بلومبرغ
كان الوضع قاتماً وكئيباً في كل أنحاء "وول ستريت"، في مقصورات تداول الأسهم والسندات، في الشركات العملاقة والشركات المتخصصة. حدث هذا في نهاية 2022، وبدا أن الجميع يتأهبون للركود الذي كانوا يعتقدون أنه قادمٌ لا محالة.
في "مورغان ستانلي"، كان مايك ويلسون، المحلل الاستراتيجي الذي رجّح انخفاض الأسهم والذي حاز شهرة كبيرة في السوق، يتوقع قرب هبوط مؤشر "إس آند بي 500". وعلى بعد بنايات سكنية قليلة في "بنك أوف أميركا"، كانت ميغان سوايبر وزملاؤها يطالبون العملاء بالاستعداد لانخفاض عائدات سندات الخزانة. وفي "غولدمان ساكس"، كان المحللون الاستراتيجيون، ومنهم كاماكشيا تريفيدي، يحثون على زيادة الاستثمار في الأصول الصينية، حيث تعافى الاقتصاد هناك أخيراً من الإغلاقات إبان الجائحة.
صاغت "وول ستريت" حينها إجماع الآراء بمزج تلك التوقعات الثلاثة معاً، أي بيع الأسهم الأميركية، وشراء سندات الخزانة، والأسهم الصينية.
إخفاق شامل للتوقعات
مرة أخرى، كان الإجماع خاطئاً تماماً؛ فما يُفترض صعوده هبط، أو استقر سعره نسبياً، وما كان يُنتظر انخفاضه ارتفع أكثر فأكثر. صعد مؤشر "إس آند بي 500" بأكثر من 20%، وارتفع مؤشر "ناسداك 100" بما يزيد عن 50%، ما تعد أكبر زيادة على أساس سنوي منذ فترة فقاعة "الدوت كوم".
يعد ذلك دليلاً، في المقام الأول، على كيف واصلت القوى الاقتصادية التي أُطلق لها العنان خلال الجائحة، أي -بشكل أساسي- زيادة طلب المستهلكين الذي عزز النمو ورفع معدل التضخم معاً، إبهار أمهر وألمع خبراء التمويل، فضلاً عن دوائر صنع السياسات في واشنطن والخارج.
الأسهم الأميركية تختتم 2023 بأطول مكاسب أسبوعية منذ 2004
كما وضع ذلك مروجي البيع، كما يُعرف المحللون المرموقون في "وول ستريت"، في موقف محرج أمام المستثمرين في أنحاء العالم الذين يدفعون مقابلاً للحصول على آرائهم ومشوراتهم.
أندرو بيس، مدير المحللين الاستراتيجيين للاستثمار بشركة "راسل إنفستمنتس" (Russel Investmnets) التي تدير أصولاً تقارب قيمتها 290 مليار دولار، قال: "لم أرَ قط إجماع توقعات خاطئ بهذه الدرجة كما حدث في 2023. بالنظر إلى مروجي البيع، فقد أخفقوا كلهم".
فخ الركود ورفع الفائدة
تغلّب مديرو الأصول في شركات مثل "راسل" على الصعوبات ونجحوا في تقديم نتائج طيبة، فحققوا أرباحاً في الأسهم والسندات التي تجني مكاسب أكبر قليلاً من التي تحققها المؤشرات المرجعية. للتوضيح، لم تصب توقعات "بيس" كما حدث مع أكبر مروجي البيع. وكان السبب الرئيسي لخطئه نفس مبررهم؛ إحساس مُلح بأن الولايات المتحدة تقترب من الوقوع في الركود، وكذلك أغلب دول بقية العالم.
كان هذا منطقياً، فالاحتياطي الفيدرالي الأميركي كان في منتصف أعنف حملة لرفع أسعار الفائدة في عقود، وبدا تراجع إنفاق المستهلكين والشركات أمراً مؤكداً.
لماذا أخفق اقتصاديون كثر حين توقعوا ركوداً؟
مع ذلك، كانت الإشارات على ذلك قليلة حتى الآن. فعلياً، تسارعت وتيرة النمو هذا العام مع تراجع التضخم. أضف إلى ذلك المزيد من بعض التقدم المحرز في الذكاء الاصطناعي، الموضوع الرائج الجديد في عالم التكنولوجيا، وستحصل على الخليط المناسب لسوق أسهم صاعدة.
شهد العام بداية مدوية، فارتفع مؤشر "إس آند بي 500" 5% في يناير وحده، وبحلول منتصف العام، بلغ ارتفاعه 16%، وفي ذلك الوقت، عندما سبب تباطؤ التضخم تفشي التكهنات بأن يبدأ الاحتياطي الفيدرالي عكس مسار رفع أسعار الفائدة قريباً، تسارعت وتيرة الصعود مجدداً في نوفمبر، ليقترب المؤشر من مستوى قياسي.
رغم كل ذلك، ظل "ويلسون"، مدير المحللين الاستراتيجيين للأسهم الأميركية لدى "مورغان ستانلي"، على موقفه. فقد أصاب تكهنه بتدهور سوق الأسهم في 2022، الذي لم يتوقعه غيره إلا القليل، وساعد ذلك في حصوله على تصنيف أفضل محلل استراتيجي لمحفظة استثمار لعامين متتاليين في استطلاعات الرأي التي أجرتها دورية "إنستيتيوشنال إنفستور" (Institutional Investor). تمسك "ويلسون" بذلك التوقع المتشائم وقال، في مطلع 2023، إن الأسهم ستهبط بحدة لدرجة أن حتى في حال ارتفاعها في النصف الثاني من العام، سينتهي بها المطاف بلا تغيير ملحوظ.
تزايد المتشائمين
فجأة انضم إليه كثيرون أيضاً، فموجة البيع الكثيف التي حدثت في العام الماضي، نتيجة رفع أسعار الفائدة، أثارت ذعر المحللين الاستراتيجيين. وبحلول مطلع ديسمبر الماضي، كانوا يتوقعون انخفاضاً آخر في أسعار الأسهم خلال العام الجديد، بحسب متوسط توقعات من استطلعت "بلومبرغ" آراءهم. لم يُسجل هذا النوع من إجماع التوقعات المرجحة للهبوط خلال 23 عاماً على الأقل. وأذعن لها حتى ماركو كولانوفيتش، المحلل الاستراتيجي لدى "جيه بي مورغان تشيس"، الذي أصر خلال أغلب عام 2022 على أن الأسهم كانت على أعتاب الارتفاع. استمرت تلك الميول القاتمة في العام التالي، وأشار متوسط التوقعات إلى عدم تحقيق مؤشر "إس آند بي 500" أي مكاسب تقريباً.
السوق مقتنعة بأن الفيدرالي سيخفض الفائدة العام المقبل
"ويلسون"، الذي أصبح الممثل العلني لمرجحي الهبوط، كان مقتنعاً بقرب تدهور أرباح الشركات كما حدث في 2008. وبينما راهن المتداولون على أن تراجع التضخم سيفيد الأسهم، حذّر "ويلسون" من العكس، مشيراً إلى أن ذلك سيقلص هوامش أرباح الشركات في الوقت الذي تباطأ فيه الاقتصاد.
في يناير، قال إن حتى إجماع توقعات "وول ستريت" المتشائم كان مفرطاً في التفاؤل، وتوقع أن ينخفض مؤشر "إس آند بي" بأكثر من 20% قبل أن يعاود ارتفاعه في نهاية المطاف. وبعدها بشهر، حذّر العملاء من أن معدل العائد إلى المخاطر عند أدنى مستوياته مثلما يحدث في أي وقت خلال هذه السوق الهابطة. وفي مايو، عندما ارتفع المؤشر بنحو 10% خلال العام، حث المستثمرين على عدم الانخداع، وقال: "هذا ما يحدث في السوق الهابطة، إنها مصمّمة لخداعكم، وإرباككم، وإرغامكم على فعل ما لا تريدون".
رفض "ويلسون" طلبات إجراء حوار معه لهذا التقرير.
5 موضوعات جديرة بالمتابعة تؤثر على الأسهم الأميركية في 2024
انتشر رأي مشابه بين خبراء السندات المخضرمين. ارتفعت عائدات سندات الخزانة في 2022، بعدما أنهى الاحتياطي الفيدرالي سياسة أسعار الفائدة القريبة من الصفر، ورفع تكاليف الاقتراض على المستهلكين والشركات. كان كل ذلك يحدث بسرعة شديدة، وساد الاعتقاد أن شيئاً ما لا بد أن ينهار في قطاع ما بالاقتصاد، وسيدفعه إلى حالة ركود. وعندما يحدث ذلك، سترتفع السندات، حيث سيسارع المستثمرون إلى أصول الملاذ الآمن، وسيهب الاحتياطي الفيدرالي لإنقاذ الوضع بالعودة إلى التيسير النقدي.
لذلك، توقعت "سوايبر" وزملاؤها في فريق استراتيجية أسعار الفائدة بمصرف "بنك أوف أميركا"، مثل الأغلبية العظمى من المحللين، أن يجني مستثمرو السندات، الذي تكبدوا لتوهم أسوأ خسارة سنوية في عقود، مكاسب كبيرة. كان المصرف ضمن قلة من المؤسسات التي طالبت بخفض معدل العائد الأساسي على السندات لأجل 10 سنوات حتى 3.25% بنهاية 2023.
في لحظة ما، بدا أن ذلك سيحدث قريباً. ووقع الانهيار بالفعل، أفلس مصرف "سيليكون فالي بنك" وحفنة من البنوك الأخرى في مارس بعد تكبد خسائر طائلة في الاستثمارات ثابتة العائدة، نتيجة رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، واستعد المستثمرون لتصاعد الأزمة التي ستعيق النمو الاقتصادي. هبطت الأسهم وارتفعت السندات، لينخفض عائد السندات لأجل 10 سنوات إلى أقل من مستهدف "بنك أوف أميركا"، وقالت "سوايبر": "كانت الفكرة أن ذلك سيمثل رياحاً مواتية لهذا التوقع الذي يشير إلى هبوط أكثر حدة".
اقتصاد الصين يخالف التوقعات
لكن الذعر لم يدُم، فتمكن الاحتياطي الفيدرالي من احتواء الأزمة، واستأنفت العائدات ارتفاعها المستقر طوال فصل الصيف وفي مطلع الخريف مع عودة معدل النمو للتسارع. تعافي سندات الخزانة في أواخر العام خفّض معدل العائد على السندات لأجل 10 سنوات إلى 3.8% مرة أخرى، ما يقارب المعدل الذي كان عليه في الفترة نفسها قبل عام.
قالت "سوايبر" إن العام كان بمثابة درسٍ في التواضع، ليس لها وحدها، بل للمحللين بوجه عام.
في الوقت نفسه، تلقت "وول ستريت" درساً آخر في التواضع بالأسواق الخارجية، حيث ارتفعت الأسهم الصينية خلال آخر شهرين في 2022 مع إنهاء الحكومة قيود الجائحة. ومع فتح اقتصادها، توقع المحللون الاستراتيجيون في "غولدمان ساكس" و"جيه بي مورغان" وبنوك أخرى أن تقود الصين قاطرة تعافي أسهم الأسواق الناشئة.
"غولدمان" يعيد النظر بالأسواق الناشئة بعد درس صيني مؤلم
"تريفيدي"، مدير الاستراتيجية العالمية للعملات وأسعار الفائدة والأسواق الناشئة بمصرف "غولدمان ساكس" في لندن، أقر بأن الأمور لم تسر على النحو المتوقع. فتعثَر ثاني أكبر اقتصاد في العالم في ظل تفاقم أزمة العقارات وتزايد المخاوف من الانكماش. وبدلاً من التهافت، تخارج المستثمرون، لتهبط أسعار الأسهم الصينية وتجر معها المكاسب على مؤشرات الأسواق الناشئة.
قال "تريفيدي" إن "الدفعة التي قدمتها إعادة فتح الاقتصاد تلاشت بسرعة شديدة، كان التأثير الإيجابي الصافي من إعادة الفتح ضئيلاً، ولم نشهد تعافي النمو من النوع نفسه الذي شهدناه في أنحاء أخرى من العالم".
دروس مستفادة
في غضون ذلك، واصلت سوق الأسهم الأميركية مخالفة المتشائمين.
بحلول يوليو، اعترف "ويلسون" بأنه ظل متشائماً لفترة أطول مما يجب، وقال: "أخطأنا في عدم توقع أن تقييمات الأسهم قد ترتفع مع تراجع التضخم وخفض الشركات للتكاليف". رغم ذلك، لا يزال متشائماً إزاء أرباح الشركات، وقال لاحقاً إن ارتفاع أسعار الأسهم في الفصل الرابع أمر مستبعد.
رغم أن الاحتياطي الفيدرالي أبقى أسعار الفائدة دون تغيير للمرة الثانية في اجتماع بداية نوفمبر، إلا أن ذلك سبب صعوداً محموماً في الأسهم والسندات معاً. وتسارعت وتيرة المكاسب هذا الشهر بعد إشارة صُناع السياسة النقدية إلى انتهائهم من رفع أسعار الفائدة أخيراً، ما دفع المتداولين إلى توقع خفض أسعار الفائدة عدة مرات في العام المقبل.
أخطأت الأسواق بشكل متكرر في توقع هذا التحول الجذري خلال العامين السابقين، وربما يكررون هذا الخطأ حالياً.
تتسلل الشكوك إلى بعض مروجي البيع في "وول ستريت". قال غيناديي غولدبرغ، الذي يشغل حالياً منصب مدير استراتيجية أسعار الفائدة الأميركية بشركة "تي دي سيكيورتيز" (TD Securities)، إنه وزملاءه قاموا بقدر من محاسبة النفس مع اقتراب نهاية العام. كانت "تي دي" إحدى الشركات التي توقعت مكاسب هائلة للسندات في 2023. وأضاف "غولدبرغ": "المهم أن تتعلم من أخطائك".
ما الذي تعلّمه "غولدبرغ"؟، أن الاقتصاد أقوى بكثير وأشد استعداداً للتعامل مع أسعار الفائدة المرتفعة عما توقَع. ومع ذلك، فإنه لا يزال مقتنعاً بأن الركود قريب، وسيحدث في 2024، وعندما يحدث سترتفع السندات.