توجِّه تحرُّكات الأسواق المالية الأمريكية الأسبوع الماضي ثلاثة أسئلة صعبة للمستثمرين، وإجاباتها بعيدة كل البعد عن الوضوح، وفي الوقت نفسه لها تداعيات على تخصيص المراكز في المحافظ الاستثمارية.
السؤال الأول: هل الاحتياطي الفيدرالي يفقد السيطرة على سوق السندات؟
سلَّط اجتماع لجنة السوق المفتوح الفيدرالية، الأربعاء الماضي وما تلاه، الضوء على التباين المتزايد بين موقف الفيدرالي السياسي وتطورات الواقع الاقتصادي، ولا يرى المسؤولون في البنك المركزي أي حاجة لتغيير التدابير النقدية فائقة التحفيز برغم رفعهم لتوقُّعات النمو والتضخم بحدَّة، وارتفاع توقُّعات التضخم في السوق لأعلى مستوى في سنوات عديدة، وصعود عائدات السندات، وانحدار منحنى العائد بشدَّة.
وأملاً في مواجهة الضغوط الصعودية على العائدات، أكَّد رئيس الفيدرالي، جيروم باول، يوم الجمعة على رسالة لجنة السوق المفتوح الفيدرالي، وكتب في صحيفة "وول ستريت جورنال" أنَّ "التعافي لا يزال بعيداً عن التحقق، وبالتالي سيواصل الفيدرالي تقديم الدعم الذي يحتاجه الاقتصاد مهما استغرق الأمر".
وهذه الرسالة تضع المستثمرين نوعاً ما في مأزق، فمن ناحية، تبدو مطمئنة لأنَّها تشير إلى أنَّ الفيدرالي مستعدٌّ لأن يقدِّم المزيد من المحفِّزات، وهو موقف يتناسب مع طلبات إعانة البطالة المخيبة للآمال الخميس الماضي، ومن الناحية الأخرى، تعزِّز المخاوف بشأن انتعاش مالي واقتصادي يقود لارتفاع حاد في التضخم، وهي مشكلة تمَّ تسليط الضوء عليها نهاية الأسبوع، عندما حذَّر لاري سامر من السياسة الاقتصادية الكلية "الأقل مسؤولية" خلال الـ40 عاماً الماضية.
السؤال الثاني: ما مدى تعرُّض نموذج السيولة لتقلبات سوق السندات؟
يقدِّم السؤال الأول للمستثمرين خياراً: هل يتعيَّن عليهم الاستعداد للمزيد من التدخل الفعَّال من قِبل الفيدرالي في السوق، حتى إن كان من خلال المشتريات واسعة النطاق أو التحكم المباشر في منحنى العائد، أم يتعيَّن عليهم القلق بشأن كون الفيدرالي أقل قدرة - وليس استعداداً - لكبت عائدات السندات.؟
وللإجابة تداعيات مختلفة تماماً على مقدار المخاطر التي يتحمّلها المستثمرون بدءاً من الاستثمار في المؤشرات السلبية وانتقاء لأسهم بعينها إلى الهيكلة.
وإذا كان الفيدرالي قادراً على القيام بجولة أخرى من القمع الفعَّال لعائدات السندات، ستكون النصيحة للمستثمرين هي مواصلة ركوب موجة السيولة، وغض الطرف في الوقت الحالي عن عدم التناسق المذهل بين سياسة الفيدرالي والتطوُّرات الاقتصادية.
ولكنَّ تآكل قدرة الفيدرالي على الإبقاء على انخفاض العائدات وضبطها قد يؤدي إلى زعزعة نموذج السيولة الذي كان مربحاً للغاية للمستثمرين في الأسهم، ومجموعة واسعة من الأصول الأخرى بغضِّ النظر عن أسسها الكامنة.
وهو ما يخاطر بسحب البساط من فكرة أنَّه لا بديل للأسهم، وفي الوقت نفسه إحباط دوافع الشراء النابعة من تدفُّقات نموذج السيولة الرخيصة، مما سيُضعِّف اتجاه الشراء في وقت التراجع، ومعنويات الخوف من فوات الشيء، وقد ضمنا انعكاس أي تراجع في السوق سريعاً وبشكل حاسم.
السؤال الثالث: ما مدى تعرُّض الاقتصاد للتأثيرات السلبية المحتملة من تقلبات الأسواق؟
يتعلَّق هذا السؤال بشكل مباشر باستجابة الفيدرالي السياسية، على افتراض أنَّ أقوى بنك مركزي في العالم لا تؤثِّر الأسواق المالية على قراراته السياسية.
واستناداً على المؤشرات الحالية، يرجح أن تأتي مخاطر التقلُّبات السوقية في المركز الثالث بعد كوفيد، وتصميم السياسات الاقتصادية الكلية، وبمعنى أدق، إذا فشل الاقتصاد الأمريكي في تحقيق توقُّعات النمو التي تتراوح بين 6% إلى 7% لعام 2021، فإنَّ ذلك سيكون على الأرجح نتيجة موجة ثالثة من عدوى كوفيد (مثلما يحدث في أجزاء من أوروبا والعالم النامي) أو نتيجة حادثة سياسية.
وبقدر ما فكرت في تلك الأسئلة الثلاث، فشلت في الوصول لإجابات محددة، وأعتقد أنَّ ذلك يعود لسبب وجيه، وهو أنَّها تنطوي على تحدٍّ مزدوج يتمثَّل في التنبؤ بعقلية الفيدرالي (العالق حالياً في وضعية القصور الذاتي النشط)، ونفسية الأسواق (التي
لا تزال معتادة بشدَّة على السنوات القليلة الماضية من السيولة الوفيرة)، وبعد أن قلت كل ذلك، أميل شخصياً إلى:
المخاطر كبيرة ومتزايدة لدرجة أنَّ الفيدرالي سيكون أقل قدرة على ترويض سوق السندات في أي وقت قريب، نظراً لأنَّ الوسيلة الأكثر ترجيحاً للقيام بذلك - التحكم في منحنى العائد - تأتي مع مجموعة من المخاطر الكبيرة على أداء السوق، وإشارات التسعير الفعَّالة، وتخصيص الموارد الداعم للإنتاجية، والنمو عبر الاقتصاد.
وعلاوةً على ذلك، قد يكون نموذج السيولة الوفيرة والمتوقَّعة في خطر أيضاً، وهو ما يهدد موجة المكاسب التي ركبها مستثمرون كثر بنجاحٍ شديد حتى الآن.
وأخيراً، تبدو تهديدات التأثيرات السلبية على الاقتصاد محدودة برغم تفاقم الانفصال بين "وول ستريت" والاقتصاد الحقيقي في السنوات الماضية.