتعهدات الانفتاح، المثبتة في خطة الحزب الشيوعي الخماسية من 2021 إلى 2025 والموضوعة في أكتوبر الماضي، فسيتمكن المستثمرون الصينيون بسهولة كبيرة من شراء أسهم في "آبل"، و"ستاربكس"، و"تيسلا"، وليس مجرد الهواتف ومشروبات الكابتشينو والسيارات. كما سينضم الصينيون لحكومتهم، التي طالما كانت مشترٍ كبير للأصول الخارجية مثل سندات الخزانة، كمصدر كبير للتمويل.
وقال ستيفن جين، الذي يدير صندوق التحوط وشركة الاستشارات "يوريزون إس إل جي كابيتال" بلندن: "ستتحول الصين من مصدر للبضائع إلى مصدر لرأس المال، وهو ما سيكون له تداعيات كبيرة بالطبع على العالم".
ولكن ما هي التداعيات؟ تسببت التغيرات الكبيرة في النظام المالي سابقاً في بعض النتائج المؤسفة؛ فقد زرع استحداث اليورو في عام 1999 بذور أزمة الديون في المنطقة بعد عشر سنوات، وساعدت موجة الادخارات الخارجية التي تدفقت للولايات المتحدة في بداية القرن الحالي على إشعال فقاعة رهون عقارية انفجرت في 2007 و2008.
واستعرضت "بلومبرغ ماركتس" عددا من جوانب تأثير الانفتاح على مستقبل التمويل العالمي في السنوات المقبلة، وفيما يلي بعض الأفكار التي ظهرت:
المدخرون الصينيون يذهبون للعالمية
يرى جين، الذي بدأ حياته المهنية في "مورغان ستانلي" وهو يتتبع تأثير الأزمة المالية الآسيوية على أسواق الصرف الأجنبية، أن انفتاح أسواق رأس المال الصينية هو أكبر تغير هيكلي للتمويل الدولي منذ إطلاق اليورو.
وقد تجعل التدفقات الداخلة المستمرة من رأس المال الأجنبي بكين أكثر ارتياحاً بشأن تخفيف الضوابط الرأسمالية التي حبست الأموال المحلية في الصين لوقت طويل، وبالتأكيد سيتعين عليها ذلك، وإلا سترتفع قيمة اليوان وتأكل تنافسية صادرات الدولة.
وهذه الخطوة من شأنها تحرير موجة من المدخرات الصينية على العالم، ويقدر جين أن هناك حوالي 5 تريليون دولار من الطلب الصيني المكبوت على الاستثمارات خارج الصين، وهو ما قد يكون له تأثيرات مشابهة للإيرادات البترولية التي تدفقت من الدول المصدرة للبترول في سبعينات القرن الماضي، والتي انتهى بها الأمر بتمويل نوبة اقتراض ضخمة وغير مستدامة بشكل كارثي من قبل الدول الأمريكية اللاتينية.
وقال جين عن الصين: "ستعوض التدفقات الداخلة على الأرجح التدفقات الخارجة لعدة سنوات"، وأضاف أن الوصول لحالة تدفقات خارجة صافية مشابهة للإيرادات البترولية قد تستغرق سنوات حتى تتحقق "وهو سيناريو سنتعامل معه حتماً".
المشاركة في الغنائم
لكي يكتسبوا موطئ قدم في التوسع الاقتصادي الصيني السريع، اضطر المستثمرون العالميون بشكل عام إلى شراء أصول بديلة مثل الدولار الأسترالي، أو السلع، أو مجموعة صغيرة من أسهم الشركات الصينية المدرجة في هونغ كونغ. أما انفتاح سوق السندات الصيني يعطيهم فرصة للتعرض المباشر. كما أنه يوفر بديلاً عن سندات الحكومة اليابانية وغيرها من الديون السيادية منخفضة أو سلبية العائد، وفقاً لإد الحسيني، كبير محللي أسعار الفائدة العالمية لدى "كولومبيا ثريدنيدل" في نيويورك، والتي وصلت أصولها تحت الإدارة في أكتوبر إلى 476 مليار دولار، وكانت تعزز استثماراتها في السوق الصينية مؤخراً.
وقال الحسيني: "يرتفع الطلب بحدة على أي أصل سائل بعائد أعلى من ذلك على سندات الخزانة.. والناس مستعدون للدفع مقابل السيولة، وهو الأمر الرئيسي الذي يتطور في السوق الصينية المحلية، وبالتالي سننجرف حتماً في هذا الاتجاه".
وتنضم الآن سندات الحكومة المركزية الصينية أو في طريقها للانضمام المرحلي لثلاثة مؤشرات سندات دولية رئيسية التي يستخدمها المستثمرون كمؤشرات مرجعية مجمعة من قبل "فوتسي راسل"، و"جى بي مورغان تشايس"، و"بلومبرغ باركليز" (جزء من "بلومبرغ إل بي" مالكة "بلومبرغ ماركتس")، ويقدر بنك "غولدمان ساكس" أن 5.3 تريليون دولار من الأصول تتبع هذه المؤشرات.
وستحتاج صناديق تتبع المؤشرات السلبية شراء السندات الصينية لمسايرة أداء المؤشرات، وقد يتجنبها بعض مديري الصناديق النشطة بسبب تكاليف المعاملات، أما الآخرون فسوف يرفعون على الأرجح ثقل الصين في محافظهم نتيجة العائدات الجذابة.
التأثيرات غير المباشرة
يبدو عائد السندات الصينية مثل عوائد الأسواق الناشئة -وهو الأعلى بعد المكسيك في مؤشر "فوتسي" للسندات الحكومية العالمية- ومع ذلك سيعتبرها المستثمرون على الأغلب أوراق مالية لسوق متقدم، وفقا لمحللي "غولدمان" الذين قدّروا، بمن فيهم كينيث هو، في أكتوبر، إنه بعد جذب الصين ـ230 مليار دولار من المستثمرين الأجانب لسوق الدخل الثابت خلال السنوات الخمس الماضية، ستشهد البلاد تدفقات بحوالي 770 مليار دولار أخرى في السنوات الخمس المقبلة.
ولا يتوقع اللاعبون في السوق أن تؤدي التحولات الناتجة في تخصيص الأصول إلى رفع عائدات السندات كثيراً، ولكن على الأموال أن تأتي من مكان ما. وامتلك المستثمرون الأجانب حوالي 13% من السندات الحكومية اليابانية، وأكثر من 30% من سندات الخزانة الأمريكية في نهاية يونيو، كما يحمل مستثمرون من خارج اتحاد العملة حوالي ربع السندات الحكومية لمنطقة اليورو، وفقا لتقديرات "كوميرز بنك".
وقال الحسيني من "كولومبيا ثريدنيدل": "لدينا ممتلكات ضخمة من سندات الحكومة اليابانية والسندات الأوروبية، والكثير منها يمثل عبئاً ثقيلاً".
المنافسة على رأس المال
قد تجد واشنطن، بالأخص، نفسها تنافس الصين على رأس المال الخارجي، ويعد الحساب الجاري الصيني إيجابياً بالكاد نسبة إلى حجم اقتصادها، ورغم فوائضها التجارية الكبيرة مع الولايات المتحدة، فهي تعاني من عجوزات ضخمة في ميزان الخدمات. ويتوقع بعض الاقتصاديين أنها ستدير عجوزات في الحساب الجاري مستقبلاً. وإذا حدث ذلك، ستحتاج الصين إلى سحب الأموال من الخارج، كما تفعل الولايات المتحدة منذ عقود.
ويقول أيدان ياو، الخبير الاقتصادي في "اكسا انفيستمينت مانجرز " بهونغ كونغ: "قد تبدأ الصين إدارة عجوزات هيكلية في الحساب الجاري وهو ما سيجبرها على فتح السوق واستيراد رأس المال من الخارج".
وأضاف ياو، الذي عمل سابقاً في سلطة النقد في هونغ كونغ، أنه مع تنافس الصين والولايات المتحدة -الذي يشار إليهم في بعض الأحيان بمجموعة الاثنين "G2"- على المدخرات، "فسيضطر بقية العالم إلى تعزيز مدخراته لتمويل عجوزاتهما وإلا سيتعين على مجموعة الاثنين التكيّف".
وستصبح المنافسة أكثر شراسة بالتأكيد إذا وسعت واشنطن تحركاتها في 2020 لتقليص وصول المقترضين الصينيين للأسواق الرأسمالية الأمريكية. وعلى سبيل المثال اقترح المشرعون من الحزبين الجمهوري والديموقراطي قواعد ستجعل من الأصعب على الشركات الصينية طرح أسهم في الولايات المتحدة.
وقال ياو واي، الخبير الاقتصادي بشؤون الصين في "سوسيتيه جنرال" في باريس، إنه كلما حاولت الولايات المتحدة جاهدة عزل الصين، يتعين على الصين تعزيز مجهوداتها للانفتاح، وأضاف أن السماح بالمزيد من الاستثمارات الأجنبية سيعمق تداخل الصين في الأسواق المالية العالمية ما سيجعل عملية الانفصال أكثر صعوبة.
تخصيص أفضل للائتمان وشفافية أكبر
يأمل المشرعون الصينيون في أن يحسن فتح سوق سنداتهم كيفية تخصيص الائتمان. وسعى الحزب الشيوعي الحاكم لتحويل الاقتصاد لنظام يقوم أكثر على السوق والذي يستطيع فيه المستثمرون ومحللو الائتمان تسعير التمويل المقدم للمقترضين المختلفين وفقاً لجدارتهم الائتمانية. ويأمل صناع السياسة أن ذلك سيوقف تراكم الديون المتعثرة والمعدومة، ويقلص القدرة الإنتاجية المفرطة ويؤدي إلى استثمارات أكثر إنتاجية.
وهو ما يفسر لما عمل بنك الشعب الصيني وغيره من الجهات التشريعية بجهد للفوز بانضمامهم لمؤشرات السندات القياسية. وهو انضمام تطلّب معالجة مجموعة واسعة من الشكاوى من السوق المحلي مثل الأعمال الورقية المرهقة المطلوبة من الأجانب وبطء استكمال تصاريح التداول.
وعلاوة على ذلك، قدّم المشرعون المزيد من خيارات التحوط، وعززت الحكومة حجم السندات لزيادة سيولتها. وبعد تراجع فوضوي في قيمة اليوان في 2015، حاول البنك المركزي الصيني طمأنة المستثمرين الأجانب من خلال إدارة سعر صرف أكثر شفافية واستقراراً.
وأعادت خطة الحزب الشيوعي الخماسية، الموضوعة في أكتوبر، الإلتزام بالانفتاح، وقال هان وينشي، وهو مسؤول كبير اشترك في وضع الخطة، في مؤتمر صحفي أن "الصين ستشهد توسعاً متواصلاً في حجم التجارة الأجنبية واستثمارات رأس المال الأجنبي والاستثمارات بالخارج"، كما سلط محافظ البنك المركزي الصيني، يي جانج، الضوء على أهمية الانفتاح المالي، قائلاً إنه يحسّن الكفاءة ويساعد على تحقيق تنمية اقتصادية أعلى جودة.
وقالت بيكي ليو، مدير استراتيجية الاقتصاد الكلي الصيني في "ستاندرد تشارترد": "يمكن أن تكون المؤسسات الأجنبية مصدراً للأموال الجديدة التي يمكن أن تسفر عن طرق مبتكرة وناضجة لممارسة الأعمال في السوق المحلي الذي لطالما سيطرت عليه البنوك وشركات السمسرة الصينية".
عواقب غير مقصودة
هناك دائماً مخاطر عدم سير الأمور كما هو مخطط لها؛ فعلى سبيل المثال، ماذا لو أعطى الانفتاح المقترضين الصينيين الأكثر خطورة ائتماناً أرخص، بدلاً من ضبط سوق الدخل الثابت؟
وفيما يلي توضيح لكيف يمكن أن يحدث ذلك: يلتزم المستثمرون الأجانب في الأساس بشراء السندات المباعة من قبل الحكومة المركزية وثلاثة بنوك حكومية يعرّفون ببنوك السياسة والمرتبطين ارتباطاً وثيقا بالأهداف الحكومية. واعتباراً من منتصف 2020، امتلك مديرو الأصول الأجانب 8.5% من سندات الحكومة المركزية بارتفاع من 2.4% فقط في فبراير 2016، وعلى النقيض فإن حصتهم من سندات الشركات عند 0.7% بالكاد تغيرت عن 0.6%، وفقا لتقديرات محللي "غولدمان".
ويقول مايكل سبينسر، كبير اقتصاديين منطقة آسيا والمحيط الهادي في "دويتشيه بنك" في هونغ كونغ: "قد ينتهي الأمر بمزاحمة التدفقات الأجنبية للمستثمرين المحليين في سوق السندات الحكومية. ومن خلال خفض التدفقات الأجنبية الداخلة للعائد على الأصول خالية المخاطر، فإنها قد تؤدي إلى عزوف المستثمرين الصينيين أكثر عن السوق. وإذا كنت تعتقد أن العائدات الحالية لا تسعر المخاطر بالقدر الكافي، فإن التدفقات الداخلة ستزيد المشكلة سوءا".
وتعد فروق العائد عبر سوق سندات الشركات المحلي في الصين أقل تبايناً من سوق سندات الولايات المتحدة. وتجاوز عائد سندات الشركات الأعلى تصنيفاً ائتمانياً العائد على السندات الحكومية بحوالي 70 نقطة أساس أو 0.70% في نهاية أكتوبر، أما فارق العائد مع الأوراق المالية عالية العائد بلغ 329 نقطة أساس، وفقاً لمنصة "تشاينا بوند ChinaBond".
وعلى النقيض، كان فارق العائد بين سندات الشركات ذات التصنيف الاستثماري وسندات الخزانة عند 123 نقطة أساس، أما فارق العائد مع السندات دون الدرجة الاستثمارية بلغ 488 نقطة أساس.
فقدان السيطرة
كلما كان السوق منفتحاً، ازدادت صعوبة سيطرة صناع السياسة الصينيين على أسعار الفائدة والصرف. وقد تؤدي التحركات التي ترفع العائد -مثل تشديد السياسة النقدية للتحكم في التضخم- إلى موجة من التدفقات الداخلة التي تعزز قيمة العملة، وتجعل الصادرات أقل تنافسية. وبالمثل، فإن التدابير التي تضعف ثقة المستثمرين الأجانب يمكن أن تحفز هروباً جماعياً مزعزعاً للاستقرار.
ويتسم صناع السياسة الصينيون بالحذر والصبر، وهو ما يفسر لماذا أبقوا على انغلاق النظام المالي رغم فتحهم للاقتصاد بطرق لا تعد ولا تحصى منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، ورحبوا بالاستثمار في القطاع الصناعي، أما التدفقات الداخلة في أسواق المال كانت أمراً آخر، فبعد كل شيء، أظهرت أزمات الأسواق الناشئة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي مخاطر "الأموال الساخنة" التي يمكن أن تخرج سريعاً من الدولة ما يسبب اضطرابات مالية مدمرة.
وقال لو تينج، الخبير الاقتصادي بشؤون الصين في "نومورا هولدينغز": "سيتعين على الحكومة الصينية والبنك المركزي مع انفتاح الأسواق المالية وسهولة التدفقات الداخلة والخارجة أن يصبحوا أكثر حذراً في إدارة تكاليف التمويل وأسعار الفائدة، وبالطبع ستكون إدارة سعر الصرف أكثر صعوبة".
وقد تحتاج الصين إلى إعادة فرض الضوابط الرأسمالية والقيود إذا نتج عن فتح السوق تقلبات مفرطة. وأدارت السلطات في السنوات الماضية التقلبات في العملة من خلال فرض وإزالة القيود على سوق الصرف الأجنبي، لذا في الوقت الذي يبدو فيه نخبة صناع السياسية متفقون على فوائد الانفتاح، فإن العملية ستبدو على الأرجح كعملية غلق وفتح مستمر.
الإيجابيات تفوق السلبيات
تحتاج الصين رأس المال الأجنبي لتمويل نموها وتعزيز استخدام عملتها عالمياً، والتي لا تزال لاعب صغير في المعاملات الدولية. وتباطأ نمو الدولة باطراد في السنوات الماضية حتى قبل الوباء، وانتهى عصر الفوائض الهائلة في الحساب الجاري. وفي ظل انكماش وشيخوخة القوة العاملة، تخاطر الصين بالوقوع في "فخ الدخل المتوسط" وأن تركد قبل أن تصل إلى مستويات التنمية في العالم الغني.
ويعد تحسن الشفافية المالية، ومزيج التمويل المتنوع والاستثمار الأكثر انتاجية عوامل أساسية لضمان عدم وقوعها في فخ الدخل المتوسط.
وبالنسبة لبقية العالم، سيجلب الاندماج المالي للصين تغيرات غير متوقعة مثلما فعل انضمامها للنظام التجاري العالمي، وجعلت قوتها العاملة العملاقة البضائع أقل تكلفة حول العالم، وحسنت حياة الملايين، ولكنها أيضاً خرّبت مدن صناعية من ميتشيغان وحتى شمال انجلترا، وفرضت تكاليف اجتماعية ذات تداعيات سياسية لا تزال قائمة حتى الآن.
وبالمثل، فإن التحوّل المقبل لتريليونات الدولارات من رأس المال عبر الحدود يبدو أنه سيخلق على الأرجح فائزين وخاسرين حول العالم.