بلومبرغ
فيما انخرط كل من هبّ ودبّ تداولاً في الأسواق، أصبح الحديث عن ارتفاع أسعار الفائدة شائعاً بقدر الحديث عن أحوال الطقس، الذي له من المفاعيل ما لا يمكن توقعه، وهو يشبه في ذلك أسعار الفائدة.
خلال ما يربو على سنتين، رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة - وهي المعيار الرئيسي المؤثر على أسعار الاقتراض في كلّ مكان تقريباً – من ما يقارب الصفر إلى أكثر من 5.25%.
إن هذا الارتفاع تغيير حاد بحد ذاته ويكاد يكون تحولاً على مدى جيل، فقد كانت آخر مرّة ارتفعت فيها أسعار الفائدة إلى أعلى من 5% في 2007، وهو العام الذي طُرح فيه "أيفون"، لذا فإن من لم يتخطَّ سنّهم 35 عاماً لم يسبق لهم أن اضطروا خلال حياتهم كبالغين لإدارة شؤونهم المالية في ظل ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية بهذا القدر.
أمكن التنبؤ ببعض مفاعيل رفع أسعار الفائدة، فقد ازدادت تكاليف ديون بطاقات الائتمان، كما أن الراغبين بشراء منازل، باتوا مضطرين للاكتفاء بمنازل أصغر أو أبعد عن أماكن عملهم أو أن يستمروا بالاستئجار في ظلّ ارتفاع تكلفة الرهون العقارية.
لكن من ناحية أخرى، كسب المدّخرون عوائد مكنتهم من تخطي تبعات التضخم. لكن ما كان محيّراً هو عدم تأثر بعض النواحي الاقتصادية بارتفاع أسعار الفائدة، الذي تكون له عادةً آثار سلبية كبيرة على سوق الأسهم وأسعار السكن، لكن ذلك لم يحصل.
بحثت "بيزنيسويك" في أسباب هذه المفارقات، وأيضاً في ما يرتبه ارتفاع أسعار الفائدة على المستهلكين والمستثمرين على حدّ سواء، وحاورت لهذا الغرض مخططين ماليين وخبراء في السوق لاستبيان آرائهم واستخلاص نصائحهم.
كيف بلغنا هذه المرحلة وإلى متى تستمر؟
إن سعر الفائدة الفيدرالية هو ما تتقاضاه البنوك كفائدة على الإقراض البيني لليلة واحدة، وعليه تُبنى تكاليف بقية القروض. لقد ارتفع معدل الفائدة الأساسي على ديون بطاقات الائتمان وغيرها من القروض الاستهلاكية إلى 8%، مقارنة بـ 3.5% في نهاية 2021. وفي الفترة عينها، ارتفع متوسط معدل الفائدة على الرهون العقارية الممتدة لثلاثين سنة من حوالي 3% إلى نحو 7%. في غضون ذلك، تدفع الشركات ما نسبته نحو 5.3% على الاقتراض حين تصدر ديوناً من الدرجة الاستثمارية، بالمقارنة مع 2.3% سابقاً.
يضبط الاحتياطي الفيدرالي معدل الفائدة على الاقتراض بغرض إحداث توازن بين النمو والتضخم. منذ 2008، كان الاقتصاد في حالة نمو بشكل عام، فأبقى الاحتياطي الفيدرالي على معدلات الفائدة منخفضة كي يحفز الاقتراض والإنفاق بعد الأزمة المالية العالمية بدايةً، ثمّ من أجل التعامل مع جائحة كورونا. إلا أن ذلك تغير جذرياً في 2022 بعد إعادة فتح الاقتصاد، ليجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه يجابه أسرع موجة تضخم منذ مطلع الثمانينيات.
انخفض معدل التضخم إلى 3.3% حالياً، أي أنه بات قريباً من هدف الاحتياطي الفيدرالي طويل الأجل البالغ 2%.
دفع ذلك بمحليين ومتداولين كثر لأن يتوقعوا بدء انحسار معدلات الفائدة قريباً، على الرغم من أن رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول ما يزال يبحث عن أدلة تؤكّد فتور التضخم. مع ذلك، يمكن للمستثمرين توقع خفض معدلات الفائدة أقلّه مرة واحدة هذا العام، بحسب روب ويليامز، المدير الإداري لشؤون التخطيط المالي وعوائد التقاعد وإدارة الثروات لدى شركة "تشارلز شواب" (Charles Schwab).
أفضل توقيت لزيادة الإقراض وخفضه
ظلّ المستهلكون قادرين على التكيّف مع ارتفاع معدلات الفائدة على القروض، وجزء من ذلك كان بفضل البرامج الحكومية التي دعمت ميزانيات الأسر في حقبة الجائحة، وأيضاً نتيجة انخفاض مستويات البطالة إلى معدلات قياسية.
لكن المؤشرات على زيادة الضغوط بدأت تظهر، مع ازدياد وتيرة التأخر في سداد ديون بطاقات الائتمان وقروض السيارات واقترابها خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 2024 من مستوى الخطر، وهو انقضاء 90 يوماً أو أكثر منذ حلول موعد السداد، بحسب الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. حتى أن التأخر عن سداد ديون بطاقات الائتمان ارتفع مقارنةً مع الفترة التي سبقت الجائحة.
أحد أنواع الاقتراض الذي يستحق متابعة هو ذلك القصير الأجل والذي يتمثل في ديون عمليات "اشتر الآن وادفع لاحقاً"، التي تقدّمها عدّة شركات بيع بالتجزئة وتطبيقات عبر الهاتف. لقد توسّعت هذه البرامج في الحقبة التي كانت تقارب فيها أسعار الفائدة الصفر، بما أنها تقدم شروطاً مسهّلة مرهونة بالتسديد في الوقت المحدد.
لكن التكاليف قد ترتفع كثيراً إن تخلف الشاري عن السداد. اليوم يبدو أن بعض المقترضين يواجهون صعوبة في التعامل مع التزاماتهم على امتداد عدّة منصات تعتمد آلية "اشتر الآن وادفع لاحقاً". وأظهر استبيان أعدته شركة "هاريس بول" (Harris Poll) لصالح "بلومبرغ نيوز" في أبريل أن 43% من المدينين بأموال لهذه الخدمات قالوا إنهم متأخرون عن سداد أقساط.
في مقابل كلّ هذه الويلات، تبرز الزيادة في الأموال التي يمكن أن يجنيها المدخرون ببساطة من إيداع أموالهم في المصارف. إذ تقدم كثير من الحسابات عالية العوائد المتوفرة عبر الإنترنت وكثير من شهادات الإيداع، عوائد على الإيداعات تتراوح بين 4% و5%، بالإضافة إلى ميزة أن تكون الوديعة مضمونة من مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية.
كما يمكن للمستثمرين الذين يملكون أموالاً تقبع في حسابات الوساطة، أن يكسبوا بسهولة مزيداً من المال بأن ينقلوها من حسابات قابلة للتحويل منخفضة العائد إلى صناديق السوق النقدية التي تمنحهم عوائد تتجاوز 5%. وبرغم أن أسواق المال لا تحظى بضمان مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية، فهي عادة ما تستثمر في أصول منخفضة المخاطر وقصيرة الأجل.
أمّا من يستسيغون مخاطرات أشد، فيمكنهم التحول إلى السندات طويلة الأجل وصناديق السندات. حين كانت معدلات الفائدة بالغة الانخفاض، كان المستثمرون يترددون في استثمار الأموال في أصول لا تبشر إلا بعوائد منخفضة. قال نواه دامسكي، المسؤول في شركة "مارينا ويلث أدفايزرز" (Marina Wealth Advisors) في لوس أنجلوس إنه "عند الاختيار بين الأسهم والسندات، كان المستثمرون يفضلون الاستثمار في الأسهم... لقد اتجه المستثمرون بعيداً جداً عن السندات، لدرجة بدت محافظهم أحياناً مقتصرةً على الأسهم".
في الواقع، تكبدت صناديق سندات عديدة خسائر موجعة في السنوات الماضية بما أن القيمة السوقية للسندات القائمة تنخفض حين ترتفع أسعار الفائدة. لكن العوائد عادت قوية حالياً حتى بعد التضخم، ما يمنح المستثمرين شبكة أمان. قال دامسكي: "أسهل بقدر كبير أن تبني محفظة متوازنة إن كان حجم أدوات الدخل الثابت بها كبير... يمكن لمن يقتربون من سنّ التقاعد أن يعودوا إلى محافظ متوازنة، وأن يطمئنوا إلى أن الدخل الثابت سيمنحهم عوائد حقيقية فيما يساعدهم على التحوط من اضطرابات سوق الأسهم".
الأسهم في وضع عجيب
قد لا يبدو التحوّط منطقياً حالياً في ظلّ صعود مؤشر "إس آند بي 500" المتواصل إلى معدلات قياسية هذا العام، على عكس المتوقع عند ارتفاع أسعار الفائدة.
عادة ما يتسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض في تقليص أرباح الشركات وإبطاء النموّ الاقتصادي، كما أن العوائد منخفضة المخاطر التي يحققها المستثمرون من شراء السندات حالياً قد تدفعهم للتردد في دفع أسعار مرتفعة مقابل أسهم ذات مكاسب غير مؤكدة في المستقبل البعيد.
لكن المستثمرين يترقبون مستقبلاً أعظم بكثير، يتجاوز المخاوف اليومية بخصوص أسعار الفائدة، فيما تشهد أسهم التقنية ازدهاراً مع الوعد الذي يحمله الذكاء الاصطناعي بإحداث تغييرات هائلة في الاقتصاد. مثلاً، على الرغم من الانخفاض الأخير في سعر سهمها، فإن شركة "إنفيديا" العملاقة في أشباه الموصلات والأساسية في مجال تطوير الذكاء الاصطناعي، مسؤولة عن أكثر من 32% من الارتفاع الذي بلغ 14% في مؤشر "إس آند بي 500" حتى 28 يونيو من هذا العام. وكانت أكبر عشر شركات قيمةً على المؤشر، وأغلبها شركات تقنية، تشكل نسبة قياسية قدرها 35% من المؤشر.
جاء ازدهار أسهم التقنية مدفوعاً بالأرباح المبهرة، ولكن أيضاً بالقصة الساحرة التي يلعب دور بطولتها الذكاء الاصطناعي. لكن إن تزعزعت الثقة بهذه القصة، فستميد الأرض بهذه الأسهم دات التقييمات السخية.
لكن يصعب التنبؤ بمثل هذه التقلبات في السوق، فقد ثبت أن محاولات توقع اتجاهات السوق تعتبر استراتيجية خاسرة بالنسبة لمعظم المستثمرين. مع ذلك، فإن تركز الأرباح يدفعك على الأقل لمراجعة ما إذا كانت استثماراتك ما تزال متنوعة بالقدر الذي ترغب به، أي إذا ما كانت تشمل أنواعاً أخرى من الأسهم وطبعاً السندات.
إن ارتفاع أسعار الفائدة على الدخل الثابت يجعل محاولة إعادة التوازن للمحافظ التي تضخمت بفعل الأسهم التي ارتفعت قيمتها، أقل وطأة على المستثمر. قال غريغ ماكبرايد، كبير المحللين الماليين في موقع "بانكرات دوت كوم" (Bankrate.com): "بالنسبة للمستثمر الراغب في إعادة التوازن بعد اكتساب أرباح كبيرة من الأسهم، بالأخص أسهم التقنية، فإن هذا الوقت هو الأنسب للاستفادة من عوائد خالية من المخاطر تتجاوز 5% على السيولة".
حال الإسكان أكثر غرابةً
في ظل أسعار الفائدة الحالية، أصبح القسط الشهري لقرض منزلي بقيمة نصف مليون دولار، أعلى بـ1200 دولار عمّا كان عليه مقارنة بالرهون العقارية المتعاقد عليها في 2021. قد يظنّ المرء أن أسعار المنازل ستنخفض في ظلّ الضغط الناجم عن عدم القدرة على تحمّل التكاليف، لكن هذا لم يحصل. كما أن مالكي المنازل المستفيدين من رهون عقارية بفائدة 3% لا يرغبون بالتخلي عنها فيترددون في بيع منازلهم، فيقل المعروض بالتالي.
خلص استطلاع للاحتياطي الفيدرالي في نيويورك هذا العام إلى أن المسـتأجرين يعتقدون أن ثمة احتمالاً يبلغ 60% بألّا يملكوا منزلاً قط، وهي النسبة الأعلى منذ بدء إجراء الاستطلاعات قبل عقد. اليوم، أصبحت تكلفة الإيجار أقل من كلفة امتلاك منزل في المدن الـ35 الكبرى في الولايات المتحدة، باستثناء واحدة، بحسب البيانات الصادرة عن شركة السمسرة العقارية "زيلو غروب" (Zillow Group). فقد أظهرت بيانات أبريل أن ملّاك المنازل يدفعون 35% من دخلهم على السكن، مقارنةً مع 29% في حالة المستأجرين.
مع ذلك، ما يزال امتلاك منزل نافعاً، وأهمّ فوائده توّقي الارتفاعات المستقبلية في الإيجارات (ولكن ليس من ارتفاع ضرائب العقارات). زد على ذلك، أن ثمّة احتمالاً لا بأس به في أن تتمكن من إعادة تمويل قرضك بمعدل فائدة أقل. لكن حتى لو لم يكن ارتفاع أسعار الفائدة كافياً لردعك عن الشراء، فمن الحكمة أن تتنبه أكثر إلى كمّ الأموال التي تنفقها.
ينصح أنتوني سياركيوز، استشاري الثروات ومؤسس شركة "دايناميك فاينانشل بلانينغ" (Dynamic Financial Planning) في سكوتستاديل في أريزونا عملاءه بالتفكير في الموازنة بين التكاليف طويلة الأجل التي تتكبدها ميزانيتهم في حال لم تنخفض الفوائد كثيراً. وقال: "إذا بقيت أسعار الفائدة على ما هي عليه، ستساوي الفائدة التي ستدفعها سعر المنزل على مدى 30 سنة".
فيما يثير ارتفاع قيمة العقارات مع الوقت، كما حصل في السنوات الماضية، حماسة الزبائن تجاه العوائد المحتملة، فإن "كثيرين لا يفكرون بأن عليهم الاستمرار بالامتلاك لفترة طويلة تتراوح بين 20 و30 سنة وما يرافق ذلك من تكاليف صيانة وإصلاحات وتجديدات تقلل بشكل كبير من العائد السنوي".
دفع ضيق سوق الإسكان ببعض الشراة للبحث عن حيل تتيح لهم خفض أقساط الرهن العقاري. وفي هذا السياق، اكتسب أحد الخيارات زخماً، وهو يتمثّل بنوع نادر من القروض تسمح للشاري بالاستحواذ على قرض البائع القائم ومعه نسبة الفائدة. إلا أن الحصول على مثل هذه القروض القابلة للتجيير إلى طرف ثالث ليس سهلاً، فعليك أولاً أن تدفع للبائع ما يكفي من الأموال نقداً تعويضاً عن القيمة التي راكمها نتيجة ملكيته للمنزل، ما قد يتطلب أن تستحصل على رهن عقاري تضيفه إلى ذلك الذي انتقل إليك.
تشمل الخيارات الأخرى الرهون العقارية ذات الفائدة القابلة للتعديل التي تتطلب تسديد الفوائد فقط وليس أساس القرض في السنوات الأولى. وبرغم انخفاض تكاليف هذه الرهون العقارية في المرحلة الأولى، وهي قابلة نظرياً لإعادة التمويل لاحقاً بمعدل فائدة ثابت، إلا أنها مصحوبة بمخاطر أيضاً. فقد لا تنخفض أسعار الفائدة، ما يعرضك لخطر الاضطرار لدفع أقساط أعلى لاحقاً، ومع القروض التي تتطلب تسديد الفائدة فقط في البداية، لن تتمكّن من بناء القيمة الناجمة عن الملكية. (وقع الكثير من ملاك المنازل في أزمات نتيجة الرهون العقارية القابلة للتعديل عند انهيار القطاع العقاري بين 2007 و2008).
تعليقاً على ذلك، قال كيث غومبينغر، نائب رئيس شركة "إتش إس إتش دوت كوم" (HSH.com) المتخصصة بالمعلومات حول الرهون العقارية والقروض الاستهلاكية، إنه من شأن مثل هذه القروض أن تمنح المقترضين مرونة أكبر، لكن البنوك لا تسعّرها بشكل جذاب حالياً.
أضاف: "هناك على الأقل بعض المخاوف من أن تؤدي سياسة الاحتياطي الفيدرالي المتشددة إلى إبطاء الاقتصاد وقد يؤدي ذلك تدريجياً إلى ارتفاع الخسائر على القروض نتيجة التخلف في الدفع في السنوات المقبلة". يجب التعامل مع هذا كمؤشر خطر متوسط الدرجة.