بلومبرغ
تقترب منصة جديدة لتوسيع نطاق وصول اليوان الرقمي الصيني والعملات الرقمية الأخرى الصادرة عن بنوك مركزية من الظهور على أرض الواقع، ما أذهل بعض المدافعين عن نظام يهيمن عليه الدولار الأميركي منذ أمد بعيد.
يحرز النموذج الرقمي المدعوم من بكين لإرسال الأموال حول العالم دون الاعتماد على المصارف الأميركية تقدماً بسرعة هائلة، حتى أن بعض المراقبين الأوروبيين والأميركيين يعتبرونه حالياً منافساً صاعداً لنظام المدفوعات الذي يهيمن عليه الدولار على صعيد التمويل العالمي.
بنك التسويات
أوضح جوش ليبسكي، مدير مركز "جيو إيكونوميكس" (GeoEconomics Center) التابع لمؤسسة المجلس الأطلسي (Atlantic Council)، أن ما "أذهل" واشنطن هو تبلور مشروع "إم بريدج" في بنك التسويات الدولية بسرعة.
وأضاف: "ربما يبدو الأمر عند النظر له على حدة غريباً، لأن هذا المشروع يثير تساؤلات حول طموحات الصين للحد من الاعتماد على أنظمة التسوية القائمة على الدولار، لكن بكين -على غرار العشرات من البنوك المركزية الأخرى- تتعاون مع بنك التسويات الدولية نظراً لأن هذا هو مكان إجراء بعض أكثر البحوث تطوراً في هذا المجال".
من جانبه، بين روس ليكو، نائب رئيس مركز "إنفوفيشن هاب" (Innovation Hub) التابع لبنك التسويات الدولية ومنسق المشروع، أنه ليس هناك جدول زمني حتى الآن لوضع نظام تشغيلي عقب الانتهاء من المرحلة الحالية من التطوير، مشيراً إلى أن الخطوة المقبلة هي تحديد قدرة النموذج الأولي على امتلاك الحد الأدنى من مقومات المنتجات القابلة للتطبيق.
رغم ذلك، يعد نظام "إم بريدج" متقدماً حتى أن صندوق النقد الدولي استضاف مناقشات في أبريل الماضي حول سبل وضع منصة مهمة من هذه النوعية بنهاية الأمر تحت سيطرة وإشراف منظمة دولية، بحسب أشخاص على دراية بالموضوع، طلبوا عدم الإفصاح عن هوياتهم نظراً لخصوصية المعلومات. وأوضح أحد الأشخاص أن صندوق النقد الدولي يسعى لتفادي تحول المشروع من حل تكنولوجي لأداة جيوسياسية.
رداً على أسئلة مكتوبة، قال فيديريكو غرينبيرغ، كبير خبراء الاقتصاد بقسم النقد وأسواق رأس المال لدى صندوق النقد الدولي، إنه لا يعتزم إخضاع أي منصة قائمة للرقابة أو الإشراف الدولي، مضيفاً أن مناقشات الربيع الماضي كانت ذات طبيعة "تكنولوجية" ولا يُقصد بها "إم بريدج" بصفة خاصة.
وتابع أن "صندوق النقد الدولي يعتقد أنه من الضروري مشاركته بما يتمتع به من عضوية واسعة النطاق في هذا النقاش، مع الأخذ بعين الاعتبار الفوائد الهائلة بالنسبة لتحسين نظام المدفوعات عبر الحدود للدول الناشئة ومنخفضة الدخل".
تنشط عمليات البحث في مجال تدفق الأموال الرقمية لأن نقل النقود عبر الحدود ما يزال مرهقاً. وتتطلب التحويلات مجموعة منظمة من المراسلات بين المصارف الخاصة والبنوك المركزية التي تطلق كل خطوة وتؤكد عليها في أثناء العملية نفسها.
رغم أن هناك معاملات عديدة يمكن تسويتها خلال ساعة، قد يحتاج بعضها أياماً، لا سيما إذا كانت تتضمن دولاً وعملات أصغر. وتستخدم الشركات حول العالم الدولار إلى حد كبير، نظراً لما يتمتع به من سيولة وقيمة مستقرة نسبياً.
الرقابة الأميركية
توفر رقابة الولايات المتحدة للنظام المالي العالمي الحالي مزايا اقتصادية وسياسية كبرى. يعني ذلك، من بين أشياء أخرى، أن نسبة هائلة من التدفقات المالية عبر الحدود ينبغي لها أن تمر عبر المصارف المرخصة في الولايات المتحدة الأميركية الخاضعة لإجراءات التنظيم الأميركية ونظام العقوبات والمنظومة الضريبية.
لكن نقل الدولارات عبر الحدود تكون عملية صعبة، إن لم تكن معقدة، مثلها مثل التحويلات الأخرى. ومن المعتاد أن تتم التسوية في أثناء ساعات العمل الرسمية في الولايات المتحدة الأميركية ويمكن تأجيلها جراء وجود عطلة في أي من البلدان المعنية، ما يمنح فرصة لمنصة على غرار "إم بريدج"، وهو مسمى مختصر يعني جسراً متعدداً للعملات الرقمية الصادرة عن بنك مركزي لاستبدال هذا النظام.
وتركز الفكرة الرئيسية في "إم بريدج" على أنه إذا جرت معاملات عبر منظومة رقمية تعمل بواسطة تكنولوجيا بلوكتشين، فقد تكون العملية أسهل كثيراً.
تحويلات ضخمة
يبين تقرير مشروع "إم بريدج" أن تمويل التجارة يأتي من بين أكبر الاستخدامات المتوقعة للنظام الجديد، إذ تتدفق سلع وخدمات قيمتها 564 مليار دولار بين الأطراف المشاركة.
يهدف ذلك إلى تمكين التحويلات الضخمة الخاصة بالمؤسسات المالية ومعاملات الصرف الأجنبي بطريقة مباشرة بين المصارف التجارية المشاركة بعد استبدال النقد بعملة رمزية في بنكها المركزي. وباستخدام تكنولوجيا قاعدة البيانات الموزعة -مثل الأصل الذي تعمل عليه "بتكوين"- يمكن إتمام هذه المعاملات بطريقة فورية تقريباً، في أي وقت أو يوم من أيام الأسبوع.
خلال أغسطس وسبتمبر السنة الماضية، أجرى شركاء "إم بريدج" والمصارف التجارية في بلدانهم عملية تجريبية لتسهيل 160 معاملة تقريباً قيمتها الإجمالية 22 مليون دولار، بحسب أحدث تقرير للمشروع.
باستخدام هذا النظام، يمكن لشركة في الصين أن تدفع لبائع في الإمارات العربية المتحدة عن طريق حصولها على رمز لليوان الرقمي من أحد المصارف التجارية بالتعاون مع بنك الشعب الصيني على منصة بلوكتشين "إم بريدج" أو قاعدة البيانات الموزعة. وقد يسجل هذا الرمز هناك بعد ذلك خلال ثوان فقط في مصرف البائع في الإمارات العربية المتحدة، والذي بدوره سيودع الأموال بحساب البائع بالعملة المحلية الدرهم.
بحسب شخصين مطلعين مباشرة على المشروع، فإن الأساس التكنولوجي لـ"إم بريدج" مُصنف على أنه تابع لمنصة بلوكتشين صينية.
عارض ليكو هذا التصنيف باعتبار أن المشروع جهد جماعي، وقال إنه جرى "وضع قواعد بيانات موزعة عديدة باستخدام مدخلات من البنوك المركزية الأربعة" وبنك التسويات الدولية. مضيفاً أن الجانب التطبيقي "لن يقبل التوسع من قبل أي طرف دون مشاركة الآخرين".
أشار أيضاً إلى أن "كل مصرف تجاري منخرط في المشروع ويشارك في الاختبار على منصة "إم بريدج" ملزم بالامتثال للقوانين واللوائح المطبقة، بما فيها تلك المرتبطة بالامتثال الضريبي ومنع غسيل الأموال وإنفاذ العقوبات".
ويشتمل المشروع على ما يصل إلى 23 جهة مراقبة دولية، من بينها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي، بحسب بنك التسويات الدولية.
أيام في مقابل ثوان
في حال اعتمادها وتشغيلها، فإن "إم بريدج" ستمكن المصارف التجارية في أي دولة من الحصول على عملة صادرة عن البنك المركزي لدولة أخرى بدلاً من الاضطرار للمرور عبر وسطاء أو مصارف المراسلة. ورغم تحذير المعارضين من أن ذلك سيعطي الأطراف فرصة أفضل لتجنب التعامل بالدولار والتحايل على العقوبات أو الضرائب، إلا أن الداعمين للفكرة يرون أن هيكل النظام سيجعلها أكثر كفاءة وأقل تكلفة بطريقة كبيرة.
قال البنك المركزي التايلندي إن "إم بريدج" قد تقلص المدة الزمنية للتحويل العابر للحدود من 5 أيام إلى "ثوان معدودة"، بحسب رد عن طريق البريد الإلكتروني على أسئلة من بلومبرغ. كما أنه "سيقدم منافعَ أكثر للمستخدمين النهائيين والمصارف التجارية في حال انضمام مزيد من البلدان".
امتنعت وزارة الخزانة الأميركية، التي تراقب الامتثال للعقوبات، والبيت الأبيض وبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، اللذان يوجهان السياسة النقدية ويراقبان نظام مدفوعات البلاد، عن التعليق على عواقب المشروع.
وأوضح إسوار براساد، الأستاذ في جامعة "كورنيل" ومؤلف كتاب "مستقبل المال"، أن الحكومة الأميركية تبدو واثقة من تفوق الدولار ولا يوجد سبب وجيه للشعور بالقلق حتى الآن.
تأثير محدود
تابع: "قد تحد المبادرات من هذا النوع بقدر طفيف من هيمنة الدولار باعتباره عملة دفع دولية، لكن العملة الصينية ستبقى في وضيعة أقل كثيراً من أن تسمح لها بمنافسة الدولار بقوة".
كما أشارت أنانيا كومار، المسؤولة بالمجلس الأطلسي، في مقال لها نُشر أبريل الماضي ويناقش طموحات العملة الرقمية للصين، إلى وجود عقبات محددة قد تقيد تأثير "إم بريدج"، على غرار حجم سيولة اليوان.
ويظل ما سيحدث لـ"إم بريدج" بمجرد انتهاء مرحلة التطوير أمراً غامضاً. استخدمت البنوك المركزية المشاركة التكنولوجيا المصممة في مشروعات سابقة لـ"إنفويشن هاب" التابع لبنك التسويات الدولية لصنع منتجاتها الخاصة، مثل العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي لاستخدامات المؤسسات المالية، التي يعتزم البنك الوطني السويسري تدشينها.
لكن ليست هناك خطة معينة لما سيجري في حال بات تشغيل النظام الجديد سبباً في إثارة الجدل السياسي.
أكد بنك التسويات الدولية أن رئيسة الوحدة العالمية لمركز "إنفويشن هاب"، سيسيليا سكينغسلي، زارت مؤخراً الصين وهونغ كونغ وسنغافورة لإجراء محادثات مع البنوك المركزية حول المشاركة في نظام "إم بريدج". أوضح ليكو من بنك التسويات الدولية أن التكليف الأساسي للمركز هو اختبار التقنيات وتعميم النتائج ونشر الدروس المستفادة وسط مجتمع البنوك المركزية.
واختتم: "نبرز الاحتمالات القائمة على التكنولوجيا، والأمر في نهاية المطاف خاضع لتقدير السلطات الوطنية لتقرير مواصلة التطوير أو تنفيذ حلول تكنولوجية محددة".