انتهت عطلتنا من التاريخ. لا أشير هنا إلى السلام العالمي، ولكن إلى بيئة "صفر فائدة" التي توقع كثيرون أن تستمر للأبد. وعلى الرغم من كل الحديث الدائر عن الموعد الذي سيبدأ فيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خفض أسعار الفائدة بما يعيد أجواء "العطلة" هذه، فهناك احتمال حقيقي للغاية بأن موعد حدوث التخفيضات أو عددها لن يكون ذا بال.
ذلك لأن أسعار الفائدة التي تهم قطاعات كثيرةً من الاقتصاد -أذون الخزانة الأميركية الأطول أجلاً- قد لا تكون أعلى فقط لفترة أطول، وإنما أعلى إلى الأبد. وهذا يعني حقبة جديدة ليس فقط للاستثمار، ولكن للاقتصاد أيضاً.
وفي حين أن الاحتياطي الفيدرالي يمارس السيطرة على سندات الخزانة القصيرة الأجل، فإن هناك تبايناً إزاء مدى تأثيره على الأطول أجلاً.
السندات والاقتصاد الكلي
السندات لأجل 10 سنوات هي ما يهم في كيفية حساب تكلفة رأس المال وأسعار الفائدة التي يواجهها المستهلكون. ويميل العائد على هذه السندات إلى أن يكون مدفوعاً بعوامل الاقتصاد الكلي: آفاق النمو والتضخم، والطلب العالمي والمحلي على الأصول الأميركية الآمنة، وعادةً، الديون الطويلة الأجل للحكومة الفيدرالية.
لكن دخلت سوق السندات حقبةً جديدةً على ما يبدو. وبغض النظر عن البيئة الاقتصادية، انخفضت العوائد وارتفعت الأسعار في المقابل: فقد كانت سوقاً صاعدةً لفترة طويلة. وكان مرد ذلك إلى حد ما انخفاض التضخم، والطلب المستمر على الديون الأميركية من الحكومات الأجنبية، واللوائح المختلفة التي جعلت من السندات الأميركية أكثر الأصول أماناً في العالم.
لكن السندات ليست كالأسهم، حيث يمكن أن تنخفض العوائد بشدة فقط-فلن يشتري أحد سنداً يوفر عائداً -8%. وفي العقد الثاني من الألفية الحالية، حومت المعدلات الحقيقية حول 0%، على الرغم من أن الحكومة كانت تراكم الديون والإقبال على الديون الأميركية يتراجع بين مشتريها الأكثر موثوقية. ولكن ربما كان هذا أمراً شاذاً. فالأبحاث المتعلقة بالعائد على السندات لأجل 10 سنوات والتي يعود تاريخها إلى عام 1300 (بداية أول تداول للأوراق المالية في العالم بمدينة البندقية الإيطالية) تظهر كيف يتراجع عندما يصبح العالم أكثر أماناً وتتوسع الأسواق المالية وتزداد أصولها. وفي الوقت نفسه، كان لدى سوق السندات دائماً فترات من الارتفاع والانخفاض، وتميل العوائد نحو التوسط.
عودة العوائد للارتفاع
كانت السنوات العشر الماضية واحدة من تلك الفترات المنخفضة. واليوم، من المحتمل أن تدفع قوى الاقتصاد الكلي العوائد لمعاودة الارتفاع إلى 4% أو أكثر. فبيئة التضخم الأعلى والأكثر تقلباً تعود. والحكومة مضطرة لإصدار المزيد من الديون لدفع تكاليف رعاية سكان يتقدمون في العمر وسياسة صناعية طموحة. كما أن "الردة عن العولمة" سوف تضعف الطلب على الأصول الأميركية.
باختصار، سيكون هناك المزيد من الديون، وسيكون ذلك أكثر خطورةً. وهذا يعني أنه سيكون هناك طلب أقل. وحتى إذا انخفضت العوائد على المدى القصير، فهناك فرصة جيدة لأن تستقر عند مستوى أعلى.
وهذا من شأنه أن يغير كل شيء نعرفه عن الاقتصاد. فقد أعلن بيل غروس، الرجل الذي حقق ثروةً طائلةً من إدارة صناديق سندات خلال واحدة من أعظم فترات السوق الصاعدة في التاريخ، أن استراتيجيته "ماتت". غير أن زميلي في قسم "بلومبرغ أوبينيون" آرون براون يذهب على نحو مقنع إلى أنه لا تزال هناك أسباب جيدة للاستثمار في السندات، ولكن من المحتمل أن يكون غروس محقاً في أنه لم يعد من المنطقي أن ننظر إلى السندات على أنها وسيلة تحوط وفي الوقت نفسه مصدراً لعوائد دائمة الارتفاع.
وبالنظر إلى الماضي، يبدو من الواضح أن هذا لن يدوم. لكن سوق السندات في العقود القليلة الماضية جعلت من الممكن الاعتقاد بأننا عشنا في عالم بلا مفاضلات. فالحكومات كان بإمكانها إما أن تقترض المال للإنفاق أو تخفض الضرائب. فصناديق رأس المال الجريء والأسهم الخاصة، التي تعج بالسيولة سعياً للحصول على عائد إيجابي، لم تكن تهتم للغاية بالوجهة التي تستثمر فيها. فأسعار الفائدة المنخفضة رفعت تقييمات الأسهم. وأمكن للشركات الاستدانة والتوسع دون قلق من كيفية السداد.
تكلفة الفرصة البديلة
أما عودة بيئة ارتفاع أسعار الفائدة فتعني أن الاستثمار سيحظى مرة أخرى بالمزيد من تكلفة الفرصة البديلة لكنه سيواجه خطراً سلبياً يتمثل في الاختلاف بين العائد الفعلي والمتوقع أو عدم التأكد من العائد الفعلي.
لكن الأمر ليس سيئاً على طول الخط. فمعدلات الفائدة الأعلى لا تعني بالضرورة استثماراً أقل. فعلى سبيل المثال، حدثت بعض فترات التاريخ الأكثر قوة وإنتاجية عندما كانت المعدلات أعلى مما هي عليه الآن. وسوف تشجع بيئة كهذه علاقةً أكثر صحية ًمع المخاطر. وعوائد السندات هي الأساس لكيفية تقييم المخاطر وقياسها، فيما شوّهت بيئة تنخفض فيها هذه العوائد إلى الصفر علاقتنا بها.
وعلى الرغم من أن معدلات الرهن العقاري والفوائد على قروض السيارات والائتمان الشخصي ستكون أعلى، فهناك بعض الفوائد للمستهلكين. وسيحصل المدخرون مرة أخرى على عائد إيجابي للاستثمار في الأصول المنخفضة المخاطر؛ على الأقل قبل حساب التضخم. وسيكون أكبر المستفيدين هم المتقاعدون، الذين دفع معظمهم قروضهم العقارية ولديهم المزيد من الأصول. وستعني العوائد الأعلى أن أموالهم ستزداد خلال التقاعد. وبالنسبة لقطاع واحد على الأقل من السكان، فإن العودة إلى الحياة الحقيقية بعد العطلة لن تكون مؤلمة للغاية.